ادب وفن

مخيم المواركة.. واستحضار الماضي / رحمن خضير عباس

في روايته "مخيم المواركة" يعتمد الكاتب العراقي جابر خليفة جابر على الصياغات التأريخية المتداولة. يقوم بفحصها وتبويبها وتسليط الأضواء عليها، بشكل تختفي فيه الوقائع الحادة تحت تأثير الأبعاد الإيحائية للحدث. أي تلاشي فكرة السقوط السياسي للأندلس، تحت حجم الآلام التي تحمّلها الأنسان الموريسكي ما بعد السقوط، وهو ينوء بعبء انتمائه وهويته ودينه، وكأنه حامل لصخرة سيزيف.
لا الماضي يسعفه ولا الحاضر يرحمه، فيتعرض الى أبشع أنواع التنكيل والتعذيب والقتل والتدمير والإذلال والإستعباد الذي لم تعرف البشرية اكثر بشاعة منه. مرحلة زمنية كانت تطفو على صفيح الحقد الاثني والتكفير الديني والمذهبي.
وكأني بالكاتب وهو يخطو على أرض هشة، لا تتسع لمخيلته السردية المجردة، لذا فقد إستعان بالكثير من تراث حكائي وفكري ومعرفي، ليتسلح في جهده السردي. أزعم ذلك، لاعتبار أنّ الأرض التي يسلكها غريبة عليه، من الناحية الجغرافية على الأقل، وهو المشرقي الذي يعيش في التخوم الجنوبية لبحر البصرة. لقد غامر - وأثبت قدرته - بأن يتصدى لمرحلة حرجة من التأريخ الإسلامي. وهي مرحلة سقوط الأندلس ومحنة ما تبقى من سكانه من العرب والأمازيغ واليهود، والذين أطلق عليهم المورسكيين، وذلك لأن الكثير من الأقلام المغربية قد تناولت النتائج الكارثية بعد سقوط الحضارة الأندلسية، وانعكاساتها على العالم عامة وعلى شمال افريقية خاصة. واذا استثنينا الكاتبة المصرية رضوى عاشور التي كتبت "ثلاثية غرناطة" وربيع جابر اللبناني الذي كتب رحلة الغرناطي. فإنّ أغلب الكتاب الذين تناولوا هذا الموضوع روائيا، هم من الكتاب المغاربة, ومنهم واسيني الأعرج الجزائري والذي كتب روايته المعروفة "الليلة السابعة بعد الألف" وبن سالم حميش في روايته "هذا الأندلسي". وحسن أوريدة في روايته التي كتبها بالفرنسية "الموريسكي" والتي ترجمت الى العربية ،والتي تتناول مأساة الموريسكيين، الذين نكلت بهم محاكم التفتيش. وغيرهم من الكتاب في تونس أيضا. إضافة الى الكتاب الإسبان وأبرزهم خوزيه غارسيا الذي كتب روايته الزعفران والتي أكد في روايته الإبادة الجماعية بحق المورسكيين. وقد إستغرقت الأندلس جُلّ أعماله الروائية.
لجأ الكاتب جابر خليفة جابر الى تقنية الاعتراف، وكأنه قد استلم هذه الرواية من الرواة الأوائل، أي الأسلاف، حتى اجتازت مئات السنين لتصل الى عمار اشبيليو الذي بعثها الى الكاتب.
"لهذه الأسباب مجتمعة، ولكي لا يضيع القارئ في متاهة البحث عن المؤلف، قررت أن أدعي تأليف الرواية، واضع إسمي على غلافها".
