ادب وفن

حصار العنكبوت، خيالٌ وتاريخ/ مزهر بن مدلول

طفحت الفكرة، ونضجت اللغة، واكتمل الاسلوب في رواية (حصار العنكبوت) للكاتب (كريم كَطافة) التي صدرت في شهر اذار من هذا العام عن دار نون للنشر.
اهدى الكاتب روايته بنبرة حزن واعتذار الى ابطالها الحقيقيين، اولئك الذين شاركوه المحنة والالم وقاسموه الجوع وقسوة التضاريس ولدغات العنكبوت، وكأنه في ذلك اراد ان يقول بأنّه حفر في التفاصيل المنسية على الرغم من اضطراب الذهن ووهن الذاكرة وتراكم الزمن.
اما عنوان الرواية (حصار العنكبوت) فعبّر عن هيمنته الكاملة على بنية الرواية من اولها حتى نهايتها، فتحول في ذلك الى ان يكون حكايتها المركزية التي تدور في محيطها تفاصيل الاحداث وتندرج ضمنها حكايات وادوار الشخوص سوى كانوا افرادا او جماعات.
يمتلك (كريم كّطافة) الافكار واللغة والتجربة، فراح يصفي الحساب مع تلك الحقبة الزمنية المظلمة المليئة بالعذاب والانتكاسات والبطولات عن طريق الكتابة الروائية، فيأخذنا معه في رحلة السرد والتصوير لكي نقف على حافة الموت ونطلّ على وجهه البشع في حالة من المرارة والذهول، انه يكتب اليوم من منظور زماني ومكاني مغاير فينظر بسخرية سوداء الى تلك الاحداث الفجائعية والدرامية التي تفوقت على الخيال، لاسيما وان الراوي لم يستوحي (حصار العنكبوت) من وقائع منقولة وانما كان هو بذاته وسط ذلك الحصار.
تميز عنكبوت (السلطان الصنديد) كما يصفه الراوي بطول مخالبه وعددها الهائل، فلم تقتصر على المكان الذي تحدثت عنه الرواية في (وادي مراني وسلسلة كَارة الجبلية)، وانما امتدت الى جميع القرى والقمم والوديان في كردستان من اقصاها الى اقصاها، وكان الانصار يواجهون الموت، يحتالون عليه رغم انه كان موتا بلا ضفاف!.
تفضح رواية (حصار العنكبوت) همجية الدكتاتور الذي استخدم كافة اسلحته بما فيه اسلحة الابادة الجماعية التي مازالت مخلفاتها الجسدية وابعادها النفسية ملتصقة بجلود الانصار وساكنة في احلامهم، كما استخدم تلك الاسلحة المرعبة ضد اهالي القرى الابرياء من اطفال ونساء وشيوخ في مشهد يوقظ ضمير ويستفز احاسيس اي انسان حتى لو كان قلبه من حجر الصوان، وتدين الرواية ايضا الموقف الصامت لدول العالم وحكّامه ومنظماته الانسانية وكل الذين وضعوا الكمامات على افواههم ولم ينطقوا بكلمة ازاء فضائع اقل مايقال عنها انها اهانت الانسانية بكاملها ومرغت كرامتها في التراب.
استطاع (كريم كَطافة) بلغة سلسة وتعابير طلية ان يغمس قلمه في الوجدان من خلال اصطياده للكثير من المفارقات والقفشات والتفاصيل التي تنطلق من احاسيس ومشاعر ناس ادركهم الموت فتخفوا خلف الصخور والاكمة ينتظرون بقلوب خافقة مصيرهم الاخير ويراقبون بعيون حيرى حركة الاليات العسكرية، افواج والوية وشاحنات ودبابات ومدرعات وطائرات تحوم وترصد اية حركة!، فشكلت هذه التفاصيل بحلوها ومرّها القيمة الجمالية للعمل الابداعي، فرغم الموت المتربص بالجميع والذي يكاد يكون مستديما ورغم العطش والجوع ومرض الاسهال فأننا نرى بأنّ هناك احلام تصارع الخواء وتأبى ان تنهزم، حنين لاهب الى رائحة الشوارع والارصفة والحياة التي تركوها ورائهم، شوق طافح الى الاهل والاحبة والذكريات، عشاق يسرقون القبل من بين الرصاصات وهدير الطائرات، فتاة تبحث في عتمة الوديان عن فارس احلامها الجبلي!، نصير مرهق يحلم بغرفة دافئة وعشاء لذيذ وكأس شاي!، فكانت هذه الاحلام بالنسبة للانصار هي سفرهم خارج اسوار ذلك العنكبوت المفترس.
