ادب وفن

د.سعدي المالح.. رحيل قبل أوانه/ بطرس نباتي

مساء يوم الجمعة المصادف 30/ حزيران/ 2014 في تمام الساعة السابعة اتصل بي صديقي العزيز سعدي ليخبرني بأنه يشعر بضيق في التنفس، وبعد أقل من ساعة فارق الحياة وهو بين أيدينا، نعم ترجل فارس من فرسان الثقافة، اختطفت يد المنون قامة عراقية عملاقة في الأدب والثقافة والفكر ألا وهو القاص والروائي الدكتور سعدي المالح المدير العام للثقافة والفنون السريانية، سعدي يرحل بدون وداع وبسرعة يفارق الحياة بيننا ، يا لشقائنا وتعاستنا كيف لم نستطع إنقاذه ؟ لقد كانت وفاته المفاجئة صدمة حقيقية لنا جميعا وللوسط الثقافي العراقي وخسارة حقيقية للثقافة العراقية والكردستانية والسريانية بشكل خاص.

بدايات مشواره الثقافي

ولد سعدي في عام 1951 في عائلة كادحة، قدمت العديد من الشهداء كقرابين غالية على مذبح الحرية، أمثال عبد الأحد المالح والدكتور الشهيد حبيب المالح والشهيد صبري المالح "شقيق سعدي"، منذ وقت مبكر من عمره، شغف بالقراءة والتقصي في بطون الكتب وخاصة الأدبية منها، عمل في بداية مشواره مع الكتابة في مجال الصحافة وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة حيث تقدم للعمل ككاتب تحقيقات صحفية في جريدة التاخي والتي كان يرأس تحريرها المرحوم دارا توفيق، يقول عنه فائق بطي "جاءنا سعدي إلى الجريدة وعملنا معا كان شابا يافعا كله نشاط وحيوية استطاع خلال ايام قليلة أن يكسب ودنا واحترامنا لشخصه ولكتاباته الجريئة الهادفة، وقد أرتاينا بان يرأس مكتبنا الصحفي في اربيل".
ثم عمل في جريدة الراصد مترئسا مكتبها في أربيل أيضا، في هذه الفترة المبكرة من مشواره الادبي في الكتابة قدم للقراء باكورة أعماله القصصية في مجموعة قصصية حملت عنوان "الظل الآخر لإنسان آخر" التي طبعها في اربيل، وكان غالبا ما ينشر مفالاته وتحقيقاته الصحفية في جريدة التاخي وطريق الشعب والراصد ثم أصدر مجموعته القصصية الاخرى "حكايات من عنكاوا"، تعرض الى الملاحقة من قبل الاجهزة القمعية للنظام السابق لكونه من المنتمين إلى الحزب الشيوعي العراقي تنظيم الموصل.

رحلته إلى الاتحاد السوفيتي

أضطر سعدي ان يترك العراق منذ عام 1974 حيث حصل على منحة دراسية في الاتحاد السوفيتي وهناك واظب على الدراسة الجامعية بعدها حصل على الماجستير آداب قي الادب العربي، ثم حصل على دكتوراه في علم الكلام والصوتيات، رغم انشغاله في تحسين مستواه العلمي والاكاديمي، لم ينقطع سعدي عن الادب والكتابة مطلقا فقد ترجم عشرات الكتب والمقالات من الروسية الى العربية وبالعكس.
بعد تخرجه قام بالتدريس في إحدى الجامعات الليبية ولمدة أربع سنوات.
هجرته إلى كندا

طلب سعدي اللجوء إلى كندا، واستقر في مونتريال، اصدر في كندا في بداية مكوثه هناك جريدة "المرآة" حيث كانت تعكس واقع الجالية العراقية والعربية في ذلك البلد واستمرت بالصدور لحين تركه بلد الهجرة كندا، واستقراره في الوطن بعد 2005، وفي كندا ايضا بذل جهوداَ حثيثة من اجل إصدار مجلة ثقافية فكرية باسم "عشتار" حيث صدر العدد الاول منها في سنة 1999 تخللت فترة هجرته إلى كندا محطة أخرى وهي عمله في الامارات العربية للمشاركة في تحرير إحدى المجلات التي كانت تصدرها وزارة الداخلية هناك.

