ادب وفن

صورة المثقف العراقي في «منازل الوحشة» (1-2) / حسين كركوش

«لا أعلم إن كانت كتب الأدب والفن والموسيقى تزيد من بلاهتنا في الحياة لتعيقنا وتزيد من غربتنا»
دنى غالي: منازل الوحشة
تغطي رواية دنى غالي «منازل الوحشة». الفترة الممتدة منذ سقوط النظام السابق عام 2003 وحتى نهاية عام 2008.

ورواية غالي طموحة وغنية بثيمات متعددة: الحب، الجنس، الطلاق وتأثيراته على الأطفال، السايكولوجيا المعايير الأخلاقية الاجتماعية، الحرب، السياسة، الاحتلال الاميركي للعراق، بالإضافة طبعا، للأحداث المأساوية التي شهدها المجتمع العراقي بعد سقوط النظام السابق، وهي بقصص متعددة وليست قصة واحدة.

فئة متوسطة حضرية مثقفة

أفراد المنزل العراقي، الذي اختارته المؤلفة، وجعلتهم يواجهون هذه الفترة الاستثنائية العصيبة في تاريخ العراق، ليسوا من عامة العراقيين. المنزل تسكنه عائلة تنتمي للفئة المتوسطة الحضرية وأفراد العائلة كلهم جامعيون، وهم امتداد للأنتيليجسيا العراقية الوطنية التي بدأت تتشكل، بتأثير مباشر للثقافة الغربية، مع بداية تشكل الدولة العراقية الوطنية الحديثة، أثر انهيار الخلافة الإسلامية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. وبالإمكان تصنيف أفراد العائلة، ليس ضمن فئة المتعلمين فحسب وإنما ضمن فئة المثقفين، المهتمين بالأدب والفن والموسيقى والمسرح. وبحكم أعمارهم واهتماماتهم فأنهم لا يبتعدون عن مواصفات مثقفي الستينيات أو حتى الخمسينيات من القرن الماضي.
وثقافتهم كما يبدو ذات أصول غربية، إذ كان في المنزل «بار» صغير، والأم ما تزال تلوذ بالويسكي عندما تحاصرها الهموم. وبينما لا نجدهم يستمعون لأي أغنية أو موسيقى عراقية شعبية، فأن ربة المنزل «تفز من مكانها» تأثرا عندما تسمع مقطعاً من «موسيقى شوبرت» التي «تمعن في الإيلام وتجعل الدموع تنحدر»، ودائما ما تصدح في البيت «ضربات بيانو لشوبان» و»السيمفونية التاسعة لبيتهوفن» وكونسيرتو باخ الذي «يغسل المجون والفحش في الخارج»، ويجد «البيانو»، «هذا الكائن الصامت بحجمه الكبير»، مكانا مميزا داخل منزل العائلة، وابنهما سلوان الذي يبلغ الثلاثين من عمره تعود منذ طفولته على «الإنصات إلى الموسيقى بانتظار أريا «بابا غينو» و»ملكة الليل». وأحيانا يحلو لبعض أفراد العائلة أطلاق أسماء شخصيات من روايات ومسرحيات أجنبية على بعضهم، كشخصية سونيا من دوستوفيسكي وشخصية أوفيليا من شكسبير. وحتى القط الأليف في منزلهم أطلقوا عليه أسم «هاملت».
انثروبولوجيا يحمل أفراد المنزل قيما حضرية تتقاطع مع الأعراف والعادات والسنن العشائرية. تقول ربة المنزل/ الراوية:» لا أعرف شيئا عن العشائر ونظامها، تلك أمور بعيدة جدا عن حياتنا». وعلى الصعيد السياسي فأنهم لا ينتمون لأي جهة سياسية، والعائلة لم «تخرج من جبة الحزب الشيوعي»، كما ترى الروائية عالية ممدوح ولا من جبة أية جهة سياسية.

