ادب وفن

الاحتيال على الواقع وصناعة الوهم / حميد حسن جعفر

يحاول قاسم والي الخروج عن صخب الصمت وضجيج السكون. عبر ثمانية وعشرين قصيدة. سبع عشرة منها تنتمي لقصيدة التفعيلة التي يسميها الدكتور عبد الواحد لؤلؤة قصيدة العمود المطور مع وجود إحدى عشرة قصيدة تنتمي إلى القصيدة الكلاسيكية
الشاعر يكتب تحت قوة البوح. تحت سلطة ضرورة التخلص من حالة الاحتباس / الصمت هذا القفص الذي يعمل بعيداً عن التخطيط، يعمل على الغاء توالدات الشاعر عبر الاحتراق والخروج من بين رماد حرائقه.
قاسم والي، شاعر صنعته القصيدة الكلاسيكية، إلّا أنها لم تستطع أن تخنقه. لم تستطع أن تكبله بسلطات الخليل بن احمد الفراهيدي، رغم الوجود الوفير لمفاصل القصيدة التراثية ليمد مجساته في حقل قصيدة التفعيلة محاولاً نفض ما على كتفيه من سكونية نظام تكريس النسق الشكلي الذي لا خروج على سلطاته. وإن كانت قصيدة التفعيلة تشكل في يوم ما ثورةً على الموروث. وعلى القيم التي تستند عليها قصيدة الكلاسيك العربية.
إن خروج الشاعر على سلطات القصيدة الكلاسيكية لم يكن خروجاً هيناً، يعتمد على تدمير الشكل فحسب ، بل كان ضمن حالة من القصدية التي تعمل على تحميل شكل قصيدة التفعيلة بخصوصيات الكائن البشري، الخارج توّاً من محرقة استطاعت وبحكمة الفحولة وسلطة الأب، والأخ الأكبر، أن تحول الكائنات البشرية إلى حالة من القطيعية، من أجل صناعة مجد الحروب.
القصيدة الكلاسيكية التي يكتبها - قاسم والي - لا يمكن أن تفتقر لشروط القصيدة العربية التي وضع لها الآخرون لا الشعراء قوانين وأنظمة كثيراً ما كانت تشكل وسائل لقمع الشعر أولاً، ولقمع القصيدة ثانية والمتلقي ثالثةً. لذلك كان الخروج على الخطوط الحمراء التي كثيراً ما وضعها الحسّ الجمعي، حيث الشفاهية والمنبرية، واعتياد الموسيقى/ الأوزان المتعارف عليها. لذلك لم يستطع الآلاف من الشعراء أن يدمروا ما يحيط بهم ليبتلعهم النسيان. هؤلاء الشعراء لم تكن ينقصهم سوى قدرتهم على صناعة المختلف. والذي صنع من الآخرين شعراء خالدين.
إن بشار والمتنبي وأبو تمام وأبو نؤاس، والبحتري لم يكونوا شعراء اعتياديين بل كانوا وليد البحث عن الاختلاف والمغايرة، وليد الجادات غير المطروقة وليد قول ما لم يستطع أن يقوله الآخرون.
الشاعر العربي شاعر مظلوم. وأعني به شاعر القصيدة الكلاسيكية. شاعر يعيش في فضاء القهر، رغم حالات الاختفاء المؤقت. شاعر لم يستطع أن يتغلب على طغيان الماضي المتمثل بـ "الكلام الموزون المقفى" الشاعر الحامل لصخرة سيزيف من استطاع أن يلقي بها جانباً، استطاع أن يدخل فضاء التغيير. فضاء الكتابة المختلفة الآلاف من الشعراء والشواعر يكتبون المتداول.
الآحاد من الشعراء هم من يكتبون بعيداً عن المشابهة أو التماثل. قد يتحول أحدهم إلى مخترع لغة أو مخترع وزن، أو مخترع صورة.
أو يصير أحدهم مكتشفاً للموسيقى. أو مكتشفاً لطرق البحث عن اللامكتوب.
قصيدة - قاسم والي - من الممكن أن تشكل الكثير من مفردات القصيدة العامودية، فيها من جزالة اللغة وجماليات التراكيب واختلاف الصورة الشيء الكثير. فيها من الأوزان والقوافي ما لا يخالف الأولين أو الآخرين من الشعراء الورثة غير أن السؤال الذي من الممكن أن يكون كبيراً هو هل بإمكان شاعر القصيدة الكلاسيكية أن يأتي بما لم يأتِ به السلف الصالح من الشعراء ؟ هل بإمكانه أن يخلق حالة تجاوز وضمن الأشكال التي تحد من طموحات الشاعر المعاصر، وطموحات القصيدة الحديثة؟، لا أحد ينكر ما للوزن من سلطات، وما للقافية من قدرة على صناعة القناعة بما يطلق الشاعر من كلام / شعر.
