فضاءات

طريقي الى الحزب الشيوعي / حسان عاكف

حين تقتحم احداث السياسة حياة طفل صغير
«رصاصة في الجدار»
لا تزال أحداث ذلك المساء من عام 1956مطبوعة في ذاكرتي حتى اللحظة؛ كانت والدتي، على غير العادة والمألوف، في حالة من العصبية والانفعال وهي تؤشرالى ثقب صغير في اعلى جدار الغرفة وتوجه سهام نقدها ولومها لوالدي، الذي كان يقف مدافعا، مبررا ومحاولا تهدئتها بكلمات عرفت معناها فقط بعد سنين عديدة، مع ابتسامة خفيفة حيرى، وكنا نحن الاخوة الصغار نقف مذهولين لأنها المرة الاولى، والمرات النادرة لاحقا، التي نشاهد فيها تبادل الادوار والمواقف بينهما؛ حيث المألوف ان والدي هو صاحب القدح المعلى في البيت وموجه اللوم والنقد لوالدتي باستمرار. لم تكن هناك محاصصة او توازن وطني-عائلي بينهما. ظل السؤال الموجه لوالدي يتردد على لسان والدتي: فقط اريد ان افهم كيف تسحب مسدسك داخل الغرفة وتطلق منه الرصاص؟، الم تفكر ان الطلقة ممكن ان ترتد وتصيب أحد الاولاد؟ ماذا لو سمع الجيران ؟... وهو يحاول تهدأتها ردد والدي عبارات لم اكن قد سمعت كلماتها من قبل؛ وطني، عبد الناصر، قناة، تاريخ.. لم يكن اي من هذه الكلمات يخفف من حدة انفعال والدتي، بل بالعكس كانت ترد في كل مرة، واذا كان ذلك، هل تريد ان نتبهذل هل تتصور انهم سيتركونك؟.. لماذا نتبهذل ومن هم الذين سيتركونه؟. هذه الاسئلة ظلت هي الاخرى ألغازا عصية على الفهم بالنسبة لي حينها... في سنوات لاحقة عرفت ان جناية والدي كانت اطلاقه رصاصة من مسدسه حينها من شدة فرحه وانفعاله حين سمع من الراديو خبر القرار التاريخي بقيام الرئيس المصري جمال عبد الناصر بتاميم قناة السويس...!
«يردسْ حيل الما شايفهه»
بعد اسابيع من ذلك الحدث الغريب جاء حدث جديد وغريب هو الاخر احتاج الى سنوات عديدة كي اتمكن من استيعاب ومعرفة ابعاده. كنت للتو قد دخلت المدرسة الابتدائية، كنا جالسين بكل اصغاء وانتباه لمعلمنا المعروف بتسلطه وصرامته في ساعة الصباح الاولى، حين تنادى الى اسماعنا اصوات هرج ومرج كانت تقترب تدريجيا من مدرستنا، كانت تلك اصوات جموع طلبة المدرسة الثانوية التي تقع في اعلى الهضبة حيث "مدرسة عنه الغربية الابتدائية"، وما هي الا دقائق حتى انطلقت تلك الجموع هادرة داخل ساحة مدرستنا وهي تردد بحماس وانفعال منقطعي النظير هتافات واراجيز، رسخت كلماتها في ذهني منذ لحظتها رغم اني ايضا لم استوعب معانيها تماما؛ " شيطفي بركان الثاير، والشعب الثاير شيرده"، " يردس حيل الما شايفهه، والشايفها ما يهواها" بعد سنوات سمعت الاهزوجة بشكل آخر؛" يردس حيل الماشايفهه والشايفهه يلف عمامة". طلب الطلاب المتظاهرون من الادارة السماح لنا بمغادرة المدرسة والتوجه الى منازلنا على الفور. عرفت حينها الشاب الذي كان يسير في مقدمة المتظاهرين ويبدو اكثر انفعالا وحماسا لانه كان ابن جارنا في الزقاق المقابل لبيتنا، طالب الثانوية آنذاك " حامد الخطيب"، الذي ارتبطت حياته بالحزب الشيوعي العراقي منذ وقت مبكر، وظل سنوات طوال يدفع هو وعائلته ضريبة هذا الارتباط سجنا وتشريدا وملاحقة حتى استشهاده في بشتاشان بعد 27 عاما من ذلك اليوم التشريني المشهود.
حين عدت إلى قراءة الاحداث بعد سنوات عرفت ان تلك التظاهرة تفجرت كما كان الحال في اغلب ألوية العراق ومدنه للتعبير عن تضامن شعبنا العراقي مع الشعب المصري الشقيق في تصديه للعدوان الثلاثي الغاشم (البريطاني-الفرنسي الاسرائيلي)، اسوة بما حصل في اغلب البلدان العربية.
