ادب وفن

صورة المثقف العراقي في «منازل الوحشة» (2- 2 ) / حسين كركوش

تروي المثقفة، ربة المنزل أم سلوان، وهي الراوية في الوقت نفسه، أنها عادت لمنزلها من مشوار لها في الخارج فوجدت فيه احدى بنات الجيران لم تكن قد شاهدتها من قبل، وهي شابة بسيطة من عامة الناس.
أي من الفئات الشعبية التي تجهل "الأتيكيت والأصول" الذي نشأت عليه ربة المنزل ذات المنشأ الارستقراطي، جاءت لتنظيف البيت. وحالما شاهدت المثقفة أم سلوان هذه البنت "الشعبية" بدت وكأن الأرض زلزلت تحت قدميها وأظلمت الدنيا في عينيها. لماذا؟ لا لشيء سوى أن هذه الصبية كانت قد "شمرت عن ساعديها ورفعت ثوبها وحشرته تحت سروالها من الجانبين"، كما تفعل عادة معظم النساء العراقيات من الفئات الشعبية، ولأن "عينيها مغرقتان بالكحل والأحمر على شفتيها له منظر مقرف"، تقول أم سلوان إنها "استغربت الصورة واستشاطت غضبا"، وراحت توبخ أمها الريفية، أي جدة سلوان بهستيريا حقيقية وهي تصرخ: "من أين جئت بهذه الرخيصة"؟.
وفي إحدى المرات تقول ربة المنزل، أم سلوان: "انطلقت صرخة امرأة من بيت الجوار وعلمت أن جارنا وجد ابنه الشاب الذي انتسب حديثا إلى الشرطة مقتولا أمام البيت.. دخلت البيت مسرعة وأوصدت الباب.. وقصدت المطبخ وأدرت المذياع وارتحت لعثوري على أغنية"، وهي تبرر تصرفها اللاأبالي لموت هذا الشرطي الشاب كالآتي "إني فارغة من الحزن". لكن ربة المنزل نفسها تمتلئ حزنا لوفاة المثقف العراقي الروائي فؤاد التكرلي وتعتبر وفاته "خسارة كبيرة"، وترى وفاة الشاعرة نازك الملائكة واحدة من "خسائرنا" ترى لو كان الشاب الشرطي القتيل "شخصية" عراقية مشهورة، هل كانت ربة المنزل ستتصرف بنفس الطريقة؟
بالطبع، البنت الشعبية "رخيصة" وفقا لدرجات التراتبية الاجتماعية ووفقا لمنظومة القيم والمفاهيم الاخلاقية الثقافية الاجتماعية الطبقية التي تحملها أم سلوان ربة المنزل. الفتاة "الرخيصة" هي العالم الخارجي، هي سواد الناس، هي غالبية المجتمع العراقي الذي تعيش فيه ربة هذا المنزل "المثقفة" لكنها لا "تراه" ولا "تعرفه". فربة المنزل كان والدها الارستقراطي قد "عزلها" عن المجتمع منذ أن كانت صبية، وزوجها أسعد "انزوى هو الآخر" وكذلك ابنهما سلوان..
وهكذا فهم يعيشون أيامهم "تحت حالة أشبه بمنع تجوال اختياري"، مقطوعين عن المجتمع أو العالم الخارجي، وكأن أحدهم "روبنسن كروسو" عراقي جديد يواجه عزلته الاختيارية، لكنهم يفتقدون شجاعة كروسو وصبره وإصراره وقوة ارادته وتفاؤله. وعندما اقتحم العالم الخارجي، فجأة، بثقافته وتصرفاته وسلوكه، المنزل العائلي، لأول مرة، بدون موافقتها، شعرت ربة المنزل بالهلع. الفتاة "الرخيصة" هي واحدة من هؤلاء (الغرباء) الذين بدأوا يثيرون دهشة ربة المنزل المثقفة، بل وتقززها، بعد صعودهم المفاجئ على مسرح الحياة في هذه اللحظة المفصلية في تاريخ العراق، ويجعلونها تتساءل، من أين أتى هولاء الغرباء؟.
إنها نفس مسألة العلاقة المتعالية التي نجدها في رواية دانيال ديفو "روبنسن كروسو"، بين "المركز" وبين "الأطراف"، أو بين الشمال والجنوب أو بين الغرب المتحضر والشرق المتخلف، ولكن هذه المرة بنسخة عالمثالثية أو شرق أوسطية أو عراقية. فشخصية الإنكليزي، روبنسن كروسو، نابت عنها في رواية "منازل الوحشة" شخصية المثقفة أم سلوان، وشخصية "فرايدي/ جمعة" نابت عنها شخصية الفتاة الشعبية.
شخصية أم سلون هي مثال للنخب المثقفة الشرقية أو العالمثالثية التي تشعر بتفوق إزاء مواطنيها وتزدري ثقافتهم المحلية، وتشعر بدونية إزاء حضارة الغرب وتبجل ثقافته. شخصية أم سلوان "بشرتها سمراء وقناعها أبيض"، إذا استخدمنا عنوان كتاب فرانتز فانون، صاحب كتاب "معذبو الأرض"، ومعه كتابات علي شريعتي وليوبولد سنغور عن "الوعي الزائف" عند المثقف العالمثالثي المستلب (Aliéné) الطوباوي المتعالي النخبوي.
قلنا سابقا نحن نتفهم الراوية/ المؤلفة عندما تقول "نحن عزل بالفعل". ومن الواضح أن تعبير (نحن عزل بالفعل) الذي وضعته المؤلفة على لسان ربة المنزل/ الراوية، ومقابله رسمت واقعا عراقيا شرسا وعنيفا، إنما أرادت أن تنقل عبره رسالة مضمونها: محنة (الفرد) العراقي داخل مجتمع قاس وعنيف جدا، يتحرك كحشود بشرية لا مكان فيه للفرد الحر المتفرد. وهذه الفكرة نجدها عند التكرلي في روايتيه (المسرات والأوجاع) و (الرجع البعيد) وعند جبرا إبراهيم جبرا في (السفينة). لكن شخصيات (منازل الوحشة) بدت رخوة أكثر مما ينبغي، مقارنة بشخصيات التكرلي وجبرا، وخلت نوعاً ما من مواصفات هذه الشخصيات الأخيرة، فيما يتعلق بروح المغامرة عندها وامتلائها الثقافي واطلاعها جيدا على البيئة العراقية المحلية وإلمامها بالموروث العربي الإسلامي وتعمقها في معرفة الثقافة الغربية الفلسفية.