إلّا أن تحولات المجتمع العربي لم تستطع أن تدفع بسلطانها إلى فضاء، قوانين كتابة القصيدة الكلاسيكية هل كان الشاعر والقصيدة يقفان خارج حركة التاريخ والمجتمع؟
لم يكن هذا الفشل فشل صناعة المغايرة بسبب عدم جدارة هذه التحولات في صناعة فن التأثير. بل بسبب إحساس الشاعر والقارئ واللغوي والإنسان العربي بصورة عامة . هذا الإحساس المنتمي إلى القدسية قدسية التراث وقدسية اللغة التي رفع الله لواها
إن بقاء القصيدة الكلاسيكية في قمقم كهذا لا يمكن تجاوزه إلا عبر تدمير هكذا قمقم وإطلاق الكائن الجني / إلى الحياة/ الخارج / الجني الذي لم يكن سوى الشاعر نفسه.
***
قاسم والي، شاعر استطاع أن يخرج من القمقم رغم الطمأنينة والأمان وراحة البال رغم الجمهور والمنبر والتصفيق إلّا أن كِسَرَ وغُبارَ القمقم هذا لم تزل تشكل الكثير من الوشم على جسد وذاكرة الشاعر الذي يعيش في دواخل - قاسم والي -
قاسم والي، شاعر من الممكن أن يكون انتماؤه إلى الصنف المتميز ضمن القصيدة الكلاسيكية ، تلك القصيدة التي من الممكن أن تدفع بالمستمع أولاً وأخيراً إلى التضحية بالروح من أجل الوطن - ولكن لا يمكنها أن تدفع به إلى التضحية من أجل البناء.
2
هل بمقدور الشاعر كحالة إبداعية أن يتحول إلى مفكر أو إلى فيلسوف محكوم بأصول وتصورات ومنطق. رغم التقاطع الحاصل ما بين المفكر/ الفيلسوف والشاعر؟ فمنذ أن فكر الفلاسفة باختراع المدن الفاضلة التي من الممكن أن يدير شؤونها العقل والمنطق والانضباط الصارم.
وقبل ظهور الفلاسفة كان الإنسان الأول ومنذ أن تعلم صناعة الحلم قد وضع أسسه النظرية لتلك المدينة عبر مفصل المخيلة. تلك المدن المنفلتة حيث المخيال واللاواقع وربما الشيء القليل أو الكثير من الفوضى.
لأن الشعراء خاصة قوم غير منضبطي الأفكار والسلوكيات. رغم خضوعهم لقوانين الواقع تلك التي كثيراً ما تكون عرضة لخروقاتهم .
عند نقطة التناقضات والاختلافات ما بين الفلاسفة والشعراء يتحرك الشاعر ما بين هموم السرد متمثلة بأفكار الواقعية السحرية . تلك الهموم التي صاغها العقل والواقع وليس المخيال والحلم.
ما بين / غابريل غارسيا ماركيز / الذي بات يفكر أكثر مما يكتب. والشاعر - قاسم والي - يرتل لأوروكه أكثر مما يفكر بما ستجره عليه لعبة الكتابة من أحزان ومواقف مضادة وقسوة في الكشف.
هل من الممكن أن يشتغل الشاعر على أكثر من حقل في آن واحد ؟
يتخيل ويحلم من جهة ويتأمل ويفكر من جهة أخرى!
هل يعمل على ادغام الأنا بالآخر، والذاتي بالموضوعي والدواخل بالخوارج ؟ هل من الممكن أن يتحول الغاطس/ الباطني إلى عائم/ ظاهري؟
القارئ للتراتيل لا بد له من أن يفسح الكثير من فضاءاته لطروحات الشاعر ومدنه إذ عليه أن لا ينشغل بطرف على حساب الطرف الآخر بعد أن وضع الشاعر العديد من مفاتيحه الفكرية عبر ارتكازه/ أفكاره على فن العصر/ السرد متماهياً خلف السارد. بعيداً عن اتهام القارئ له بخيانة النص الشعري المتوارث/ الكلاسيكي، قد تكون كتابة قصيدة التفعيلة تشكل جانباً مهماً من جوانب الخيانة الشريفة للقصيدة الكلاسيكية . الجانب الذي منحه الكثير من الثقة بالنفس وبالقدرات عبر امتلاك الشاعر لأصول وقوانين كتابة قصيدة العمود. إذ لا بد من أن الآخرين من اللغويين والعروضيين وشعراء الكلاسيكيات من أن يظهروا قدراً كبيراً من عدم رضاهم واستنكارهم لفعلة- قاسم والي - عبر تحولاته نحو شيء من الحداثة في الكتابة ومن الممكن أن لا تكون الأخيرة.
قد لا يختلف - قاسم والي - عن زملائه ومجايليه في كتابة القصيدة العامودية التي تنتمي إلى الحاضر أكثر من انتمائها للماضي. حيث تبدو أن القصيدة اليومية التي نادى بها السبعينيون والثمانينيون من شعراء قصيدة النثر القصيدة اليومية هذه من الممكن أن تجد لها مكاناً فسيحاً في نصوص - قاسم والي - بعيداً عن أغراض وقصديات القصيدة القديمة.
