ادب وفن

«عودة اللقلق».. تشظيات الأنا واستحضار الآخر (1 - 2) / حميد حسن جعفر

يشتغل القاص حميد الزاملي في «عودة اللقلق» على خاصية الراوي العليم، التي تقود، في الأساس النص السردي/ الروائي. تلك الشخصية التي تنقل المشهد القصصي للقارئ ولا تشترك في صناعته.
ليستفيد القاص من قدرات هذا الكائن الذي بإمكانه أن يقول كل ما يمكن أن يقال. متخلصا بذلك من مهمة صعبة من الواجب أن يقوم بها كاتب القصة القصيرة، وأعني بها مهمة صناعة شخصيات النص القصصي.
فالقاص عامة كائن ذاتي، يمتلك من النرجسية ما يفوق مخلوقاته القصصية، وهو الكائن الأقرب إلى دواخله، والأكثر امتلاكا ومعرفة بأموره، هذا الاقتراب أغلق بوابة البحث عن كائن آخر يقف خارج قفص الكاتب، قد يكون غامضا، قد يكون متماهيا خلف أقنعة وتوجهات تتطلب عمليات بحث وتجميع للمعلومات. أي إنه قادر على صناعة تاريخ الشخصية ومنحه هوية حياتية تميزه عن سواه.
ومن أجل أن يحيط الكاتب علما بشخوصه قد يذهب البعض من الكتّاب/ الروائيين خاصة، الى توفير ملفات/ صحيفة أعمال، تشكل خزينا يعتمده الكاتب في تشكيل شخصية ما، عبر التمازج بين أكثر من خاصية، وعبر صناعة تركيبية تمكن الكاتب نفسه من صناعة كائن لا ينتمي الى المواصفات التي تم تجميعها من قبل الكاتب. بل إن وجود شخصيات أخرى توفر أجواء أكثر حراكا من أجل تجاوز الواقع المعيش، وصولا الى الواقع المتخيل.

«2»