آثاره الادبية

في الامارات أصدر مجموعته القصصية الاخرى بعنوان "مدن وحقائب"، بعدها عاد الى كندا يواصل مسيرته الثقافية وليهدينا رائعته وباكورة اعماله الروائية والتي حملت عنوان "فرج الله القهار" التي ترجمت الى اللغة الكردية والسريانية والان تترجم الى اللغة الانكليزية، والتي حظيت بمجموعة كبيرة من الدراسات من قبل أكاديميين وأدباء، ثم كانت جهوده في الفترة الاخيرة منصبة على عمل روائي آخر قيل عنه الكثير وكتبت عنه العديد من الدراسات وخصصت له جل صفحات مجلة "شرفات" وهي مجلة تعني بحداثة الأدب والفن والمعرفة والتي يرأس تحريرها الدكتور محمد صابر عبيد والتي تصدر الآن في الموصل، وهي رواية عمكا والذي من خلالها اراد سعدي ان يخلد مدينته عنكاوا التي احبها والتي استقى معظم ثماته القصصية من خلال ما جرى فيها من احداث ومن شخوصها ورموزها وتراثها، فخرجت عمكا كما ارادها رواية سردية استذكارية تتناول مختلف جوانب الحياة في هذه القرية بثوب مدينة، فعلا استطاع سعدي بملكته الادبية الثرة وبخزينه الفكري ان يسمو بعنكاوا واهلها وان يسير على خطى كبار الادباء كديكنز وهوكو وفيشر وغيرهم الذين خلدوا مدنهم لندن وباريس وبرلين وموسكو او طاشقند في روايات رحمانوف أو غوركي او الروائي العربي نجيب محفوظ في تخليده للقاهرة في روائعه الادبية.
لسعدي مؤلفات عديدة اخرى منها مؤلفاته المترجمة إلى اللغة السريانية منها حكايات من عنكاوا أو روايته فرج الله القهار التي ترجمت إلى اللغة الكردية، ومؤلف قيم حول الصحافة الكردية للحزب الشيوعي العراقي من 1944 ولغاية 1972 وهو من منشورات نقابة صحفي كردستان (2008) وكتاب آخر بعنوان الثقافة السريانية وهو عبارة عن مجموعة مقالات في الشأن الثقافي السرياني طبع ضمن سلسلة الثقافة السريانية وكتابان آخران في الشأن القومي..
وقد ألف باللغة الانكليزية كتابا طبعته منظمة "الجسر إلى ايطاليا" وهي إحدى المنظمات العاملة في شأن التبادل الثقافي في العراق وايطاليا، أرشف فيه المخطوطات والمكتبات والحالة الثقافية عند الاديان والاثنيات في العراق، هذا إضافة إلى دراسات عديدة ومقالات نشرها في مجلة بانيبال وطريق الشعب والتاخي وغيرها من الصحف والمواقع العربية والعراقية.

العودة إلى الوطن

بعد انتفاضة آذار 1991 زار الوطن عدة مرات هذا الوطن الذي هٌجَر منه قسرا وكان لا يفارق خياله لحظة واحدة عاد ليتمتع بدفء أحضان بلدته "عنكاوا" التي كان قد فارقها منذ أكثر من ثلاثة عقود.
لقد عمل سعدي بعد عودته النهائية إلى موطنه كردستان وإلى بلدته عنكاوا ، أولا في قناة عشتار الفضائية منذ بداية سنة 2005 ولغاية نهاية شهر تشرين الثاني 2005 أستقال من القناة ليحتل مقعدا تدريسيا في جامعة صلاح الدين كلية الاداب لتدريس اللغة الانكليزية فكان يشرف سنويا على عدة دراسات في الماجستير والدكتوراه، ثم تم نقل خدماته كمدير عام للثقافة والفنون السريانية التابعة لوزارة الثقافة والشباب في حكومة أقليم كردستان في عام 2007.

