فضاءات

حوارية جديدة لمنتدى الحوار الثقافي العراقي في ستوكهولم

استكمالا لما طرحه منتدى الحوار الثقافي العراقي في ستوكهولم في حواريته السابقة التي عقدت في 24 / 10 / 2015 وركز البحث فيها حول صراع الهويات العراقية، وشخصت أكثر المداخلات الظروف الذاتية والموضوعية، تأثير العوامل الداخلية والخارجية، الطبيعة الجغرافية والتاريخية، العوامل النفسية والثقافية، كمسببات للشروخ الواسعة التي صيرت الصراع وساعدت على استشراءه، ليكون في الوقت الراهن وعند البعض تنكرا مجحفا للانتماء التاريخي والاجتماعي، وللقيم والعيش المشترك، ورضوخ سوداوي بانعدام الجامع وقبول الأخر، وإن الوطن يدخل مرحلة الاحتضار ولن ينقذه غير التقسيم.
وعلى وفق تلك الحيثيات عقدت حوارية جديدة يوم 28 / 11 / 2015 على أحدى قاعات المكتبة المركزية في منطقة شيستا وسط العاصمة ستوكهولم حضرها نخبة من المهتمين والمثقفين وأدارتها بتميز ودراية ونجاح السيدتان وفاء فرج وميلاد خالد.
كان صلب الحوار الذي أمتد لأكثر من ثلاث ساعات قد ركز حول سؤال محدد وهو : ما هي قدرة الإنسان العراقي على صناعة وتشكيل أو إعادة بناء هويته الوطنية الموحدة ؟ الكيفية، القدرات ، الدوافع ، الغايات.وأن تؤخذ وقائع الوقت الراهن الذي يمر فيه العراق كمسبب لاستشراء الإمراض السياسية والمجتمعية التي طعنت وتطعن في الهوية الوطنية وتدفع لاضمحلالها. وفي صلب هذه الموضوعة خاض جميع الحضور غمار الإجابة على السؤال، وقدموا تصوراتهم واستنتاجاتهم عن هوية عراقية ممكن تشكيلها في دولة يعاد بنائها من جديد بعد أن عمل المحتل الأمريكي على تفكيكها وجارته بعض التكوينات السياسية والمجتمعية العراقية.
تطرق المتحدثون إلى جملة محاور حاولت الاقتراب و الإجابة على السؤال الخاص بالحوارية، لذا قدم البعض تصوراته مكتوبة والبعض الأخر ناقشها شفاها . وتلخيصا لما طرح فقد أشار البعض إلى إن ظاهرة الانقسامات الطائفية والعرقية التي يعيشها العراق الآن هي تعبير عن أزمة وعي وغياب الفهم الصحيح للدين وللهوية الوطنية والقومية ، فمسألة الهوية هي قضية سياسية - اقتصادية - ثقافية - اجتماعية - تاريخية رافقت مراحل تأسيس الدولة العراقية لحد اليوم ، وكان بنيان الدولة العراقية فيها مرتبك متصدع، أساسه هش، وعملية الترميم إن أريد أجرائها ربما هي حل رومانسي ترقيعي. فالهوية الوطنية صناعة بالغة التعقيد ترتبط بطبيعة النظام السياسي - الاقتصادي وتأثير الصراع الطائفي - العرقي . وهناك أطراف كثيرة داخلية - خارجية تغذي حالة الانقسام حسب مصالحها وأغراضها وأيضا هناك عجز سياسي - ثقافي يعيق إنتاج هوية وطنية عراقية جامعة. ويظهر دائما بأن الإرادة العامة العراقية صاحبة المصلحة في بناء الدولة والهوية العراقية كانت دائما مغيبة وبالذات في المفاصل التاريخية الكبرى.
