ادب وفن

الحصان الأسود ثقافيًّا / د. مالك المطّلبي

نبت مصطلح الحصان الأسود في ميدان التنافس الرياضي، ليبثّ دلالة كسر التوقع في تصنيف تراتبية الفوز. ما كان خارج الحسابات، يصبح، فجأة، أحد منافسي المقدمة. سوف تستعير الحقول الأخرى هذا المصطلح، ليتبنّاه كلّ حقل، على وفق شروطه الذاتية.
هل الثقافة هي حصان بلادنا الأسود؟ أعني هل باتت الدولة العراقية، في تجربتها الانتقالية، تترقّب احتلال الثقافة موقعًا غير متوقَّع في بنيتها ؟
قبل أنْ نجيب، أو على نحو أدقّ، أنْ نحاول الإجابة عن هذا السؤال الحاسم، علينا أنْ نواجه إشكالية تعريف مصطلح الحصان الأسود في تموضعه داخل الخطاب الثقافي، تلك الإشكاليّة التي لم تصاحب مفهومه، في موطنه الأول: الرياضة.
يُرغمنا تعريف مصطلح الحصان الأسود، ثقافيًّا، إلى العودة سريعًا إلى تأريخ ثقافتنا. والأمر الأول في تأريخ الثقافة العراقية المعاصرة، هو أنَّ مصطلح الثقافة، كان يتحدّث، دائمًا، عن مثقفين، بدلاً من الحديث عن ثقافة. وهو ما يعكس هروبًا عن مواجهة أسئلة الثقافة، والاكتفاء بشخصنتها. كان ممثلو الثقافة العراقية، في الطور الأول، هم أصحاب الياقات البيضاء، موظّفي المكاتب، الممسكين بزمام السلطة. ومع تقدّم التعليم، انتقل جزء من دلالة الثقافة، للإشارة إلى المعلّمين، كأصل مؤطَّر بالتهذيب، يَخرج ذوو الياقات البيضاء، من عباءته. وقد شهد الطور الثالث تأكيد إشارة الثقافة إلى منتجي الأشكال الأدبية (أما منتجو الأشكال الفنية فظل المجتمع ينظر إليهم بكونهم صنّاعًا مهرة، يفعلون، أكثر مما يقولون. تمامًا، كما يُنظر الآن إلى جيل التقنيين في ظل الزحف التكنولوجي)، هنا يكون لزامًا علينا، أنْ نعمل على إرباك الوعي السائد، ليغادر، ولو بلفتة، ذلك الانتظار السلبي لتبدّل الأطوار من حوله. أعني أن نتحول من المثقف (المزعوم) إلى الثقافة.
يواجه مصطلح الثقافة، أول ما يواجه، مشكلة الترادف مع مصطلحات أفرزها التحول التأريخي للمجتمعات البشرية؛ الحضارة، المدنية، العصرنة، الحداثة...إلخ
غير أن أهم ما يميّز تسمية الثقافة من التسميات الأخرى، هو بعدها الرمزي الجمعي. الثقافة مُعطًى اجتماعي للتحولات الرمزية في التأريخ البشري؛ تمثلها، وتعيّنها الممارسات الاجتماعية، التي تتعرّض، دائمًا، للتحولات التأريخيّة.
الطابع الرمزي، هو مقوّم الثقافة، أو ضرورتها على عبارة الفلاسفة. ولأنّ هذه الورقة مقتصدة في فضائها هذا، سنذهب إلى معاينة التحولات الثقافية، وفق منظورها الرمزي آنف الذكر، في بنية المرحلة الانتقالية للدولة العراقية. هل يسمح لنا الواقع الآن بقراءة مستقبلية لهذه الدولة من ذلك المنظور؟ الجواب بالنفي، لأن الثقافة العراقية تُستخدَم، الآن، كشكل فارغ، برّاقٌ، أحيانًا، لكنّه غير ذي صلة بأي محتوى. وأول مظاهر هذا الاستخدام، هو إطلاق العنان للوسيط الرمزي للثقافة، وهو اللغة. لا أعني باللغة سلوكها المُعبَّر عنه بالكلام حسبْ، بل بأية منظومة علامية تُنتج خطابات. الخطابات الآن عبارة عن إشهارات تنتهي بمجرد استهلاكها شكليًّا. والمظهر الثاني للثقافة العراقية، هو استمرار شخصنتها، واعتبار الاسم الثقافي، أهم من الرسالة التي يُفترض أنْ يبلّغها للآخَر.
وقد أدّى الغياب الفعلي للثقافة إلى تجنّب عرض الأسئلة الكُبرى للثقافة، وتعويضها، بقائمة استذكار أسماء بعض المبدعين الذين، فقدناهم، أو تكريم ثابت الدخل لبعض فصائل الأطوار الثلاثة التي ذكرناها سابقًا. وأول سؤال مسكوت عنه في الثقافة العراقية الآن يتعلّق بهُويّة الدولة؟ أهي دولة دينيّة؟ وإنْ كان الجواب بالإيجاب، فما الطابع الفقهي لها،؟ أم هي دولة مدنيّة عَلْمانية، يتم فصل الدين فيها عن أنظمة حكمها، لا فصله عن المجتمع؟ أم هي دولة مختلطة الهُوية ؟ فإن كانت كذلك، فما التكييف القانوني لذلك؟
سؤال الهويّة وتفريعاته، مسكوت عنها، ليس بعدم التصريح به، فهذا ممكن، وإلى حدٍّ ما مسموح به، كما أفعل الآن، بل بتجنب أن يكون له جواب، أو إرجاء جوابه إلى ما نهاية! لتعود الثقافة، مُرغَمَة، إلى تمترسها في السؤال فقط، على هامش أجوبة الأقوياء، كحصان غير موسوم بأيّ لون، مَهَمَّته أن يكون في آخِر الشوط أبدا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة (الثقافة الجديدة)
العدد المزدوج 364-365
آذار 2014