ادب وفن

محمد مهدي الجواهري وعلاماته في كتاب سليم البصون/ جاسم المطير

بنوع خاص من الثقة اقول انني مبهور بالطريقة التي تعمل بها دار نشر في القطاع الخاص العراقي وهي تحمل وعياً تاماً بحرية القول والابداع. يسرني كثيرا القول أن ورشة الابداع في نشر الكتب ما زال متواصلا في دار ميزوبوتاميا – بغداد ويبدو ان هذه الدار العراقية الفتية لا نجدها حاملة تصورا متكاملا لمفهوم واهداف النشر والتسويق الثقافيين فقط،، بل تحاول تحقيق بعض احلام ورؤى الكتاب والمؤلفين والمبدعين العراقيين، الذين لم تتهيأ الشمس لتنوير مؤلفاتهم وهم يعانون همّاً كبيرا عنوانه (همّ النشر)، خاصة اذا ما عرفنا أن امكانيات القطاع العام في وزارة الثقافة ووزارة التعليم العالي والجامعات العراقية كلها تسير في خطوط لم تثبت ،بعدُ، أنها يمكن أن تقدم فرصة حقيقية لمكافأة تجليات آمال المثقفين العراقيين المتفائلين في ان تكون بغداد مدينة (التأليف) و(الطباعة) و(القراءة ) في آن واحد.

هذه الدار ، يمسك بإدارتها وتمويلها كاتب ومثقف - مازن لطيف - استطاعت خلال مدة قصيرة أن تتجاوز صعوبات النشر، المتشابكة والمعقدة في هذه الظروف بالذات، بما تنشره ،نوعاً وكماً ، من مختلف أجناس المؤلفات والأبحاث والكتب، أدّت ،بدون شك ، الى توسيع وعاء المعارف والثقافة العراقية ،خصوصا اذا ما عرفنا أن عدداً كبيراً من القراء العراقيين يجد قيودا ثقيلة تعيق امكانية شراء الكتاب المستورد بسبب ارتفاع اسعاره . إن اي اطلاع على لائحة الكتب التي نشرتها دار موزبوتاميا نجد غالبيتها العظمى تهتم اساساً بالقضايا الفكرية وبالموضوعات الجادة في الرواية والشعر والسياسة والتاريخ وأن واحداً من منشوراتها أنهيتُ قراءته للتو ، هو كتاب ألفه بشجاعة صديقي القديم ، الصحفي الموهوب سليم البصون، الذي ولد وعاش في بغداد ثم اضطر للسفر الى اسرائيل ليتابع بضجرٍ عميقٍ لكن بوعيٍ عميقٍ كتاباته هناك عن العراق ومبدعيه . كانت أوقاته التي قضاها مع شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري صديقاً له ومحرراً في جريدته (الرأي العام) قد جعلته مندفعاً وصافياً لتأليف كتاب عنه كان قد بدأه ببغداد وأتمه بإسرائيل ثم قررت زوجة البصون مريم الملا وابنته نيران وابنه خضر ان يصدر الكتاب ببغداد وفاء لتربتها واعترافا طبيعيا بحبه لها.

قبل البدء بحديثي عن هذا الكتاب لا بد من الاشارة الى انني كنت متابعاً، يوماً بيوم ، لجهود الصحفي التقدمي النشيط سليم البصون في انجاز المضمون الأساسي له اي كل ما يتعلق بالأسئلة والأجوبة المتبادلة بين البصون والجواهري، فقد ارتبطتُ بعلاقة صداقة قوية مع سليم البصون و اصبحتْ تلك الصداقة متينة جدا بعد أن جمعنا زمن مشترك في العمل بصحيفة الراصد البغدادية، التي كنتُ سكرتيراً لتحريرها 1970 - 1974 حيث كان العمل الصحفي العراقي في تلك الفترة يحتضن نوعاً من الخضرة والأمواج التي تسمح للكائنات الصحفية الحرة أن تجد لها مكاناً نابضاً في رحبة معينة.