«الوضع مسخم» فعلا، لكن ما العمل؟

هذه هي مواصفات العائلة العراقية «المثقفة» التي اختارتها مؤلفة «منازل الوحشة» لتواجه «الخارج»، أي ظروف العراق التي بتنا نعرفها جميعا والتي تصفها الرواية كالتالي:»الوجوه الملثمة التي يمكن ان تقفز إلى داخل البيت، والأمراء والولاة، والأحزاب الدينية التي قد ينتمي إليها الخاطفون، والمليشيات المسلحة، والعشائر ونظامها، وعمايم على رؤوس فارغة، و»حواسم»، وجماعات تتحارب وتغتصب وتفتي، والقتلة الملثمون «الذين يطلقون» أطلاقات لا يهدأ أزيزها.. أطلاقات متتالية مفاجئة تسمع في الخارج .. و»يطلقون» كلمات خشنة..»وتروى عنهم» قصص مرعبة «بما في ذلك» أخبار الذبح والترهيب والاختطافات والطرق المقطعة والمناطق المسدودة والمفارز المتعاقبة... والاختطافات.. والسرقات، والجنون، والاغتيالات.. والآثار المسروقة.. والبنايات العريقة التي هرمت.. والمسارح التي تم احتلالها.. وصالات السينما المغلقة.. والنسوة المسربلات بالسواد والمعممون الذين ظهروا في الجامعات...».
بالطبع، تصوير الواقع العراقي الذي سجلته الرواية ونقلناه حرفيا من صفحاتها، صحيح جدا ولا أحد ينكره. ونحن نتفق إن «الوضع مسخم»، فعلا، كما تقول جدة سلوان. وبالتالي بإمكاننا أن نفهم ونتفهم، بل ونتعاطف مع ربة المنزل وهي تقول:» ليس لنا من يسندنا. نحن عزل بالفعل». فاللحظة التاريخية التي يعيشها المجتمع العراقي الذي تنتمي إليه هذه العائلة الهادئة المسالمة الحضرية المثقفة، تتسم بتراجع القانون المدني وتفوق قانون الغاب حيث السيطرة للأقوى وسيطرة المليشيات، وسيادة السنن العشائرية، وهذه العائلة الوديعة الفردانية لا تملك أي واحدة من مصدات الدفاع هذه. فهي، إذن، عائلة «عزلاء» بالمعنى الحقيقي. هذا كله صحيح.