لم يغرق الكاتب روايته بالسرد التقريري وانما حاول استخدام تقنية اسلوب التناوب او تعدد الاصوات في السرد الروائي، وعلى الرغم من ان هذا الاسلوب لم يغطي فصول الرواية جميعها لكنه كان عنصرا مهما للتشويق في قراءتها.
ليس هناك بطل استثنائي (في حصار العنكبوت) يمجده الراوي، فلا ابو منيب ولا سهراب ولا وافي ولا حمدان ولا احد من الاخرين كان الشخصية المحورية التي تدور في فضائها الاحداث، وحسنا فعل (كريم كَطافة) عندما جعل الجميع يتقاسمون الحيرة والخوف والقلق، فتلك حقيقة ناصعة يعرفها جميع الانصار وخاصة في ظرف كهذا الظرف، كما لاوجود لاشخاص مختلفين الى درجة التناحر، فلا احد من هؤلاء جميعا يمتلك المفتاح، ولا احد يمتلك القرار، ولامسؤول يستطيع ان يعطي الاوامر، والبطل الوحيد الذي يبقى شامخا مرفوع الرأس هو الجبل، فقد اعطى الكاتب مساحة واسعة في الرواية الى المكان المحاصر وهو جبل كَارة وقممه وكهوفه وعيون ماءه وصخوره ووديانه، فكان المتراس الحصين بالنسبة للمختبئين والمقاتلين على حد سواء، لكنّ (كَارة) يرفض الغريب الذي لايعرف مخابئه ودروبه السرية، يحطم رؤيته، يجعله كالاعمى يدور في متاهة، هذا ما تكشفه رواية (حصار العنكبوت) حين تبحث عن (الدليل)، (الدليل الذي ما ان يضع نفسه على راس القافلة حتى يتورط في حياة او موت السائرين خلفه)، انها مهنة كل مقاتل وخاصة اولئك الذين عاشوا في المكان لسنوات لكنهم ظلوا لايعرفون ماذا يختبئ خلف تلك القمم!.
من هو كمال العربي؟، ومن هو هاوار الكردي؟، ياالهي.. لماذا لايغوص الكاتب في اعماق كمال.. لماذا لم يدخل معه في كهفه النياندرتالي؟؟ ليصور لنا الرعشة التي تسري في ورقة ذلك الغصن الذابل، يصور لنا الالام الحسية والمعنوية التي استبدت به حين ذاك، يصور اللحظات الاخيرة من هموم ذلك الشاب وهو يرى الموت منتصبا امامه، هل سمع (هاوار) تنهيداته، هل فكر بأهله، بأمه، بمدينته، برفاق دربه، ام انهم ترائوا له مثل سراب يتراءى لتائه في صحراء!، بماذا كان يهجس (هاوار)، (ان كمال العربي الوحيد بيننا وهو غير مشمول بعفو السلطان)، الجبروت، ذلك الذي نعرفه ويعرفه (هاوار) لم يميز بين هذا وذاك طالما كانت الجريمة واحدة فالعقوبة واحدة (الاعدام فورا)! لكمال وهاوار وجميع انصار مفرزة عقرة. شكرا للعزيز كريم كطافة الذي جعلنا نحن الناجين من (حصار العنكبوت) ان نشارك في ذرف دمعة!.