بالمصادفة ، ذات يوم من ايام رغبتي بشراء سيارة من معرض بشارع السعدون قرب ساحة الاندلس قابلتُ صديقي سليم البصون ،الذي كان له الفضل في نشر بعض مقالاتي في جريدة الجواهري في الخمسينات وجريدة محمد حسن الصوري (الحضارة) في الستينات حيث اصبحتُ لفترة وجيزة مراسلا لها في البصرة . في يوم اللقاء عام 1970 بمعرض السيارات تعاقبتْ لقاءاتنا في غداء أو عشاء أو في بار من بارات شارع أبي نواس ثم كان من سعادتي أن اجس نبض البصون من جهة للعمل معي محرراً في جريدة الراصد التي كنت اعمل فيها سكرتيرا للتحرير، كما غمرتني سعادة أكبر بموافقته وموافقة مصطفى الفكيكي صاحب الجريدة محرراً بأجر زهيد لا يزيد على 30 دينارا شهرياً . قال البصون يومها تعقيباً على اقتراحي : (انني اضع يدي بيديك ) مثلما قال الفكيكي : (ان الجريدة شتلة بين يديك) معرباً عن عدم ممانعته باشتغال البصون محررا نشيطا فيها .كما رحبت الشاعرة عالية ممدوح ، المقيمة حالياً في باريس، رئيسة تحرير الجريدة آنذاك ترحيباً كبيراً بانضمام البصون للعمل في الجريدة. في اليوم التالي كان سليم البصون مسئولا عن الأخبار والتقارير الثقافية والفنية .

كنا ، أنا وسليم البصون، الذي عرفته صحفياً وطنياً ، مبدعاً ، مليئاً بالطاقة والقدرة على التفاعل مع النخبة التقدمية العراقية ، نقترب من بعضنا في جو أخوي عام حتى جاء يوم صارحني فيه بمشروعه الثقافي الحساس مع محمد مهدي الجواهري، الشاعر الذي لم يجد اي مانع ابداعي من الموافقة على مشروع البصون في اعداد كتاب يمثل بعض تجاربه الشعرية وبعض انعكاساتها واثارها في الادب العراقي والعربي . كان الجواهري ،كما اخبرني البصون، يثق في العين التحقيقية الصحفية التي يتمتع بها هذا الصحفي الناضج العقل والتجارب بسبب عمله القريب معه منذ خمسينات القرن العشرين وانه قادر على توظيف نوع من (الاسئلة) ذات المسحة الابداعية القادرة على اجتذاب الجواهري لنوع من (الأجوبة) ذات البناء الخاص يكون لها حضور متميز في العملين الادبي والصحفي معا .

منذ بداية عمل البصون بمشروعه كان يخبرني عن ذلك خطوة خطوة. كان يطلعني على الاسئلة واجوبتها وعن لقاءاته مع الجواهري في بيته بمحلة القادسية – الكرخ حتى صار عدد صفحاتها اكثر من 150 صفحة بدفتر من النوع المدرسي. كان الجواهري يجيب على الاسئلة بخط يده وهو كما معروف خط متميز جدا ليس له شبيه على الإطلاق ، لكنه مع ذلك كان يضع توقيعه في اسفل الصفحة توكيداً لأقواله. كذلك كانت هناك بعض صفحات من الورق الفولسكاب مرفقة بالكتاب ايضا. وقد حملتْ بعض الصفحات افكار وانتقادات واحلام الجواهري . كما حملت ثلاثة او اربعة من تلك الصفحات (وصية الجواهري ).. منها ما يتعلق برغبته في ان يُدفن بعد رحيله الى جانب زوجته الأولى ( أم فرات) وقد كنتُ قد كتبتْ مقالاً في بداية آب عام 1997 في جريدة الحياة اللندنية بعد بضعة ايام من رحيل الجواهري طالبتُ فيه من عائلة الجواهري محاولة الحصول على نص الوصية من سليم البصون، الذي لم اكن آنذاك اعرف هل هو على قيد الحياة أم أنه من الراحلين . كما كنت قبل ذلك قد أخبرتُ عن بعض مضامين الوصية - اظن في عام 1995 او عام 1996- صديقي رجاء الجصاني اثناء وجوده في بيتي بعمان، قادماً من مقر إقامته في النمسا، خلال الفترة التي كان فرات الجواهري يعالج مرض (السرطان) لدى أحد الأطباء الأردنيين . كما أنني كنتُ في عام 1980 قد أخبرتُ الصديق فرات الجواهري نفسه عن محتويات مشروع كتاب سليم البصون وعن وصية الجواهري بالذات . كما كنت قد أخبرت رجاء الجصاني ، أيضاً، عن وصية أخرى بخط وتوقيع الجواهري عن ملكيته البسيطة وعن أرثه البسيط أودعها لدى الصديق محمد الجزائري سبق وأن أطلعني عليها، وهي الوصية التي أودعها لديه بعد مقابلته الصحفية النادرة مع الشاعر الخالد .