من هم الغرباء؟

لكن الأسئلة الأكثر خطورة، ليس فيما يتعلق بهذه الرواية فحسب، وليس فيما يخص الرواية العراقية فقط، ولكن فيما يتعلق، ليس براهن الثقافة العراقية فحسب وإنما بمستقبلها، أيضا، ويتعلق بمفهوم وتعريف وبدور المثقف العراقي، خصوصا المثقف العضوي في هذه الظروف الجديدة المعقدة، هي الأسئلة الآتية:هل أن اللاعبين العراقيين الجدد الذين ظهروا على خشبة المسرح العراقي وتعاظمت أدوارهم بعد عام 2003، هم، سواء أحببناهم أم كرهناهم أم وقفنا إزاءهم على الحياد، «غرباء» عن المجتمع العراقي وهبطوا من سطح المريخ، وعلينا طردهم إلى حيث هبطوا، أم هم أبناؤه ظهروا الآن إلى المتن بعد أن ظلوا لسنين طويلة على الهامش ؟ وحتى إذا اتقفنا أنهم فعلا «غرباء»، فوفقا لأي مقاييس ومعايير؟ وغرباء لمن؟ وغرباء لماذا؟.
والأسئلة الأخرى هي: هل بالإمكان أختزال الأوضاع العراقية المستجدة بعد عام 2003 بالخطف والقتل العشوائي والمليشيات، فقط، وأهمال قضايا جوهرية وفي منتهى الخطورة، كمسائل الديمقراطية والحريات والتمثيل البرلماني والكوتا المخصصة للنساء وتقدم فئات وطبقات اجتماعية مهمشة إلى صدارة المشهد؟ هل أن الأوضاع العراقية المستجدة بعد عام 2003 اكتملت وانتهت أم أنها ما تزال في بدايات المخاض، وما تزال كل الأحتمالات قائمة، بما في ذلك أن يتحول العراق إلى دولة مدنية ويتعافى و أن يتفتت ويصبح مقاطعات يحكمها أمراء حرب؟ هل أن «الغرباء» هم اللاعبون الجدد، أم «الغرباء» هم أفراد المنزل، أو المثقفون العراقيون كما تصورهم الرواية؟
لنتمعن جيدا في المقطع التالي من رواية «منازل الوحشة»:
«عندما اتصلت «الراوية» بصديقنا الدكتور حسام ... أكمل حديثه عن العشائر التي أخذت مكانها في الصدارة شيئا فشيئا حتى صارت تتدخل في عملهم وتقتص منهم. «...» بدا الدكتور حسام «هو صديق العائلة و»مثقف» مثل أفرادها» متحمسا في حديثه. من الغريب أنه عاد إلى اهتماماته القديمة في جمع السجاد واللوحات الفنية.. يتحدث بأنفاس مخنوقة .. أغلق عيادته شأن الباقين وصار يقضي الوقت في متابعة الفن والغاليرهات عبر الإنترنيت.. قال إنه ينوي السفر... ليرتخي و»يشم هوا».. وأكمل» هل تصدقين، أدور بسيارتي في الشوارع مجازفا. بالأمس مررت بالوزيرية ثم إلى باب المعظم، ومن هناك إلى زيونة ومنها نحو ساحة الأندلس إلى شارع السعدون... إني مشتاق إلى بغداد التنورات القصيرة وقصات الشعر والبدلات الصيفية وعودة الطالبات من الجامعات في الباص.. هل معقول ما يحدث؟ لا أريد غير أن أتنسم صبحا نظيفا بريئا. «...» كنت «ربة المنزل/ الراوية» منصتة «لحديث حسام» بينما صوته يؤكد ما يعاني منه.. ما كنا عليه وما اختفى من حياتنا، ومن أين أتى هؤلاء الغرباء؟
لا أظن أن المصادفة العفوية وحدها والاختيار العشوائي هما اللذان جعلا «الصبح النظيف البريء» يقترن بمناطق «الوزيرية وباب المعظم وزيونة وساحة الأندلس وشارع السعدون» وليس بمناطق الثورة والشعلة والفضل والصدرية والرحمانية والجعيفر، مثلا. ولو سألنا أي قارئ عن ذلك لأرجع السبب إلى «رقي» المناطق الأولى و»تخلف» الثانية. وبالطبع، فأن «الرقي» هنا يعني الجوانب الاجتماعية الحضارية السلوكية ذات الصبغة الأوربية، لكنه يعني قبل ذلك الجانب الطبقي الاجتماعي.
هنا علينا ان نتوقف لمعرفة «ما كنا عليه» قبل التغييرات التي شهدها المجتمع العراقي بعد عام 2003، وأن نعرف «ما اختفى من حياتنا» بعد التغييرات.
وفقا للرواية فأن «ما اختفى من حياتنا» هو «بغداد التنورات القصيرة وقصات الشعر والبدلات الصيفية وعودة الطالبات من الجامعات في الباص و»الكتب التي قرأناها والأفلام التي شاهدناها والمسرحيات التي حضرناها» وكذلك «محيط الجامعة بكل انفتاحه ومغرياته والحرية» و»الموسيقى والعزف على البيانو أوائل السبعينيات» و»الأيام الهادئة» لقد «كان زمنا جميلا رغم كل شيء».
من المؤكد أن «الزمن الجميل» الذي تعنيه الرواية ليس حقبة حكم صدام حسين، فالرواية تدين النظام السابق ورب العائلة كان قد فصل من وظيفته وقتذاك، وعندما سقط نظام صدام استبشرت العائلة خيرا. وبالتالي فأن الزمن الجميل الذي تعنيه الرواية لا يقترن بنظام سياسي معين، إنما هو مجمل النظام السياسي الاجتماعي الذي تشكل مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة واستمر حتى عام 2003.
كيف يتسنى لعراقي محايد، حتى لا نقول عراقيا يساريا ديمقراطيا، أن يتجاوز تعبير «رغم كل شيء»، ويقول «لقد كان زمنا جميلا»؟ ربما كان «زمنا جميلا» ل(المركز)، للعاصمة بغداد ولنخب بعينها من سكانها «زيونة وباب المعظم والوزيرية وشارع السعدون وساحة الأندلس»، لكنه ليس كذلك ل»الأطراف»، للمدن والقرى النائية والأرياف ولا لضواحي بغداد المتعبة «الميزرة والعاصمة سابقا والثورة فيما بعد أو صرائف الشاكرية سابقا والشعلة فيما بعد أو حي الفضل وأبو دودو وأبو سيفين والجعيفر وصبابيغ الآل». ونحن لا نعني فترة حكم صدام حسين فحسب، وإنما نعني جميع الحقب التاريخية التي عاشها العراق منذ العقد الثاني من القرن الماضي.
لكن، وعلى أي حال، لنتفق مع الراوية أن ذاك الماضي كان جميلا ومشرقا وبهيا رغم كل شيء. ولكنه «كان» ولم يعد كائنا.
لقد اختفى ذاك الزمن الجميل، وظهر بعد عام 2003 زمن آخر، هو الواقع الذي رأينا تفاصيله في السطور السابقة، بكل ما فيه من قسوة وعنف ولكن بكل ما فيه من تغييرات إيجابية لم تتوضح ولم تكتمل ملامحها بعد، وأصبح اللاعبون الرئيسيون فيه هم «أحزاب دينية، رجال عشائر، فئات شعبية غير متعلمة أو قليلة التعليم، معممون، نسوة مسربلات بالسواد .. الخ». هؤلاء هم الذين تسميهم الرواية «الغرباء». وهؤلاء «غرباء» فعلا، لكنهم غرباء ليس لعموم العراقيين، هم غرباء بالنسبة لأوساط محددة داخل الفئة الاجتماعية الوسطى الحضرية المتنعمة «وريثة الأفندية»، وهم «غرباء» أكثر لفئة المثقفين، لكن ليس لعموم المثقفين العراقيين الذين هم، تاريخيا وتقليديا وبأكثريتهم الساحقة ينتمون لليسار، وإنما بالنسبة لفئة «المثقفين» العراقيين المتغربين طوعا داخل مجتمعهم (Aliénés).