عدم القدرة على صناعة البطل المختلف/ الشخصية السردية يقابله في «عودة اللقلق» قدرة الكاتب في الذهاب بالقارئ الى أقصى حدود الكاتب نفسه، عبر صناعة الانزياحات. وذلك عبر كسر نمطية الكتابة، أي صناعة الانتقالات ما بين السارد نفسه، وما تبقى منه، والموزعة على بقية أفراد القص. لذلك فليس من الصعب على القارئ النبيه أن يضع يده على كامل ملفات الشخصية الرئيسة للعديد من القصص. فهو المسافر، وهو راكب السيارة، وهو كاتب القصة، وهو المغرم بأغاني فيروز، وهو الذي وزع قلبه على عشيقاته ومحبوباته والذائبات غراما بين ذراعيه، وهو المتأمل والمفكر، والباحث في شؤون الآخرين.
إن القاص حميد الزاملي يعمل على تشظية ذاته، ولتشكل هذه الكسر/ الشظايا مجموعة أشخاص. كل واحد من هذه المجموعة تحمل بعض خلاصات الكاتب نفسه. بل إن القصة الأخيرة «56 بوابة للحب»، تشكل علامة فضح وكشف لملامح القاص نفسه، والتي راح يدفع بها ويلصقها على جسد الشخصية الرئيسة. ولولا هذه الأفعال لتحولت معظم الشخصيات الى كائنات أميبية، علما إن السارد/ القاص العليم لا يمتلك اسما أو كنية أو لقبا.. وفيها من المجاهيل الاجتماعية والتاريخية الشيء الكثير، وقد يتحول بعض الأحيان الى نكرة.
القارئ لقصص حميد الزاملي الاثنتي عشرة، سيضع يده على بخل تعدد الشخصيات. واذا ما وجدت فإنها تنتمي الى رسومات الحياة الجامدة. نتيجة لما قام به القاص نفسه من سلبية لحراكها، فقد صنعها القاص وفقا لمقاساته.
والقاص نفسه/ البطل العليم، الذي اشتغل بديكتاتورية واضحة مع مخلوقاته، فجميع الشخصيات لا حول لها ولا قوة، وكل ما تقوم به هذه الشخصية أو تلك من رواة البيت القصصي هي بوصاية من القاص.
اثنتا عشرة قصة: واحدة عام 2009، وأخرى عام 2012، وأربع قصص عام 2010، وخمس قصص عام 2011، ويتيمة عام ـ بدون تاريخ.
قد لا يكون البعض من القراء على وفاق مع كتابات القص ـ الست الأولية. إلا إن قدرة القاص سوف يجدها ضمن وضع متنامٍ. حيث تتصاعد قدراته على إدارة شؤون الكتابة عند القصتين الأخيرتين، وأعني بهما «أحلام القطط»، و «56 بوابة للحب».
***
من الممكن أن تشكل قصة «حذاء الملك»، حالة استثناء في العملية الكتابية؛ فهي ليست كبقية القصص، لاعتمادها كليا على حركة حشرة النمل ـ ضمن عملية من الترميز ـ حيث استطاع القاص أن يصنع عالما من الفنطازيا/ اللاواقع، حيث يعتمد النص كليا على مخيلة البطل العليم، رغم توفر تقنيات أخرى. إن فضاء التجريب والتغريب عالم فسيح من الممكن أن يدفع براكب أمواجه الى التيه. إذ تعتمد القصة على وجود طرفي معادلة البقاء والفناء. فهناك مملكة للنمل، وهناك قصر للملك.
في قصة «حذاء الملك»، يشتغل القاص على صناعة الرموز والأقنعة، والتماهي عبر جغرافيات لكائنات غير بشرية. إنها التجربة اليتيمة للكاتب ضمن عملية التجريب، رغم إن المهام التي أوكلها الكاتب لكائناته هي من مهام الكائن البشري. إذ إن الفطرة هي التي تتحكم بتلك الحيوانات لا الذكاء والمعرفة والدخول الى البرلمانات. تلك التجربة التي لم يستطع مزاولتها في حقول أخرى.
إن القارئ الفطن لا يمكن إلا أن يتذكر ويستعيد ـ وهو يقرأ هكذا نص ـ ما تخزن الذاكرة من كتابات تراثية، وأعني بها كليلة ودمنة لابن المقفع مترجما، وربما يكون ساردا كذلك. تلك المتون الحكائية التي تعتمد في جميع شخصياتها على الحيوانات، وإن كان بطلاها الرئيسان هما كليلة ودمنه الثعلبتان.
لقد كان من الممكن أن تشكل العديد من المتون السردية، مثل «ألف ليلة وليلة» أو «كليلة ودمنة»، أو المقامات، أن تشكل فتوحات في عالم الرواية، وأن يشكل السارد العربي والاسلامي والعراقي مخترعا ومبتكرا ومكتشفا لآداب تسبق كشوفات سواها. ولكن لأن العرب امة شعر، فما كانوا بحاجة الى سرد، إضافة الى أن تلك الحكايات كانت كثيرا ما تتخذ من السلاطين والأمراء، بل وحتى المقربين من الخلفاء، مواضيع تلك الحكايات. والتي كثيرا ما تتموضع حول العلاقات مع الآخر. إضافة الى أن الأنثى/ المرأة قد تشكل حجر الزاوية في تشكيل بنية الحكاية كما هي الحال في ألف ليلة وليلة.
هذه الحكايات كانت تشكل تهديدا واضحا لكشف الخفايا وفضح النوايا وتمزيق الستر، وصولا الى الحيوات الشخصية لمن يدير شؤون البلاد آنذاك. كل هذه الأمور وسواها دفعت بالابتكارات السردية أن تتحول الى حاويات لأفكار مناهضة للسلطة، وبالتالي لم تجد من يرعاها أو يحتضنها؛ لتظل يتيمة دهرها.
***
القصص الأخرى قد يقابلها القارئ بروح الاكتشاف، أي إن هناك حالة ترصد وتبحث من قبل القارئ/ القارئ.
ضمن هكذا تجارب إما أن يكون القارئ بريئا/ غير ماكر في البحث عما خلف الكتابة، ليكون استقباله للمدونة استقبالا سطحيا، بعيدا عن البحث، عن الظنون والتأويل والبحث عما يريد أن يقوله الكاتب. أو أن يكون هذا القارئ ماكرا عبر المعرفة، وليتمكن من خلال ذخيرته وخبرته من تفكيك كتلة النص القصصي، وبالتالي الوصول الى ما لم يقله الكاتب.
قد توفر هذه الحالة شيئا من المتعة، عبر إحساس القارئ بقدراته على الوصول الى ما يقرّ/ يكمن داخل النص من أفكار وآراء وكشوفات، وما أن يتم الكشف عن اللعبة/ حتى تنتهي/ تنتفي المتعة. وتتحول القراءة الى ممارسة اعتيادية تتساوى مع القراءة الأولى للقارئ البريء/ الطيب/ غير الماكر.

