ادب وفن

إخباريات روسية مبكرة عن بلاد الرافدين

ناظم مجيد حمود
تكشف مجموعات الصحف والدوريات الروسية، الصادرة في القرن الثامن عشر والمحفوظة في خزائن مكتبة أكاديمية العلوم الروسية، (تأسست عام1714)، معلومات عامة عن بلاد الرافدين، وردت في سياق موضوعات تعرف بالأحوال السياسية والعرقية للولايات العربية.
ويلمس المتابع أنَّ مراسلات مندوبي الصحيفة الروسية الرسمية "وقائع سانت- بطرسبورغ" في اسطنبول، ركزت على تغطية أحداث سياسية وعسكرية هامة دارت على أراضي السلطنة العثمانية. وحينئذ أولت هذه الصحيفة المبكرة اهتماماً كبيراً بقضايا الشرق الإسلامي. وتنقل منشورات الاستشراق الروسي أنها دأبت على نشر مواد تعرف بالحياة الاجتماعية والسياسية والدينية لبلدان الشرق الأدنى. وشغلت الموضوعات المُلحة المقتبسة من صحف ودوريات أجنبية حيزاً كبيراً. وكان لمراسلات مندوبي الصحيفة، غالبيتهم دبلوماسيين في سفارات وبعثات روسيا القيصرية، دور هام في نقل وقائع وأحداث مشهودة جرت على أراضي السلطنة العثمانية وبلاد فارس.
وتميزت مكاتبات المندوب الروسي لدى القسطنطينية إيفان نيبلوييف لصحيفة "وقائع سانت- بطرسبورغ" بكثافة الأخبار والتقارير السياسية ذات الصلة بالعلاقات الروسية- التركية. ويلاحظ القارئ أن الصحيفة نشرت سلسلة مقالات عن أحداث وقعت في بقاع الشرق الإسلامي مثل؛ الهيجان الشعبي الذي عَمَّ مصر في كانون الاول عام "1729"، وانتفاضة بطرون خليل في القسطنطينية في أيلول عام "1730".
وقبل ذاك غطت حدث تنحية السلطان العثماني أحمد، عام "1728"،. وأيضاً عرضت في عددي الثالث من تموز والثامن من تشرين الثاني عام "1731" معلومات عن اكتشاف مؤامرة ضد السلطان أحمد الثالث.
وإبان الحرب الروسية- التركية "1735- 1739" تابع مراسلو الصحيفة سير العمليات الحربية على جبهات القتال.
وجدير بالذكر أنَّ إدارة الصحيفة أصدرت وعلى مدى ثلاثة أعوام "1736-1739" ملحقاً خاصاً "الأنباء" لمتابعة تلك العمليات ضد القوات العثمانية.
وفي أحيان عديدة نشرت "وقائع سانت- بطرسبورغ" وثائق ذات صلة بالعلاقات الدولية منها؛ الاتفاق التركي- الفارسي، الذي نُشر في الرابع والعشرين من شباط عام "1747"، وفيه تم الاعتراف بتاهميس كوليهان "شاهاً" رسمياً لبلاد فارس.
كما واستحدثت الصحيفة في الفترة "1720-1724" مواد جديدة جمعتها في ملحق "تعليقات" شملت؛ مقالات علمية مبسطة ذات منحى جغرافي- تاريخي، وتعريف بالمفاهيم والمصطلحات الأجنبية، أعده نيوستروييف. وورد في أحد أعداد الملحق الصادر في السادس من أيلول عام "1730"، وصف دقيق لقافلة الحجاج المتجهة إلى مكة المكرمة. وفي سياق الوصف تم التطرق إلى جغرافية وحال الأوضاع السياسية في بلدان شبه الجزيرة العربية، التي كان يطلق عليها الجغرافيون "البلاد السعيدة، الصخرية والقاحلة". ونقرأ في ملحق يومي "3 و7- أيلول عام1730"، مقالاً طويلاً عن مراسيم جلوس السلطان أحمد الثالث .