ومن خلال طرافة هذا الزعم فانه ترك لنفسه حرية كبيرة في تناول الماضي من شرفة الحاضر، معتمدا على المصادر التأريخية المتداولة، مع استخدام حفرياته المعرفية للتنقيب عن الاحداث ودراستها من خلال مخيم مفترض، اجتمعت فيه شرائح من المثقفين والمعنيين بالشأن الأندلسي. وكان التركيز على متن الحدث، ومن ثم تحليله. أو صياغة الأحداث التي جرت قبل سنين على ضوء القيم الشائعة في وقتنا الحاضر. مما يطرح سؤالا: هل كانت القصاصات السردية لمخيم المواركة مجرد وقفة حضارية، ذات صبغة أخلاقية، لألقاء نظرة على محاكم التفتيش، وما تبعها من حرب إبادة ضد عنصر بشري، بحجة الخلاف الديني؟ هل هي إدانة للماضي المضرج بالدم والألم ودعوة الإسبان للتبرؤ من ماضيهم القمعي ؟ أم أن المخيم كان فعالية فنية وأدبية تلغي الحواجز بين الإنسان من خلال حتمية التواصل بين البشر بمختلف أعراقهم وأديانهم وهوياتهم؟
الذي يتمعن في الرواية جيدا. يجد أنها تتسع لهذه الأسئلة مجتمعة، بل إنها استطاعت أنْ تتهجى رموز الماضي بقسوته وجبروته ، لكي تسعفنا بفكرة مفادها: إنّ هناك صراعا أزليا ما بين التحضر والهمجية، ورغم انتصار الهمجية في لحظة زمنية، لكنّ حتمية إندحارها وسقوطها ،هو مسالة وقت فقط.
ينتزع الكاتب زمام المبادرة، ليوزع قصاصات السرد بشكل يجعل المتابع يلهث وراء الأحداث. ليس هنالك عقدة مركزية في متن النص، بل نثار هائل من التوزيع الحكائي، وكأنه يريد اقناعنا - كقراء - في أنّ عمار اشبيليو يراسل الكاتب الى منطقة الجمهورية. ويرسل له اخبار المخيم لحظة بعد اخرى وانه اي اشبيليو ليس غريبا عن روح المكان "حتى أنه ذكر الكوسج المحنط والمعلق قريبا من مكتب مدير مدرستنا". انه ربط ما بين الكاتب المشرقي الممثل بجابر خليفة جابر وبين الأصول المورسكية - المحتملة- وهكذا فالكاتب ينضح بالتعاطف مع هؤلاء البشر الذين نزفوا ألما وقهرا، وتعرضوا لابادة بشعة تحت مباركة الكنيسة الكاثوليكية، وتحت شعار الصليب الذي يرمز للتضحية والألم في سبيل البشرية. هؤلاء المورسكيون الذين تشظوا وهربوا الى كل أصقاع العالم، وقد تكون البصرة احدى محطات البعض منهم.
"عماراشبيليو سكن منطقة العشار في البصرة مع أمه وتزوج من فتاة بصراوية". هذه الروح الأندلسية التي تنتشر وتتوهج في كل منعطفات الرواية الناضحة بسعير الوجع الإنساني الكبير في حجمه وفي تأثيراته ،ولكنه لم يترك سوى ردود فعل خجولة، لم تصل الى حد الإدانة وتوجيه أصابع الإتهام الى القتلة. واذا كان اليهود الأندلسيون "المارانوش" قد حصلوا على اعتذار من ملك اسبانيا خوان كارلوس فان المواركة لا يستحقون مثل هذا الإعتذار!، مما استفز الكاتب وكأنه يصرخ:
"المارانوش الذين اعتذر لهم خوان كارلوس الملك، كانوا يهودا..
والمواركة الذين نسيتهم حتى مدارسنا ، كانوا مواركة!
تتأسس فكرة المخيم بمناسبة الذكرى المئوية الرابعة، أو كما تقول الرواية:
"ورسمنا تلك الليلة اول ايام 2009 بعد اربعة قرون من قرار الإبعاد الدامي، رسمنا برنامج المخيم وكان حافلا وغريبا بمساراته".
وسنحاول أن نستقصي انواع الخيم وفعلها، وطبيعة رؤيتها للأحداث الجسام التي مرت على المواركة. أصبح المخيم نقطة إنطلاق لكشف الماضي، وتسليط الأضواء على البقع المظلمة فيه. المخيم كان فرصة لكشف عورة التأريخ الذي كتبه منتصر لا يتحلى بالنبل والشهامة والصدق.