لا شك ان الملاحظة الأساسية التي اسجلها بعد اطلاعي على الكتاب الصادر بقلم سليم البصون انه لم يكن مكتملا كما كنتُ قد اطلعتُ على مسودته الاولى. ففي المسودة ،كما أتذكر، اسئلة عديدة عن الشعر الحر وبعض تفريعاتها وعن الشعراء العراقيين والعرب المحدثين . لم أجد اجوبة الجواهري منشورة في الكتاب الصادر مثل رأيه بشعر السياب ونازك الملائكة والشاعر المصري معين بسيسو وغيرهم . كما كانت هناك بعض الاسئلة عن رأي الجواهري في ما تعانيه المرأة العربية من قهر وحرمان. كما تضمنت المسودة آراء الجواهري بـ(الجنس اللطيف) وبالتكنولوجيا الجديدة وبالمستويات التي احاطت بالأدب العربي في تلك الفترة وهناك كان سؤال عما يحلم به الجواهري بمستقبله وبمستقبل الادب العربي كله وحسبما اتذكر ان جواب الجواهري كان يتضمن نبوءات كثيرة بما لا يقل عن 5-6 صفحات فيها الكثير من الوضوح والدلالات والسرد الساخر والتشويق . كانت آراءه بين الواقع والمتخيل بمادة ذات مفردات نقدية رائعة.

لا ادري لماذا لم يتضمنها الكتاب الصادر. هل ضاعت صفحاتها من سليم البصون ام جرى حذفها بعد وصوله الى اسرائيل بدافع التبصر بالنشر..؟ كما هو معتاد عليه. إذ كان يردد امامي دائما : ان التبصر بالكلمة الصحفية والأدبية يشكل واقية ضرورية للأفكار التي يجب ان لا تغرق أو تصطدم ببضع كلمات او ببضعة سطور قد تضيّع مسار أو أهداف سلسلة الأشكال الفكرية ، التي توضح مجموعة من الافكار يراد ايصالها الى القراء.

في عام 2010 و 2011 كانت قد وردتني بعض الرسائل الالكترونية من السيدة نيران ابنت الصديق سليم البصون المقيمة في لندن كنتُ قد ابديت لها استعدادي - في إحدى رسائلي إليها - لكتابة (مقدمة الكتاب) في حالة الرغبة بنشره وقد ابدت سرورها التام. كما اخبرتني برغبة والدتها المقيمة في اسرائيل بزيارتي في لاهاي لاطلاعي على المتن الاساسي للكتاب لغرض إلقاء نظرة مدققة له قبل كتابة المقدمة لتكون على قدر من الإحاطة بتفصيلات الكتاب وتفريعاته ،خاصة وقد كنتُ أنا آخر اصدقائه وربما الوحيد خلال الفترة الاخيرة من وجوده في بغداد وكنتُ الوحيد الذي يخبرني بمحاولات الحصول على جواز سفر لأبنه خضر المتخرج بتفوق من كلية العلوم بعد حصوله على قبول من احدى الجامعات البريطانية لإكمال دراسته العليا باعتباره مواطناً عراقياً طامحاً لخدمة بلده، وقد نجح البصون فعلا في اقناع وزير الداخلية العراقية بالموافقة على سفر أبنه بما يملكه من لباقة وحجة. كما كان بعد سفر أبنه يخبرني بجهوده في الحصول على جوازات سفر له ولزوجته مريم ولأبنتيه نيران وكهرمان وكنت بالفعل آخر من ودّعه قبل يوم واحد من مغادرته بغداد التي يحبها.

بعد عدة رسائل متبادلة بيني وأبنته انقطعت السيدة نيران عن الاتصال بي ثم قرأتُ اخبار صدور كتاب أبيها ( الجواهري.. بلسانه وبقلمي) في بغداد وقد وصلتني نسخة من ناشره السيد مازن لطيف مدير دار ميزوبوتاميا ،ومن خلال اطلاعي عليه وجدتُ الكثير من الافكار والآراء الموضوعية المكتوبة بخط الشاعر العظيم الجواهري قد فارقت الحياة .