بعد ايام من هذا الحادث عاد والدي من المقهى في مساء يوم بارد مثقل بالحزن والهم، واخبرنا ان الشرطة القت القبض على حامد الخطيب مختفيا في احدى الجزرات المنتشرة وسط الفرات على طول مدينة عنه.
«قاطعوا الانتخابات المزيفة»
لا استطيع ان اتذكر الكلمات التي كان يستخدمها والدي واصدقاؤه من المعلمين والمدرسين الاخرين للسخرية من الانتخابات البرلمانية عام 1957، لكني اتذكر تماما ان الشعار الرئيس للدعوة الى مقاطعتها كان " قاطعوا الانتخابات المزيفة"، واتذكر انه كان مخطوطا في عدة اماكن من ازقة منطقتنا ودرابينها وان الشباب كانوا يتجنبون الوقوف امام الشعار عندما يشاهدون احد "السرية"( كما كان يسمى عملاء الامن وادلائه). مثلما اذكر ان العاني "عارف قفطان" كان احد مرشحي الحكومة في تلك الانتخابات.
«منفى ومبعدون»
و مما لا يمكن الا ان يعلق بالذاكرة وله علاقة باحداث المدينة المهمة من تلك الايام، ان النظام الملكي اختار مدينة عنه لابعاد الكثير من المناضلين والمعارضين السياسيين من مختلف الاحزاب والقوى السياسية، كما هو الحال مع مدينتي بدرة في محافظة واسط وعين تمر(شثاثة) في محافظة كربلاء. ومن هؤلاء الذين تتذكرهم مدينة عنه مولود مخلص، والشاعر معروف الرصافي، وزكي خيري، وكاكة مجيد، واخيه نوري مجيد، ومحمد امين الحيدري، وشكور مصطفى (اصبح رئيسا للمجمع العلمي الكردي في الاقليم في تسعينييات القرن الماضي)، والاخوين ارام بوغوص ووارجان بوغوص، والرفيقان الاخوان سركيس بدروس وزوجته اناهيد وصاموئيل بدروس المسقطة عنهم الجنسية العراقية. وعدا هؤلاء كان يدرس في ثانوية عنه رسام الكاريكاتير غازي، وعلي الشوك واستاذ الكيمياء كمال النعيمي والمدرس كامل الدباغ وآخرين، وبعضهم كان قريبا من الحزب الشيوعي.
كان والدي بحكم تدريسه في ثانوية عنه صديقا لاغلب هؤلاء، كنت اشعر بارتياحه الواضح وحبه لهم، وكان يقص علينا احيانا بعض قفشاتهم واخبارهم والطرائف التي ينسجونها عن العانيين وعاداتهم. وبالضرورة كان لابد لنا ان نعجب بهم ايضا رغم ان ما نعرفه عنهم ينحصر فيما يقصه والدي علينا.
«هالة غامضة حول الثلاثة الغائبين»
ذكرى اخرى من تلك السنوات البعيدة لم تكن مفهومة تماما بالنسبة لي رغم انها دفعتني لاحقد على الحكومة التي كانت بالنسبة لي تتمثل بالشرطة ومركز الشرطة والعاملين فيه، والخوف من منطقة السراي التي تضم الدوائر الحكومية. كنت اسمع من اهلي واقاربي عن ثلاثة رجال من عائلتنا،لم اكن قد رايتهم بعد، نالهم اذى كبير من الحكومة؛ المحامي الديمقراطي الجسور توفيق منير، المنفي في تركيا بعد اسقاط الجنسية العراقية عنه عام 1954 من قبل حكومة نوري السعيد، والمحامي عبد الرحيم شريف الشيوعي الملاحق والمختفي عن الانظار بعد ان قضى سنوات في السجن وفي منفاه في بدرة، وعزيز شريف المعارض المطارد والهارب الى سوريا.
تلك كانت الاحداث الابرز، التي أجبرت طفلا صغيرا لايزال في سنوات دراسته الابتدائية الاولى على ان ينتبه الى احداث سياسية كانت اكبر من قدرة نضجه العقلي والاجتماعي على استيعابها.