لقد حفلت الرواية بالأسماء الموريسكية التي تتكرر وتتناسخ باستمرار. وكأن الرواية تريد ان تقول ان حرب الإبادة للمواركة أنتجت مواركة آخرين، قادرين على الديمومة وعلى الاحتفاظ بموروثهم. لقد كانت المعالجة لوصف الإبادة موفقة، لأنها إستندت الى وثائق، استلها الكاتب من أرشيف المنتصر، والذي لم يخجل من أفعاله، بل كان يتبجح بها، من عمليات حرق للأحياء من المورسكيين الى مصادرة أموالهم وسبي نسائهم. لقد ازدحمت الرواية بعشرات الحكايات التي تتحدث عن السبي القشتالي وأعمال الانتقام التي تمت بدم بارد من قبل الكنيسة الكاثوليكية، في محاكماتها السيئة الصيت والمسماة بمحاكم التفتيش، والتي لم تكتف بحرق المسلمين أحياء، بل ذهبت بعيدا بفرض اشد عقوبات الموت والتعذيب، حتى إزاء المورسكيين الذين أعلنوا إعتناقهم للمسيحية. وكانت التهمة الجديدة وهي الهرطقة.
كما تناولت الرواية، وبصيغ متعددة الإجهاز على كل تركة الحضارة الأندلسية، بحرق الكتب وتغيير ملامح المساجد والسيطرة على الأملاك. كما تمثل ذلك بإغلاق الحمامات العامة وختمها بشمع أحمر، والتنكيل بمالكيها من المورسكيين "حمّام قمرين"، ثم محاولة تغيير البناء العربي الأندلسي للمساجد واستبدالها بالكنائس. حتى الصناعات التي تنمّ عن التحضر والصنعة التي اشتهر بها المورسكيون كالمايوركا، وهي لعب جميلة للأطفال والتي اصبحت عنوانا للجمال. حتى ان النساء إذا أردن المبالغة في وصف امراة قيل انها تشبه المايوركا. ولكن هذه اللعبة التي اصبحت شعارا للمورسكيين لم تسلم من حقد القشتاليين, حينما حكموا عليها بالإعدام اسوة بالإنسان. ولعل قرية السماكين تروي أبشع أنواع التعذيب نتيجة لرؤية الهلال من قبل بعض المواركة. وكانت التهمة التي لفقت لهم: هي السحر والشعوذة. وعقوبتها احراقهم أحياء.
كما تناولت الرواية ثورة المورسكيين ومنهم كاسياس - صانع المايوركا - والذي اصبح رمزا لإرهاب القشتاليين والذي شكل ثورة ضد الأحكام الجائرة في الإبعاد والإبادة، وقد كان قتله للقس والجنود والكتابة على أجساّدهم بلغة الخميادو "وهي مزيج من القشتالية والرومانية وتكتب بحروف عربية". وقد فك رموزها اليهود. مما حدا بالأسبان ان يشنوا ما يسمى بصيد الرؤوس وذلك إنّ حكومة قشتالة أعلنت: أنْ تمنح مبلغا من المال لكل من يقتل موريسكيا ويأتي برأسه، وهكذا استطاع الكاتب ان يصور لنا مشاهد موجعة من عمليات همجية في القتل والتمثيل بالجثث للكثير من الأبرياء العزل من المورسكيين. ولكي لا يبرر الاسبان همجية أجدادهم بحق العرب والمسلمين باعتبارهم غزاة وغرباء عن الأرض. أتى الكاتب بحوادث عن ابادة الهنود الحمر من قبل المستكشفين الاسبان الذين دخلوا العالم الجديد بقيادة المستكشف كريستوف كولمبس. وما حدث من غزو بربري لتلك الأصقاع النائية.