«3»

قد يشعر القارئ عبر مجساته وما تتجمع لديه من معلومات، إن البطل/ الراوي العليم، الذي لا يمكن أن يكون إلا الكاتب نفسه، يمارس حالة استعراض للذكورية، عبر شيء من النرجسية. لحظة اطلاع هذا القارئ على العشرات من النساء/ الإناث اللواتي يتساقطن في فضاء حبه.
في «درس خصوصي»، تقول طالبته الليبية:
«أستاذ، أنا أحبك، أموت فيك».
وعلى هذا القارئ أن يتفحص الأستاذ الذي اسمه «عبد الحميد العراقي»، لمقاربته مع اسم المؤلف، حيث تتداخل الشخصيتان، شخصية المؤلف وشخصية الراوي.
في «قصص ميتة»، السارد العليم يكتب القصة.
وفي «هروب ليس ببعيد»، جميع الشخصيات تغترف مما يطلع من الثقافة/ الأدب، الوعي، الجدل، فن الإصغاء.
بل حتى «جبار» المتهم بالجنون، بائع الإبر والمناديل وأمواس الحلاقة والملابس الداخلية، يتحدث ليقول «أنا كتلة متنقلة من الأحزان والنكت أليس هذا خارج المألوف» ص43. إنه جزء من الكاتب نفسه.
***
في نص «هروب ليس ببعيد»، يعمل القاص على صناعة التشظي، عبر تحويل كتلة الواحد/ الكل الى أجزاء، أو الى وحدات: محمد الغريب، جبار، المثقف المجنون، صاحب النص/ البطل السارد. «صار البائع متشعبا في مواضيعه».
واذا كان «جبار» بائع «إبر وخيوط ومعجون أسنان» فإن «حميد الزاملي» بائع مدونات وتواريخ وحكايا، وباحث في أمور الكائن البشري.
وكما استفاد في «قصص ميتة»، من تحويل نسيج الصداقات الى نسيج قصصي، فهو يعمل هنا الى تحويل التناقضات الحياتية الى كتابات تنتمي للسرد، وليس الى التوثيق.
إن القاص يعمل على تحويل الأحداث الى نماذج يحمل بعضها افتعاله وممارساته الحياتية/ الجانب الأدبي تحديد والفكري كذلك. فشخصيات مثل ما في «الهروب ليس ببعيد» لا يمكن أن تخرج من نفق السارد العليم، أو الكاتب نفسه.
وكذلك فعل القاص حين استحضر في «قصص ميتة» صديقيه «حسن» و»مهدي»، ليلبسهما لبوسا آخر من أجل إخراجهما من دائرة الواقع، ودفعهما الى فضاء اللاواقع. ليتمكن عبر هكذا صناعة من القول وعلى السنة متعددة ما يريد قوله عبر لسان واحد.
«حميد الزاملي» لديه الكثير مما يريد قوله، ويحمل ما يريد قوله بعضه على عاتق كائنات يستلها من جيب الراوي. فما من شخصية تنتمي الى القاع. بل وحتى جبار لم يكن بائع خيوط ومعاجين، بل هكذا يعمل القصاصون.
بل إن فن الكتابة يوجب عليهم أن يتخذوا من اللاواقع وسيلة للتخلص من تبعات الواقع.
القارئ ضمن مواجهة مع الكتابة، يعمل على صناعة التساؤلات التي توجه للنص، وليس لكاتب النص. إلا أن سلطة اللاوعي، سلطة البحث عن أجوبة، كثيرا ما تضع الكاتب في خانة المتهم.
***
في «برج الزقاق العالي»، حالة انتحار. هكذا يستنتج القارئ من خلال صاحب السارد، الذي فارق أهله طويلا، والذي هو مهدي الرسام. القاص مغرم باستحضار موتاه، أولئك المنتمين الى كتابة القصة. ولابد للقارئ أن يسترجع شخصية مهدي في «قصص ميتة».
فالقاص يكتب، ويصغي، ويروي، ويستحضر، ويسترجع عبر إمكانات السارد، غير المعلن عن انتمائه للقاص نفسه.
فإصغاء السارد يتكرر في العديد من النصوص، كما في «هروب ليس بعيد»، واصغاءاته لجبار. وهو المصغي في «برج الزقاق العالي» الى مهدي الرسام ،استذكارا: «وقتذاك لم أتكلم، بل واصلت الإصغاء»، «بدوت مصغيا بجدية». في دفتر المذكرات ـ يقرأ الراوي «شكرا بشار سلمان. أيها الصديق الذي أخذك الجنون».
هل من الممكن أن يكون بشار سلمان في «البرج» هو جبار المجنون في «هروب».