ويُبان من قراءة ببلوجرافية لموضوعات الصحيفة حتى عام "1800"، أنها نشرت نحو ثلاث وستين معلومة ذات صلة بمدن وأرياف العراق. اقتصر معظمها على أحداث عابرة وأسماء ومسميات، مع خلوها من مقالات ذات طابع تحليلي، وفي معظم الأحيان لا يرد اسم المراسل أو صاحب النص.
ونعرف من منشور "مجموعة التقارير الدبلوماسية" أن أول خبر تنويري نُشر عن بلاد الرافدين كتبه الدبلوماسي بطرس تولستوي في مطلع القرن الثامن عشر ضمن موضوع "أحوال الشعب التركي عام 1703"، وبصيغة تقرير موجه إلى مسؤول الشؤون الخارجية الروسية الأدميرال غولوفين، ضم إجابات على أسئلة وضعت في ملف "17"، أو ما يسمى بالمواد السرية المقررة على سفراء روسيا، الموجب التقيّد بها وإعارتها اهتماماً كافياً في العمل الدبلوماسي. استند الدبلوماسي تولستوي في إعداد تقريره إلى مصادر أدبية، ومعلومات منوعة من جهات عدة عززها بملاحظاته الشخصية. وفيه نجد وصفاً لبلاد ما بين النهرين ومدنها العريقة. والغريب أنه لم يتم نشر النص الكامل للتقرير إلا في عام "1913".
فضلاً عن هذا، وردت توصيفات أخرى عن حواضر بلاد الرافدين في كتابات الدبلوماسي أندريان نيبليويف، بينها مذكرة أعدّها بناءً على رغبة الأمير يوسوبوف، رئيس هيئة التجارة الروسية، الذي رام الحصول على معلومات وافية عن اقتصاد تركيا وتجارتها مع البلدان الأجنبية. ويُذكر أنّه كان يعتزم تسيير خط ملاحة يمر عبر البحر الأسود. وعند المؤرخين تُعد هذه المذكرة أول محاولة روسية لوصف الجغرافية الاقتصادية للسلطنة العثمانية. ومع هذا فإنَّ المنشورات الروسية في القرن الثامن عشر، المحفوظة في أرشيفات روسيا، التي تم الاطلاع عليها لا تمنحنا معلومات أزيد من تلك الإخباريات التنويرية الضئيلة عن بلاد الرافدين.
فيما سجل القرن التاسع عشر تعاظم الاهتمام الروسي بأوضاع بلاد الرافدين وشمل نواحي جديدة؛ الجغرافية- السياسية والتجارة والدراسات اللغوية والآثار الحضارية للبلاد ومُركَبها العرقي والديني. وحينذاك اهتمت الصحف والمجلات الأكاديمية والثقافية، وبقدر ملحوظ، في نشر تقارير الدبلوماسيين والمستشرقين الروس ودراساتهم، وانطباعات الرحالين الذين أمّوا حواضر بلاد الرافدين وأريافها، بل وأعادت نشر كتابات الصحفيين والعلماء الأوروبيين عن أحوال العراق وحضاراته. ومن المهم أن نذكر هتا ما سجله الفلاح الروسي المغدور ديمينتي تسيكولين من انطباعات؛ "مغامرة ورحلة غير مألوفتين للفلاح الروسي ديمينتي إيفانوف تسيكولين وهَلمّ جَرَّا"، على صفحات مجلة "أرشيف الشمال".