لقد ازدحمت الرواية بأسماء كثيرة ومختلفة، خليط من أسماء عربية وقشتالية وأسماء مهجّنة وأخرى مستعارة واخرى محوّرة، ولكنها تنتمي الى نسيج هائل بتأريخه وجغرافيته وإمتداداته. هذا النسيج إسمه الأندلس. استمر حقبة زمنية كبيرة تربو على ثمانية قرون. توهجت فيه الحضارة وازدانت العلوم والآداب، وعرفت الحضارة الانسانية خطوات عملاقة نحو التحضر والرقي، كما بنيت المدن الكبيرة وتأسست الدول وأنظمة الحكم واصول التنظيمات الاجتماعية والتشريعات والمدارس. فاصبحت معالم مضيئة، تلوّن ليل اوربا الدامس آنذاك، بقصورها وقلاعها وطريقة تنظيمها التي سبقت عصرها، وبتطور العلوم الهندسية والرياضية والكيمياء. وهيمنة الأدب والشعر والفنون. هذه الأسماء التي رصّعت الرواية، التقطها الكاتب من رحم الواقع الأندلسي. لم يتحدث عن بطولة امراء الطوائف الذين انتصروا أو إنهزموا، بل من خلال صفوف الناس البسطاء، جنودا وكسبة وعمال وفنانين وتجار ومعلمين وكتاب ورعاة وفلاحين، أي من عامة الناس الذين تحملوا عبء مرحلة بشعة من الانتقام والقسوة والقتل والإبادة. وذلك من خلال أطماع الحكام وحروبهم فيما بينهم، حتى أضاعوا ملكا وحضارة قلّ نظيرها. لقد وقع عبء المرحلة على من بقي من المورسكيين الذين كانوا ضحايا لأسوأ انواع الإبادة التي عرفتها الإنسانية. لقد كان الموريسكيون هم الأبطال الحقيقيون لرواية جابر خليفة جابر. هؤلاء المورسكيون الذين وصفهم الكاتب الأمريكي "واشنطون ايرفنج في كتابه الحمراء" بقوله:
"رفض المغرب العربي وجودهم، كما رفضتهم بلادهم التي كانوا فيها. لقد رفض الجميع اعتبارهم إلا كغزاة او لاجئين؟ ولذلك لم يبق لهم أثر الا في الصخور الحمراء، وبعض الآثار الشاهدة على عظمتهم وسيطرتهم كرمز إسلامي في قلب الأرض المسيحية.." ولذا فقد طفحت الرواية بأفعالهم كما طفحت بقصص قتلهم وحرقهم وإذلالهم وسرقة أموالهم.
كما اكتنزت الرواية بالكثير من أسماء العَلَم. مثل "الكاتب الأمريكي واشنطن ايرفنج، والفنان الهولندي بروجيل ودون كيخوتة الذي من غير المستبعد ان يكون موريسكيا ،وكريستوف كولمبس" وغيرهم من الأسماء الكثيرة التي مرت على صفحات الرواية، ورغم ان هذه الأسماء لم تساهم في السرد ونموه، ولكنها تحمل دلالات كبرى. مما يدل على أنّ الكاتب كان يعمد الى شحن روايته بالكثير من الأسماء والرموز والاشارات، مما يجعل القارئ متحفزا امام خيار الركض وراء معرفة المغزى الذي يرد في النص. كما يدل من طرف آخر على ثقافة الكاتب وعمق إنشغالاته الفكرية، التي تهدف الى الغوص في أعماق الماضي، لإدراك بؤس الحاضر. إنّ الرواية ذات قيمة فكرية سامية، لا تهدف فقط الى إثارة العبرة، بل تتخطاها الى مراجعة الذات، ومراجعة الأحكام ألجاهزة التي جعلناها بمثابة مسلمات. ولكي لا نبكي وطنا، قد نضيعه، كما بكى ابو عبد الله الصغير على غرناطة. وقول أمه الشهير "أجل، فلتبك كالنساء مُلْكا لم تستطع ان تدافع عنه كالرجال".