حين انقطع سجع أسمائنا
حتى نهاية عام 1957 كنا خمسة أخوة واخت واحدة، كانت اسماء الاولاد حسب اعمارهم؛ عدنان، قحطان، حسان، غسان، مروان، وكان يمكن لانشداد ابي على ما يبدو للعدنانيين والقحطانيين ان يديم سجع الـ" الالف والنون" في بقية الاسماء، لكن احداث تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر وتوجه والدي إلى التعاطي مع السياسة،على ما يبدو، غيرت اهتماماته من" المجد التليد" لـ " بلاد العرب اوطاني" الى حاضرها وواقعها الراهن وما يمور في مجتمعاتها من متغيرات واحداث كبرى. وحين ولد اخي الخامس كسر والدي القاعدة واسماه "جمال"، تيمنا بجمال عبد الناصر وتاميم القناة، وواصل الوالد كسر القاعدة بعد ثورة الرابع عشر من تموز واطلق تسمية " مناضل" على الابن السابع والاخير حبا بالثورة ورجالها ومن ضمنهم أبا مناضل، الشهيد فاضل عباس المهداوي.
«عِشْ عاليا في الافقِ ايها العلمُ»
" اتذكر اذ لحافك جلد شاةٍ واذ نعلاك من جلد البعير..؟ نعم اذكر ذلك ولا انساه.ِ"، "عِشْ عاليا في الافق ايها العلم"، " مليكنا مليكنا نفديك بالارواح"، "بلاد العرب اوطاني من الشام لبغدان"؛ كانت هذه نماذج من الحواريات والقصائد والاناشيد التي تردد في ساحة مدرستنا الابتدائية في الاصطفاف الصباحي كل يوم واثناء رفع العلم كل خميس. بالنسبة لنا، نحن طلاب الصفوف الاولى في الابتدائية، كانت هذه الاناشيد تثير شيئا من الحماس في دواخلنا، رغم اننا لم نكن نفقه معانيها تماما، كما كنا نقرأ "جزء عمَ وجزء تبارك"، ونشعر بالرهبة والخوف ونتذكر الذين رحلوا من الاقارب والمعارف، من دون ان نعرف مضامين السور والآيات التي نلقن بها. كانت كلمات تلك الاناشيد والحانها تشد الانتباه الى المحيط العام الذي نعيش فيه وتدفع تفكيرنا الى الانتباه الى اشياء واحداث هي خارج جدران مدرستنا وبيوتنا، وخارج امكانية استيعابنا لها وابعد كثيرا، الى الوراء، من الزمن الذي نعيش فيه.
14 تموز 1958 وبدايات تفتح الوعي الاجتماعي
حين تفجرت ثورة الرابع عشر من تموز كنت في الثامنة من عمري، مع ذلك ظلت احداث ذلك اليوم والايام التي تلته بتفاصيلها الصغيرة عالقة في ذهني طيلة الاعوام السبعة والخمسين الماضية، ويرتبط ذلك بما تركه وما يزال ذلك المنعطف التاريخي، أو قل "البركان الثاير"، من تأثيرات كبيرة على مختلف جوانب حياة الناس في بلادنا طيلة تلك السنوات الطوال. في ذلك اليوم والايام التي تلته حتى الرابع عشر من تموز عام 59 عاشت مدينة عنه احداثا واعراسا ومهرجانات لم تعشها طيلة عمرها الذي يمتد الى ما قبل ظهور نبوخذ نصر الثاني على مسرح التاريخ، كما انها لم تعشها منذ ذلك التاريخ حتى اليوم.
حصل هرج ومرج في بيتنا عندما عاد اخي الاكبر عدنان من السوق وهو يركض ويصرخ ويكرر بانفعال شديد "ثورة، ثورة، راح الملك، افتحوا الراديو ...."!، يومها كان عندنا بناء لتوسيع بيتنا. فتحوا الراديو، حين تيقن والدي من الخبر هرع الى الغرفة وعاد بمسدسه المخبأ منذ خريف عام 56، واخذ يطلق طلقات الفرح والابتهاج، ثم سلم المسدس الى اخي الاكبر الذي اطلق رصاصتين واخي الثاني الذي قام بالمثل. وحين جاء الدور علي انا ظل ماسكا بالمسدس معي، لكني لم اتمكن من الضغط على الزناد الذي بدا قويا بالنسبة لي، وحل والدي المشكلة حين امسك المسدس معي واطلق الرصاصتين بدلا عني.
" ايها المواطنون"، عبارة بدت جديدة على مسامعي وانا اصغي مع من كان يصغي حينها الى الراديو، ولكثرة ما ترددت ذلك اليوم كانت العبارة الوحيدة التي رسخت عميقا في ذاكرتي، مثلما رسخت بعدها بسنتين عبارة " بعد الاتكال على الله وبمؤازرة المخلصين من ايناء الشعب...." فاتحة البيان الاول لثورة تموز.