المؤتمرات التي شارك فيها

شارك سعدي في مؤتمرات عديدة منها داخل الوطن وخارجه وألقى فيها محاضرات قيمة عن الثقافة واللغة السريانية، وقد وثقت المديرية العامة العديد منها، فقد كان من المشاركين في مؤتمر لندن للقوى السياسية العراقية وكذلك في مؤتمرات ثقافية في انكلترا وأمريكا وفرنسا وماردين في تركيا وجميع المؤتمرات والحلقات الدراسية في اربيل ودهوك والسليمانية..

عمله في المديرية العامة للثقافة السريانية

في الشهر العاشر من عام 2007 وكلت إليه مهام مدير عام الثقافة والفنون السريانية، عمل بعد أيام من تسنمه المركز على أحياء الذكرى الأربعين لوفاة الشاعر الكبير سركون بولص ثم توالت نشاطاته الثقافية والفنية، بحيث لا تتسع صفحات مجلدات بكاملها كي تسع قسماً منها، لقد تمكن سعدي بقدراته الثقافية ومهاراته وقابليته للعمل المتواصل بدون الشعور بالتعب، في تفعيل المشهد الثقافي والفني السرياني، فقد استطاع من خلال نشاطاته الثقافية في التأسيس لثقافة رصينة ومنهجية وترسيخ لتقاليد ثقافية وضع اسسها سعدي من خلال عمله كمدير عام للثقافة والفون السريانية منذ 2006 ولحد الآن، حيث عمل بجد على مد الجسور بين المثقفين العراقيين جميعا من خلال حلقات دراسية عن دور الكلدو اشوريين السريان في الثقافة العراقية وحلقات اخرى عن العلاقات الثقافية بين الكورد والكلدو اشوريين، او تلك الدراسات والكتب التي عمل على طبعها من خلال سلسلة الثقافة السريانية، وكان يبذل أهتماما متميزا بمجلة بانيبال منذ ان تولى رئاسة تحريرها فحولها الى مجلة اكاديمية تعني بالشأن الثقافي السرياني، في الوقت ذاته عنى باصدار صحيفة مردوثا سورييتا "الثقافة السريانية" كصحيفة شهرية وملحق لمجلة بانيبال كما عمل بجد على تأسيس مديرية التراث السرياني ومتحفها واضعا تفاصيل البناء والعمارة ولحد إكمال جميع محتوياته وهو يحمل لمساته وتوجيهاته في جميع محتوياته ومقتنياته التراثية، إنطلاقا من حبه وحرصه على هذا التراث الثر من الضياع والاندثار..
ومن أراد أن يتعرف اكثر على عمل سعدي كمدير عام الثقافة والفنون السريانية، ليطلع مشكورا على أنشطة المديرية العامة التي ذكر قسم منها في كتاب صدر بجزئين ويقع في 432صفحة من الحجم الكبير وهو من إصدارات المديرية العامة للثقافة في سنة 2013 وعنوانه "خمسة سنوات من الإبداع المثمر"..
سعدي لم يعرف التعب يوما، كان في كل صباح يوم جديد يخرج بفكرة أو مشروع ثقافي جديد، يحضر للمستقبل بخطوات مدروسة، يعاونه في كل أعماله ومنجزاته الثقافية كوادر من موظفي وموظفات المديرية العامة للثقافة السريانية ومديريتي اربيل ودهوك ومديرية التراث والمتحف السرياني، وبمؤازرة جميع المثقفين من أبناء شعبنا كان يتقن ويجيد اللغات الروسية والانكليزية والفرنسية والكردية والعربية إضافة إلى اللغة الأم السريانية تحدثا وكتابة، لقد كانت له قابلية عجيبة على تعلم اللغات وإتقانها..
للأسف رحل سعدي قبل أوانه، رغم أننا لم نكن نتوقع هذا الرحيل المفاجئ الذي آلمنا جميعا..
وداعا يا صديق عمري وداعا.. والعهد منا بأننا سنواصل ما بدأته في منجزك الثقافي وسنعمل باذلين ما بوسعنا من أجل تنفيذ رغبتك وامالك في تطوير وإنماء المشهد الثقافي في أقليم كردستان والعراق عامة والسرياني بشكل خاص.