فبالرغم من وحدة البيت الشعري التي تتشكل عبرها القصيدة القديمة وكذلك الحديثة من كتل ووحدات إلّا أن الشاعر القديم لم يستطع أن يستغل هذه الشرعية في كتابة الاختلاف. إذ بقي ذلك الشاعر أسير الدوران حول هذه القصيدة غير قادر على مغادرة المركز نحو المحيط. المحيط الذي من الممكن أن تتداخل في فضاءاته القصديات والأغراض ليُشكل الفعل صاحب الجينات المختلفة وصولاً إلى كتابة القصيدة المختلفة.
3
قد تشكل "الأنا" أنا الشاعر نقطة ارتكاز لمعظم القصائد على الرغم من وجود شخصيات قد تكون رئيسة.
فهو ينطلق من "أناه" المحاصرة. حيث الضغط الواقعي/ المادي، القمع الحصار الحروب وحيث الالغاء الفكري وتدمير الرأي الآخر.
حيث يجد - قاسم والي - نفسه محاصراً. حيث لن يجد أمامه من سبلٍ سوى الذهاب - وليس الهروب - إلى الماضي. حيث يتحول الإنسان المطارد إلى ضحية. أو إلى فريسة جسدياً . أما روحياً فسوف يظل الحصار يشكل فضاءات من السمو ليشكل الوطن/ تلك الجغرافية التي تشكل هاجساً من هواجس الشاعر- ليشكل الوطن بمرجعية مادية لا تقل شأناً عن مرجعياته الفكرية/ الدينية تحديداً.
إن قارئ / تراتيل اوروك / لا بد له من أن يستحضر مدلولات الأناشيد الدينية حيث تتوفر كميات هائلة من الأسى غير القابل على النفاد.
إذ أن الشاعر يزاوج عبر ثريا الديوان ما بين المحسوس/ السمع / ترتيل والملموس/ الأرض أوروك. غير بعيد عن الاعتراف بمنبرية القصيدة التي يكتبها القصيدة العمودية لديه رغم كونها مدونة يجب أن تقرأ إلّا أنها تظل بحاجة إلى حنجرة تصدح وأذن تستقبل.
هذا الجانب يشكل ميزة هامة من ميزات القصيدة الكلاسيكية فهي نتاج للمرحلة الشفاهية لسكان الجزيرة على الرغم من أن عراق اوروك حصراً والبلدان العربية عامة قد مارست الكتابة ومنذ أكثر من خمسة آلاف عاماً أو أكثر، إلّا أن المدونات لا يمكنها أن تنمو بعيداً عن الأنهار/ ظهور المدن والمدنية وظهور التجمعات البشرية بعيداً عن مرحلة البداوة.
ورغم اهتمام العرب / عرب الجزيرة حينها / عندما بدأت الهجرات التي صاحبت الفتوحات الإسلامية / رغم هذا الاهتمام بالكتابة عندما تحول العربي من الخيمة والناقة والبحث عن الماء والكلأ، إلى القصر/ البيت ومعهد العلم والتقسيمات الإدارية.
رغم هذا وذاك ظلت القصيدة العربية تبحث عن مستمع. المتلقي/ المستمع، لا عن المتلقي/ القارئ.
وذلك بسبب رغبة الخلفاء والأمراء / عبر امتلاكهم سلطتي الدولة والمال / في أن يلقي الشعراء قصائدهم بين أيديهم عبر قصائد المديح.
قصائد / قاسم والي الكلاسيكية الاحدى عشرة / رغم فعل التدوين ورغم قراءة المتلقي، كثيراً ما تحث القارئ على رفع النبرة الصوتية وتحويل القراءة من العين والفكر إلى الحنجرة والأذن.
فهي/ القصائد شديدة الارتباط بالاسلاف. والحنين إلى الماضي، ورغم إيمان الشاعر بأن ما مضى لن يكون بأفضل مما سيأتي وبالتالي فإن المدن الفاضلة التي يبحث عنها الشعراء والتي يديرها الفلاسفة ستكون هدفاً لا يخلو من اقتراب حلوله.
قد يشكل "الإمام الحسين بن علي" وتضحياته الكثير من المرجعيات التي يتحرك وسطها الشاعر لحظة إحساسه بالظلم أو الغبن.
فالجبابرة كثيراً ما يتحولون إلى نقاط إضاءة كاشفة، فهي التي تكشف عيوب الحاكم المستبد كما تضيء محاسن الشهداء، أولئك الذين وقفوا بوجه الحكام الطغاة ليقولوا قولتهم.
وإذا ما كانت اوروك تشكل مرجعية مكانية للأسلاف وآلهتهم فإن اوروك المعاصرة سوف تحل روحياً في جغرافية أوسع. هي العراق كمرجعية مكانية قادرة على أن تمنح الشاعر لحظة تأمل. سيجد عبرها الشاعر الكثير من الحضور، من القوة من ديناميكية الحياة غير المؤجلة.