التشريب والخميعة لا يؤكلان بالشوكة والسكين

وحسنا فعلت مؤلفة "منازل الوحشة" عندما تداركت الأمر، ببراعة روائية تحسب لها، وخلقت شخصية جدة سلوان. فالجدة هي الشخصية الوحيدة القوية في الرواية التي "لم تكن تخشى شيئا في حياتها، ولم ترتجف لا لأميركي ولا لعراقي ولا لإيراني". إنها معادل الواقع الخارجي بكل شراسته وعنفه وتعقيداته. وهي لم تنقذ رب المنزل أسعد عندما تم اختطافه من قبل واحدة من المليشيات، فحسب، وإنما أنقذت الرواية كلها. ولولا شخصية الجدة لأصبحت الرواية مثل كائن رخو لا عمود فقري فيه. ورغم أن شخصية الجدة تحضر مبكرا منذ الصفحات الأولى في الرواية، ويتكرر حضورها في الصفحات التي تلي، ألا أننا شخصيا، كنا نتمنى أن يكون لشخصية الجدة حضورا فعالا أكثر في هيكلية الرواية، لكن هذا لم يحدث، ففي كل مرة تدخل فيها شخصية الجدة متن الرواية فأن الراوية/ المؤلفة تعيدها مرة أخرى إلى الهامش "كنت أزج بأسعد في علاقتي المفروضة بها لأبتعد عنها"، وقد يكون هذا لسبب يخص أراء المؤلفة في التربية البيتية وتأثير انفصال الوالدين على نشأة الأبناء (إنها حقا لم تحضني يوما... وصوتها يوقظ في شعورا مغروسا بالخوف منها والابتعاد عنها"، وقد يكون لسبب تقني يتعلق بقوة الجدة كشخصية روائية لا تستطيع المؤلفة السيطرة عليها وتطويعها مثلما تفعل مع الشخصيات الأخرى. فالجدة الأمية البسيطة تؤكد، كما تؤكد أبنتها تماما، أن "الوضع مسخم"، في العراق في تلك السنوات الصعبة لكنها لا تكتفي، مثل ابنتها المثقفة أم سلوان، بالتشخيص وبالإدانة وبالشتم وبالتعالي على الناس ولا بالتقوقع داخل شرنقة "الأنا"، ولا باللجوء إلى المهدئات والهروب من الواقع.
صحيح أن جدة سلوان هي امرأة أمية وبسيطة لكنها إنسانة مثقفة، إذا أخذنا برأي غرامشي القائل أن جميع الناس مثقفون، والفرق بين المثقف وغيره من عامة الناس هو أن المثقف يضطلع بوظيفة اجتماعية. والمثقف العضوي هو الذي لا يكتفي بإنتاج الخطاب، مثلما المثقفين ربة المنزل وزوجها وصديقهم طبيب العائلة، إنما هو الذي ينغمر في تنظيم الممارسات الاجتماعية، كما هي حال جدة سلوان.
الفرق بين الراوية وأمها هو كالفرق بين عراقيين أحدهما يأكل التشريب والخميعة العراقيتين بالشوكة والملعقة والآخر يأكلهما بأصابع اليد، أو كالفرق بين مثقف عراقي يصر على رؤية الواقع العراقي الحالي بنظارات سوداء مظللة وآخر يراه بالعين المجردة، الأول "يأكل" الواقع العراقي بالملعقة والسكين وكأنه ما يزال يجلس في ركن هادئ في مقهى البرازيلية في الخمسينات، والأخر "يلتهم" الواقع المستجد الفوار بأصابع اليد وعلى عجل خوفا قبل أن تنفجر سيارة مفخخة بقربه، أو خوفا أن يتخلف عن ملاحقة الأحداث المتسارعة التي ما يزال يقذف بها البركان الذي تفجر عام 2003.
تقول الجدة، ومرة أخرى هذه براعة تحسب للمؤلفة، بأن رب المنزل، المثقف أسعد، الذي "ابتعد وانزوى" واعتاد أن "يلوذ بغرفته، يلوذ بكتاب، بفرشاة ألوان جافة وأوراق مصفرة"، "لن يستطيع أن يقاوم"، وسط الظروف الاجتماعية الجديدة في العراق، هذا تشخيص صائب وهو عين الصواب. وكذلك ربة المنزل المثقفة أم سلون، وكذلك طبيب العائلة ، المثقف حسام، كلهم (موديلهم غير). هؤلاء يشبهون (موديل) المثقف العراقي العضوي في الخمسينات من القرن الماضي الذي اعتاد مناقشة أمور سهلة وواضحة لا تسبب صداعا للرأس، هي ثنائية أبيض وأسود، ولا مكان للرمادي بينهما: التقدمي/ الرجعي، اليساري/ اليميني، الحضري المتعلم/ الريفي المتخلف، الأفندي الحداثوي/ المعمم الظلامي، الوطني/ العميل، التحرري/ الاستعماري، البروليتاري/ رب العمل الرأسمالي.