النستلوجيا: مرض رجعي وليس عافية تقدمية

تزدحم مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنيت هذه الأيام، وأصحابها متعلمون وربما مثقفون تقدميون يساريون وبعضهم يؤمن بالديالكتيك الماركسي، تزدحم بصور تعود للسنوات والعقود الخوالي في العصر الملكي وفي العصور الجمهورية، خصوصا لنساء سافرات وحفلات وسفرات جامعية ومسابقات جمال، وبجوارها صور حديثة لبرلمانيات ورجال دين وأفراد عشائر ورجالات من الحكم الجديد، وتحت هذه الصور تعليقات تقول، بحزن وبحسرة وبأسف: أين كنا وأين أصبحنا؟، تعليقات كهذه تكشف عن تنفج اجتماعي (Snopism) وهي ذات مغزى. إنها انعكاس لأمتعاض الفئة الوسطى الحضرية المثقفة التقليدية التي كانت تحتكر «المعرفة والثقافة والوجاهة» لنفسها، ولم تألف رؤية هؤلاء اللاعبين الجدد.
وبعد ظهور هذه الفئات «المنسية» إلى الواجهة، واحتلالهم لمواقع الصدارة وتواجدهم في كل مكان، بأزيائهم وهندامهم وأذواقهم ومنظوماتهم الأخلاقية وقاموسهم اللغوي وطرائق تصرفهم ولغة تخاطبهم، شعرت النخب الحضرية المثقفة التقليدية بأن هذه الفئات الجديدة بدأت تنافسها مواقعها وتقزم أحجامها وتحدد أدوارها، وتقصيها عن مواقعها التقليدية في صدارة المجتمع، فلم يملك المثقفون التقليديون ألا أن يرددوا مستغيثين، وكأنهم شاهدوا مخلوقات غريبة هبطت من المريخ: من أين جاء هؤلاء الغرباء ؟ وهذا ما نجده في رواية «منازل الوحشة».