فعلى مر فترات طويلة وحاسمة من عمر الدولة العراقية كان العامل الخارجي يشكل الثقل الحقيقي في تشكيلة وبناء الأحداث ومن ثم تركيب الهوية الوطنية العراقية. فمنذ تأسيس الدولة عام 1921 ولحد اليوم ، لم تبنى أو تكون هيكلية الدولة نتاج تعبير حر وطوعي لإرادة المواطنين العراقيين الذين يعيشون على الأرض العراقية، وإنما وبشكل غالب كانت نتاج قوة وتدخل خارجي. فالنظام الملكي ومن ثم ثورة 14 تموز وبعدها اغتيال الزعيم قاسم ثم توالي الانقلابات العسكرية لحين سقوط نظام حزب البعث في 2003 ،كل تلك الوقائع كانت في جميع مراحلها منظومة من طبخات أعدت أو جاءت تعبيرا عن ضغوطات وتدخلات من خارج الأرض العراقية ، ويلاحظ فيها بأن هيكلة السلطة دائما ما كانت تأتي دون خيار حقيقي للشعب العراقي. ولذا نرى إن نوايا الاحتلال الأمريكي تعمل بشكل ناجز على تفتيت المكونات العراقية. وقد بعثت الإدارة الأمريكية ومنذ خمسينات القرن الماضي رجالها إلى العراق، ومنهم حنا بطاطو لدراسة الحركة الثورية في المجتمع العراقي . ودائما ما كانت محاولات التفتيت هذه تترافق بموافقة وتواطأ بعض القوى السياسية العراقية.
وقد علل البعض تشتت أو ضعف الهوية الوطنية بمبرر ثقافة المواطن العراقية بمختلف أشكالها، مشيرا لكون المواطن قد أعتاد على التعامل الصارم معه كي ينفذ أو يلتزم بالقانون. وأيضا فهو أعتاد على وجود مؤسسات دولة تقدم له الخدمات دون أن يشاركها أو يقدم لها يد العون لإنجاز ما يوفر له وللمجتمع خدمات جيدة، وهذا بدوره ينعكس على فحوى الشعور بالمواطنة وروح الشراكة .فالهوية الوطنية هي وعي متطور يرتقي فوق الهويات الفرعية، والمواطنة مسؤولية ووعي وسلوك اجتماعي قبل أي شيء أخر. ولذا يتم التأكيد على إن احترام القانون يجب أن يكون تبادليا أي القانون يحترم المواطن بمنحه حقوقه كاملة دون انتقاص ليكون المواطن في موقف مجبر فيه على احترام القانون والنظام. ولذا فان الوطن العراقي يحتاج من نخبه المثقفة العمل على أعادة تركيبة الثقافة والذهنية العراقية، وذلك يأتي من خلال الجهد الفني والثقافي والعلمي، وعبر حملات توعية وتثقيف وبخطاب واع ومركز، يتم من خلاله إعادة تركيب ذهن المواطن وجره نحو مواقع الشعور بالمسؤولية الوطنية وقبلها الاجتماعية. ومن هذا تطرق بعض الزملاء إلى كون بناء الهوية الوطنية لا يمكن أن يتم أو يستقيم دون بناء دولة مدنية ضامنة للحقوق المدنية والمساواة أمام القانون وحرية المعتقد واعتماد الكفاءة والنزاهة في تولي الوظائف العامة وحصر السلاح بيد السلطة ونشر ثقافة التسامح، مما يضمن الولاء للدولة وللهوية الوطنية ويبعد المرء عن تضخيم هوياته الفرعية. ولذا فأن الدستور وبشكل واضح كان وسوف يبقى مصدرا للعديد من الخلافات لكثرة الثغرات والعيوب التي تساعد على ثلم الهوية الوطنية.
واستعرض البعض حقيقة تشابه المجتمعات والشعوب في مشاكلها، فجميع شعوب الأرض ومختلف المجتمعات تبرز وسطها انقسامات داخلية، وهذا الآمر يبدو في المدونات التاريخية للبشرية شيئا طبيعيا. فالسكان دائما ما ينقسمون إلى جماعات وطوائف مختلفة الانتماءات الدينية والعرقية، وهذه المكونات تتصارع فيما بينها وتظهر وسطها نعرات مؤذية، وهذا التباين والتضاد يظل كامنا أو ينفجر في لحظة ما. وهنا تحضرنا مهمة البحث عن من يلجم تلك الصراعات ويمنع الأحقاد أو الأحرى من يصنع التغيير في هذا الواقع المر والظرف المؤلم الذي يمر فيه العراق مع انحسار مستلزمات بناء الهوية الوطنية وفي مقدمتها الثقافة والشعور بالمسؤولية الوطنية وتبادل الثقة. فالمحتل الأمريكي زرع قواعد لعبة تبدوا من العسر أن يتجاوزها الجميع أو يكسر قيودها إن لم تتوفر لدى الجميع النوايا الحسنة والاستعداد للتضحية لأجل الوطن.ومع ضعف القوى المطالبة بالدولة المدنية وتشتتها يطرح السؤال المهم عن الذي يحمل لواء التغيير وبناء الدولة المدنية وإعادة اللحمة الوطنية والهوية الجامعة.