المثقف العضوي هو الذي يتراجع ولكن لا لينزوي

أما الآن، وبعد التسونامي السياسي الاجتماعي الطبقي الثقافي الذي حدث في المجتمع العراقي بعد عام 2003، فقد تداخلت الألوان وتشابك، في مرات عديدة، اليسار واليمين، ولهذا يجب إعادة النظر في معنى هذه المصطلحات ومعنى المثقف العضوي، مثلما يجب إعادة النظر في كثير من المفاهيم والمقولات التي كانت لعقود طويلة بمثابة الحقائق التي لا يمكن الطعن بها. من هذه المفاهيم: ما معنى اليسار واليمين، والتقدمي والرجعي في الظرف العراقي الراهن؟ هل أن هذه المفاهيم هي معادلات رياضية ونتائج مختبرية لا تتغير ولا تتبدل مهما تغيرت ظروف المجتمع؟ هل العشيرة بقوانينها المدنية أكثر تقدمية أم أكثر رجعية، مقارنة بالأحزاب الدينية التي تتمترس بالمقدس لفرض أيديولوجيتها وتبرير ذبح من يخالف آراءها ؟ هل أن رجل الدين يميني ورجعي بطبعه، هكذا على ألإطلاق وبغض النظر عن الظروف ؟ هل أن الحداثة ولدت عندنا من رحم محلي، أم استوردناها كما نستورد أية بضاعة؟.
إن جدة سلوان على حق تماما عندما تنصح ابنتها المثقفة قائلة لها: إصحي، والمؤلفة/ الراوية على حق، أيضا عندما تعترف بعدم مواكبتها للتغيرات الجديدة، مقارنة بأمها: "شعوري بقدمي ونفاد صلاحيتي يجعلني أسخر من أقوالي في الوقت عينه. إبنة الحياة (الجدة).. كانت هي المتحركة وأنا التي تتقوقع وتتخلف. ورب المنزل، أسعد، على حق، كذلك، عندما يعترف بمسؤوليته في عدم فهم الواقع العراقي (موضوع العشائر، مثلا)، قائلا إن هذا واقع موجود لكننا أنكرناه.
الاعتراف هنا هو بداية الطريق لمعرفة الواقع كما هو. لكن تغيير الواقع نحو الأفضل لا يتم بالهجاء والشتائم، وإنما بتقديم بدائل وأفكار جديدة. إذ، ما جدوي أن يشتم مثقف الواقع العراقي الحالي، قائلا إنهم "سفلة ولصوص وخونة وطائفيون لوثوا المجتمع بكواتم الصوت". وفي نفس الوقت يعيش هذا المثقف فراغا روحيا وثقافيا وفلسفيا، حيث "لا شيء. لا شيء عدا اللاشيء" في رأسه.
المثقف العراقي العضوي الجديد هو الذي "يدرب نفسه على تجاوز المحن"، ويعبر، كما تقول رواية (منازل الوحشة)، عن ايمانه بهذه المدينة "بغداد" يمكن أن تغير من نفسها وتستعيد صورتها التي كانت"، وأن يكون ذهنه مزدحما بأفكار جديدة مضادة للواقع البائس، أفكار ليست من الثقافة المحلية وحدها وإنما من جميع ثقافات العالم، شرط أن يطوعها للواقع الوطني، ويدعها تختمر بخميرة محلية. وآنذاك يكون جديرا بأن يردد، بوعي أصيل وبمنطق ديالكتيكي سرمدي، قول الحسن بن هانئ أبو نواس:"أبدا ما عشت خالف دأب قوم بعد قوم".