وماهو الا وقت قصير حتى جاءت جموع الشباب والرجال هادرة من الطرف الغربي للمدينة متوجهة الى طرفها الشرقي حيث " السراي"- مركز الحكومة-، وهي تردد شعارات وهتافات غلب عليها الفرح والحماس. وعلى خلاف تظاهرات عام 56 حين طلب منا الذهاب مباشرة الى بيوتنا بعد اخرجنا من المدرسة، سمح لنا اهلنا هذه المرة بالذهاب الى السراي مع المتظاهرين، كنا نتراكض بين صفوف المتظاهرين ونتزاحم على جمع الخراطيش الفارغة التي كانت تتناثر من المسدسات وبنادق الصيد، التي كان يطلقها المتظاهرون ابتهاجا بهذا الحدث الكبير.
في السراي القيت كلمات وترددت قصائد واراجيز وقرئت اناشيد ومقاطع من اغاني حماسية وعقدت حلقات للدبكات(الجوبي) وعبر كل عن فرحته بطريقته الخاصة.
حين عدنا من السراي، سالت والدتي عن معنى الثورة، لم افهم من جوابها سوى ان " الملك راح وسوف ياتي بديلا عنه".
بعد ايام قلائل ظهرت في المدينة صور قائدي الثورة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف مع صور الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
شهدت مدينة عنه خلال الاشهر التالية التي اعقبت ذلك اليوم التموزي الجديد تغييرات كبيرة ومظاهر اجتماعية وحياتية جديدة لم تالفها من قبل؛ جدل ونقاش ومسيرات جماهيرية تكاد تكون شبه يومية، ولأول مرة تشارك طالبات المدارس وبعض معلماتها في المسيرات والفعاليات وفي القاء الكلمات والخطب السياسية امام الحشود المجتمعة، وتسمع زغاريد النساء من فوق سطوح البيوت ومداخل الازقة في المسيرات والتظاهرات العامة. الشباب والرجال ومن كل الفئات الاجتماعية كان لهم حصتهم ودورهم في تلك الايام..
ومع مرور الوقت ظهرت اسماء جديدة لم نألفها من قبل؛ جمهورية، زعيم، انصار السلام, الوحدة العربية، نقابة المعلمين، رابطة المرأة، اتحاد الطلبة، كما ظهرت اهازيج واراجيز جديدة لم تألفها المدينة من قبل؛ "عاش تلاحم الجيش وية الشعب"، " عيني كريم للامام ديمقراطية وسلام"، " الله يديم الجمهورية"، "سنمضي سنمضي الى ما نريد وطن حر وشعب سعيد"، "عنه الحمراء مطلبها طرد الرجعية من الشارع". ومع هذه الاعراس العامة كان لعائلتنا عرسها الخاص بها حيث عاد "الغائبون الثلاثة"؛ عاد عزيز شريف من سوريا الى بغداد، وعاد توفيق منير من منفاه في تركيا واعيدت الجنسية العراقية اليه، وخرج عبد الرحيم شريف من مخبئه السري ليمارس حياته الطبيعية.
لم تمض الا اسابيع قلائل حتى انقسم الشارع وانقسمت المدينة بين مؤيد للزعيم عبد الكريم قاسم وسموا بالشيوعيين، ومؤيد للعقيد عبد السلام عارف وسموا بالقوميين والبعثيين. وكانت تلك هي المرة الاولى التي اسمع بها تلك الكلمات. واصطفت عائلتنا ضمن الفريق الاول.
غير ان هذا الانقسام لم يحل دون استمرار تظاهرات الفريقين، الامر الذي كان يقترن بمماحكات واصطدامات في اغلب الاحيان. وكان اشدها ما حصل في تظاهرات الذكرى الاولى لثورة الرابع عشر من تموز حيث حسم ظهور المدينة في صفين متواجهين ومتعادين، وتصاعدت بعدها شراسة وعدوانية من كان محسوبا على الصف القومي ضد المحسوبين على الثورة والجمهورية الذين اخذوا يهربون من المدينة ويتوجهون الى بغداد. كان نصيب عائلتنا من ابناء العمومة والخؤلة من الاستفزاز والملاحقة والاعتداءات كبيرا، الامر الذي اجبر العديد منهم الى الهجرة والبحث عن ملاذ سياسي آمن في بغداد.
جرت محاولات عدة للاعتداء على والدي من قبل اشقياء المدينة وزعرانها، ما اجبره في خريف عام 1959 على مغادرة المدينة بشكل سري واللجوء الى بغداد، وفي غضون اسابيع التحقنا بوالدي وانتقلنا الى بغداد.