ابتدع سليم البصون منهجا خاصا في لقاءاته مع محمد مهدي الجواهري. قام هذا المنهج على تقديم اسئلته بصورة مبتكرة ومن دون اي محتوى فظ او استفزازي ، لكن ليس بصورة تقليدية. مثلا كان سؤال البصون عن رأي الجواهري بالكتاب الذي كان قد اصدره عبد الكريم الدجيلي المعنون ( الجواهري شاعر العربية) فأن السؤال لم يكن استفزازيا لكن جواب الجواهري حمل اوصافا شديدة بحق مؤلف الكتاب الذي كان قد تضمن بعض الاقوال المسيئة عن الجواهري كما عبر عن ذلك بعض أصحاب الجواهري ممن قرأ الكتاب.

لقد حاول البصون في لقاءاته مع الجواهري ان يستحصل على بنى معلوماتية تتعلق بالبيئات التي احاطت بحياته وبإنتاجاته الشعرية الابداعية وقد قسم كتابه الصادر ببغداد بعنوان (الجواهري ..بلسانه وبقلمي) في عام 2012 الى ستة فصول تناولت رؤيتين واسعتين من صياغة (الأسئلة) ومن صيغة (الأجوبة) حول واقع الشعر والادب المرتبط بحياة وفعاليات ومكانة شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري وهي فصول مارستْ وظائف شعرية اختبارية تتعلق بالجواهري عبر عمليات تبادل اسئلة واجوبة مثلما مارستْ بعض الفصول الاخرى قراءات صحفية بقلم سليم البصون. بعض من تلك الصفحات كانت قد نشرت في جريدة الراصد البغدادية وبعضها الاخر نشرت في مجلة العلوم اللبنانية حين اشترت الشاعرة العراقية عالية ممدوح امتياز اصدارها لعامين وكان يرأس تحريرها فعلياً ،خلال ذينك العامين، الشاعر العراقي بلند الحيدري.

تضمن الكتاب مقدمتين. الأولى بقلم الدكتور شموئيل سامي موريه اكد فيها قيم الشعر العراقي ومكانته في الجمال الادبي، كما تناول الاساس الجمالي في كتاب سليم البصون عن الجواهري وعن سبب نشره في بغداد . المقدمة الثانية كانت بقلم الدكتور خضر سليم البصون تناول فيها الدلالات المكثفة عن جهد والده في تأليف الكتاب الذي كان نتيجة التبصر الادبي عن شعر الجواهري الذي يتميز به سليم البصون المتواصل مع الجواهري مما جعله قادرا على التعمق في جزئيات ذاكرته ونشاطه العقلي.

في الصفحة 59 من الكتاب ورد سؤال البصون الى الجواهري: متى بدأت شرب الخمرة وقد جاء جوابه منشورا في الكتاب ب12 سطرا بينما كان جوابه بما لا يقل عن صفحتين - كما اتذكر - وفيه امثلة كثيرة اتذكر انه كتب ما معناه: لولم يكن أبو نواس خماراً لما نال الخلود..!

في الصفحة 61 سؤال عن المرأة كان الجواب المنشور مقتضبا بينما كان الجواب الذي ظل في ذاكرتي لم يخلو من التطرق الى الجنس والى نظريات فرويد حول الجنس بصراحة وفصاحة وطول اسطر..! اي انه تحدث عن الواقعية الجنسية في حياة الناس، رجالا ونساء ، كما اشار بوضوح وتهكم الى الواقعية الجنسية في حياة الشعراء القدامى والمعاصرين . اتذكر ان له قولا في السراويل النسائية ايضاً.

في بضعة اسطر اخرى كان الجواهري في احد اجوبته ساخرا بالقول ما معناه ان ما يجذب الناس منذ قديم الزمان هو الشعر والجنس والخمر لكن الاثرياء وحدهم كانوا يتمتعون بهذه الرتابة الثلاثية بينما الفقراء يظلون مزدحمين في المقاهي والفراغ .

بينما فاجأني ان الكتاب الذي بيدي جاء من دون تلك الاسطر.

على اية حال يظل هذا الكتاب بفصوله الستة المتنوعة يستحق التقدير والتثمين بالمبادرة المشتركة من قبل عائلة مؤلف الكتاب سليم البصون وكاتب المقدمة شموئيل سامي موريه ودار موزموتاميا فقد قدموا لتاريخ الادب العراقي ولتاريخ الجواهري الكبير جانبا مهما من صفحات حياته المتصلة بالواقع العراقي السياسي والاجتماعي والثقافي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بصرة لاهاي في 1 – 6 – 2014