ومع أنّ تسيكولين كان ذا تعليم متواضع، غير أنّه بدا فيما كتب متابعاً ومراقباً نبهاً لأحداث عاصرها وأقوام عاشرها. ونعرف من كتابات تسيكولين أنَّ للعراق ما يتصل بأحوال ولايتي بغداد والبصرة. ويُخبرنا أنّه أبحر على متن سفينة من بغداد إلى البصرة. ويطلق على مدينة البصرة مسميات عدة منها ما يوائم أسماءها التاريخية؛ البصرة و"تدمر" و"بوستر" و"بصرترو" و"باصاورا". ويقول في الجزء الثاني من تسجيلاته؛ "حدد لي داود باشا عشرين قرشاً للمعيشة وجهزني بملابس كافية".
ويُخبر أنه صادف "هناك!"، بعد مضي وقت معين، جنديين من تتار قازان هاربين من الخدمة العسكرية. ويومها بث لهما سرهُ أنّه ينوي التوجه إلى مدينة القدس، للسجود في الأماكن المقدسة، فأشارا عليه السفر بنهر الشط. وفعلاً عزم التوجه إلى البصرة، وكادت تلك الرحلة وما أعقبها من صعاب أن تكون أخر المطاف في حياة هذا التقي الذي عانى لسنوات قيود السجن وعبودية الآسر ومخاطر القتل والتشرد في الجبال والبراري، لا لشيء سوى أنّه شد الرِّحال كأرثوذكسي لتأدية فريضة الحج في الأرض المقدسة، ولا بُدَّ أنَّ ننقل وطراً من تلك المُعاناة القاسية التي عرضها تسيكولين في مدونته؛ "أركبني صاحب إحدى السفن العربية على متنها. وبعد ستة أيام من الإبحار في نهر الفرات هاجمنا قطاع الطرق العرب، وقتلوا منا "24" شخصاً. لكني نجوت ومعي "11" راكباً، ويومئذ أعطيناهم وبلا مقاومة "برضائنا"! كل ما كان معنا على السفينة، لذا تركونا أحياءً". واصلنا الإبحار في الشط والفرات ودجلة و "مورات!". وبعد ثلاثة أيام من سلبنا وصلنا مدينة "بوستر" "البصرة"، ورد في حاشية أخرى "بَصّورة"،. وهنا وجدت القس الكاثوليكي، كان روسياً أيضاً؛ نصحني في التوجه إلى مدينة بغداد وزودني برسالة إلى صاحبه، وطلب منه أن يستقبلني بلطف. وحين وصلت مدينة بغداد، بحثت عن معارف القس وصاحبه، وحين وجدته سلمته الرسالة التي بحوزتي. وبالفعل استقبلني برضاء جيد، إذ أعطاني نقوداً، وفوق هذا، زودني بما أحتاجه من أشياء أخرى.
وهنا لا بُدَّ من أن أقول شيئاً ما عن موقع بعض المدن التركية "العربية" وعن سكانها العاديين. المدينة التركية بَصترو "بَصّورا" واقعة قرب الخليج "الفارسي" الذي تصب وتتحد فيه بمجرى واحد خمسة أنهار رائعة، وهي: الشط والفرات ودجلة ومورات، ونهر أخر لا أذكره أسمه "لعله أراد أن يقول نهر كير". ومن جميع الجهات تضفي عليها أشجار النخيل أبهةً وجمالاً. هذه الأشجار محملة بثمار "خورما- التمر"، مظهرها شبيه تماماً بجوز البلوط، أما ما هو طعمها فهذا ما لا أعرفه. مع أن تناولها مفيد للصحة. ويعتبر العرب هذه الثمار مقدسة. وهم لا يشربون سوى الماء وحده، أما لأنهم لا يعرفون صنع أي مشروب حامض أو أنهم معتادون على الماء فقط. في هذه المدينة "بصّور" مرفأ يستحق اهتماماً خاصاً، إذ ترسي فيه سفن ذات حمولة صغيرة قادمة من البنغال والدانمارك والبرتغال وغيرها من البقاع. ويشير الرَّحال تسيكولن إلى أن فقراء العرب يجلبون الآجر من خرائب بابل وينقلونها على الجمال.
ــــــــــــ
باحث وأُستاذ جامعي روسيا