«4»

مما يتميز به القاص حميد الزاملي هو استنطاق اللاشيء. أي تحويل اللاواقع عبر خدع الإبداع الى واقع مخادع، ولكن من الممكن أن يكون متصفا بكل الثوابت. هذا الفعل المنتمي الى الإزاحة أو الخرق، هو ما يشكل أبرز ما يمكن أن يقوله القص. وإلا من الممكن أن تتحول تلك القصة الى «جثة»، الى نص ينتمي ويقترب كثيرا مما يسمى في عملية الفن التشكيلي بـ «لوحة حياة جامدة»؛ وهذا ما لا يمكن أن يعكس دواخل الفنان، بل إن انطفاء الواقع وخموله سينتقل الى قماش اللوحة، مهما كانت قدرات الفنان في صناعة اللوحة.

***
قد تكون عملية استحضار الغائب، وإعادة خلقه، بل ودفعه الى ممارسة الحياة. هذا الواقع/ الفنطازيا هو ما سوف يستقبله القارئ في العديد من القصص، فالغياب الروحي، وكذلك الجسدي/ الموت، حالة تشكل حضورا قويا، بل تتحول الى رافد مهم، في الذهاب بعيدا في صناعة اللاواقع الذي يتشكل ضمن فضاء المخيلة.
الحلم هنا هو التصور ـ حلم اليقظة ـ تصورات اللاوعي. هو الذي ينتمي لحالة الصحو، والذي كثيرا ما يكون من المنتجات العرضية للتأمل، وليس للحلم/ المنام.
فعملية الاستحضار هذه/ إحياء الموتى من خلال ما يتركون خلفهم ـ الصور/ المذكرات/ الذكريات، عملية واضحة ومكشوفة والتي بدورها محاولة للتخلص من الصوت الواحد. والذي كان يشتغل عليه قصاصو الخمسينيات مثلا، لأن تعدد الأصوات يمثل ملمحا من ملامح السرد الروائي العراقي. واتساع رقعة اشتغالاته دفع بالقصاصين/ كتاب القصة القصيرة ـ الى أن يحايثوا هكذا منجزا إبداعيا، للاستفادة من قدراته في تشكيل القصة القصيرة، ومنح القاص وشخصيات القص أكثر من فضاء فسيح، يتمكن الجميع من خلاله أن يفتحوا ملفاتهم، وملفات سواهم.
ولأن دفاتر المذكرات أصبحت واحدة من روافد الكتابات الروائية ضمن ما يسمى بـ «الرواية داخل الرواية» هذا الإبداع الذي يعتمد بالأساس على تعدد المتون الحكائية من أجل استيلاد حقول روائية أخرى ولتتشكل من خلال (الرسائل/ والمذكرات/ والحكايات الشفاهية/ والحكايات ذات المنابت غير المعروفة/ ميثولوجيات/ تراث/ القصخون/ المدونات الدينية».