وأشار البعض لوجود تقسيم فعلي طائفي وعرقي على الأرض لا يمكن إنكاره أو القفز فوقه والتغاضي عنه وهناك ثلاثة حلول دائما ما جاءت من خارج العراق ثم ساعدت بعض القوى السياسية إلى دفع شرائح كبيرة من الشعب العراقي للنظر بجدية لهذه الحلول والبحث فيها، وأولها التقسيم الطائفي والعرقي المتمثل بالتكوينات الثلاثة الشيعي الكردي السني أو تشكيل الفدراليات أو الأقاليم التي نص عليها الدستور كحق للجميع، ومن ثم الكونفدرالية. ولكن جميع هذه الحلول يعترضها التداخل السكاني والجغرافي بين المحافظات ولن يتم الأخذ بأي من تلك الخيارات أن لم يحسم ملف هذه التداخلات وفي جميع تلك الاحتمالات فأن أي خيار سوف يكون مبعثا لصراع دموي يجر الويلات على الجميع، وقدم أقتراح أن تكون لا مركزية المحافظات الحل والخيار السليم للإبقاء على وحدة العراق وبناء هوية وطنية لأبنائه، مع احتفاظ إقليم كردستان بحق تقرير المصير والانفصال عن العراق وبتسوية رضائية على الأراضي المتنازع عليها.
وأقترح البعض إلغاء تركيبة الدولة الحالية وإعادة البناء وفق أجراء انتخابات شفافة وعادلة تبنى وفقها دولة قائمة على اتحاد حر يضمن للفرد تقرير شكل علاقته بالوطن وبالآخرين، ونوع وطبيعة الشراكة المبتغاة. وعلى أن تكون هناك مؤسسات وهياكل دولة قائمة على التوازن ومحصنة بالضد من قدرة أحدها على تغيير ذلك التوازن. أو أيجاد حل أخر وهو عقد مؤتمر لحوار وطني شامل يعاد من خلاله النظر بجميع العيوب التي انتابت العملية السياسية وإدارة الدولة وفي مقدمتها إعادة النظر بالدستور ليتلاءم ومعطيات دولة مدنية، على أن تتوفر لهذا المؤتمر أجواء الثقة والنيات الحسنة.
وفي محاولة للاقتراب من أيجاد حلول لواحدة من أشكال أزمة الهوية الوطنية والمتمثل بتوسع شقة الخلاف بين الكتل السياسية في رؤيتها لعموم الحدث العراقي، فقد تطرق البعض لجوهر المشاريع الكثيرة التي دفعت لما آل أليه الوضع في العراق وفي مقدمة ذلك مشروع تقسيم العراق الموجود في جعبة القوى الدولية والإقليمية.لذا أقترح أن يتم أجراء إحصاء سكاني عام ومن ثم أجراء استفتاء شعبي لتقرير مصير المناطق المتنازع عليها على أن يجرى هذا الاستفتاء بعد مضي عشر سنوات من تأريخ التعداد السكاني. وفي هذا الأمر ما يضمن حقوق الجميع في الأرض العراقية.
ومن كل هذا وغيره تتولد القناعة بضرورة البحث في القواعد والمسلمات التي من الموجب أن تبنى عليها أية هوية ثقافية اجتماعية وطنية. وعلينا أن نكون مبادرين للجم النعرات العدوانية وجسر الخلافات وتوظيف التمايزات الثقافية لصالح الاندماج المجتمعي. وخرج الجميع بالتأكيد على إن هذا لا يمكن إيجاده وظهوره ونضوجه ولن يترسخ، دون بناء دولة مدنية ، دولة القانون الضامنة للديمقراطية وللحريات المدنية.
منتدى الحوار الثقافي في ستوكهولم