ادب وفن

الأهزوجة الشعبية.. وشرارة ثورة العشرين الخالدة / لفته عبد النبي الخزرجي

كان مضيف الشيخ عبد الكاظم الحاج سكر، هو المثابة التي شهدت نقطة الشروع في انطلاق الثورة، والتي اشتهرت باسم "الثورة العراقية الكبرى " جاء ذلك على خلفية اعتقال الشيخ محمد رضا الحائري من قبل السلطات العسكرية البريطانية في كربلاء مع مجموعة من أنصاره ومعاونيه، حيث تم إبعادهم الى الحلة ثم الى البصرة وبعدها إلى جزيرة هنجام.
هذه الحادثة حفزت الشيوخ ورؤساء القبائل ورجال الدين، للتشاور سريعا وتدارك هذا الأمر الخطير، فتقرر عقد الاجتماع في مضيف الشيخ عبد الكاظم آل سكر. وقد حضر الاجتماع (سادات العشائر ورؤساء القبائل، يتقدمهم السيد علوان الياسري، وسلمان العبطان، وعبد الواحد آل سكر، ومحمد العبطان، والسيد هادي المكوطر، والسيد نور السيد عزيز الياسري، وعبد آل صفوك، والشيخ رحومي الظالمي، والسيد مهدي باقر الحلي، وعبد الرحمن خضر، والسيد محسن أبو طبيخ، وهنين الحنون، وجري مريع، ولفيف من الرؤساء والزعماء الآخرين.)1
وبعد أن ناقش المجتمعون جملة الأحداث الأخيرة وتداعياتها.. قرروا إرسال كتاب الى عشائر الرميثة " العوجة "، فوقف الشيخ سلمان العبطان وجرد سيفه وسط المؤتمر وهو يهزج:
(بس لا يتعلگ بأمريكا)
ثم انه أطلق هذه الأهزوجة لتضاف لسجله الناصع في تلك الثورة:
(جدمنه الله و" نور" اعلينه)
ويقصد السيد نور الياسري احد ابرز رجال الثورة.
فكانت هذه الصيحة هي الشرارة التي ايقظت الجميع، " وصرخة دوت دوي المدفع " كما يقول المؤرخ عبد الرزاق الحسني.
وصل الكتاب الى العوجة، واستلمه الشيخ شعلان ابو الچون.. فكانت أهزوجته المشهورة، شرارة أخرى أوقدت فتيل المعركة القادمة:
(الما يتهيب مد إيده)
وانتفضت إحدى العماريات في العوجة لتطلق هذه الأهزوجة، المعبئة بالحماس والموشومة بوحدة الكلمة وتعبئة الثوار لمواجهة المعركة الحاسمة التي كانت تلك المرأة العراقية الأصيلة تراها، منطلقا لتحرير الأرض من دنس الأجنبي المحتل:
ويـــــــــن اليودي معصبي وي الوذان
ويخبر صبيان ألفنوني ونايف الجريان
يگل بريــــــــــس ويحشم آل شعلان
(العوجة اهتزت عينوها)
وعندما جاءت الليرات العشر.. وكسرت السجن، وأطلقت الشيخ شعلان أبو الجون من محبسه(2)، كان المهوال حاضرا:
گلنالك يديلي بطل الدسات
ما تدري العراگ اشبيه زلم آفات
من راحن عصر يمشن عشر ليرات
(فكوه وتمدد ناطوره)
وعندما انطلقت شرارة الثورة في الرميثة في 3. حزيران 1920م، كانت السلطات العسكرية البريطانية قد استعدت للمعركة وهيأت المعدات والطائرات والجنود، متوهمة أنها سترهب الثوار أو تفت في عضدهم، فأطلق الشيخ شعلان أهزوجته المشهورة:
بيه خيـــــر ويچثر عسكر وريلات
اسوارية وبيادة وفـــــوگ طيارات
العزم بالله وعزم حيدر ابو الحملات
(يتوزع واطروح انشيله)
وعندما تكون شرارة الثورة ورصاصتها الأولى قد انطلقت من الرميثة " العوجة ".. أطلق المهوال أهزوجته:
(ثلثين العفرم للعوجة)
وهكذا امتدت الثورة واشتعل أوارها.. وباتت تشمل منطقة واسعة جدا،(شملت جميع منطقة الفرات الأوسط وامتدت جنوبا حتى الناصرية، وشمالا حتى المحمودية، واشتملت على أهم مدن الفرات، ثم قامت حكومات مؤقتة من أهم المدن التي احتلها الثوار عنوة، وأخلاها الانگليز اضطرارا، استطاعت أن تحافظ على الأمن والنظام وتنشر الطمأنينة في النفوس، فلم يكن في وسع حكومة الاحتلال والحال هذه، إلا الاعتراف بالأمر الواقع، فاعترفت بشرعية الحركة، وطلبت المفاوضة معهم على أساس الاعتراف بمطالب الثورة الأساسية.)1
ولما شعر الثوار ان اغلب المدن أصبحت متضامنة في الموقف الوطني ضد المحتل الأجنبي.. وهكذا هزج المهوال:
لباله المصخم سبع ما ينرد
ويريد اعراگ ياخذ بارد أمبرد
اطبگوا بالناصرية كاظم ومنشد
" كسروه المغتر بأطوابه "
وعندما رفع الثوار، العلم العراقي فوق بناية متصرفية كربلاء، هتف المهوال:
(رف لا تتراعش يلهيبة)
لكن هذا الاعتراف كان محاولة لامتصاص زخم الثورة.. وهذا لم يكن غائبا عن عقل رجال الثورة، ولذلك كان المهوال حاضرا، ليعبر عن المكر والخدعة التي يراها في تلك السياسة:
دكسن خوش دكسن للعرب مكار
راعاها بسياسة ما يوج النار
ماهو مثل ديلي لعب لعب ازغار
(اتشلبة العيطة ودچيته)
وفي معركة السوير المشهورة.. كان الشيخ شعلان ابو الچون يحشد الجموع ويرتب الحشد ويناشدهم بأهازيجه الطافحة بالعزيمة وحب التضحية في سبيل الأرض والوطن:
اگلنلچ يا جامعة الحسن عيناچ
فن كوكز وديلي بعسكره يدناچ
كون اهلچ جفوچ احنه بطرب جيناچ
(خل يامن كلبچ يرعيعه)
ومن المعلوم أن الثوار حاصروا جسر السوير ومنعوا مرور القطار عليه، ولذلك أطلق المهوال أهزوجته:
" يسلام المحشر بحسيچه "
وحسيچه: قرية عند نهر السوير، اصطبغت بدماء جثث القتلى من جنود العدو.
وفي معركة الرارنجية المشهورة..
كان الشيخ مرزوك العواد زعيم العوابد يهزج أمام الثوار:
" ودوه يبلعنه وغص بينه "
وفي واحدة من حالات الشجاعة والاصرار والإرادة الوطنية العالية، تمثلت في مقاتل تم طعنه بحراب جندي بريطاني، وقبل أن يسقط امسك الجندي الذي طعنه واحتضنه بقوة وعزيمة وإصرار شديد وثبت أسنانه بعنق ذلك الجندي حتى قطع وريده وماتا سوية.. وعندما وقفت والدته على مصرعه.. كانت الأهزوجة حاضرة.. فرفعت عباءتها تلوح بها وهي تزغرد:
"عفيه ابني الچاتل چتاله "
ثم أنها واصلت تلويحتها بعباءتها مسترسلة ومسرورة بقوة وصلابة ابنها:
" حي ميت تچتل يجنيبي "
أما تلك التي علمت أن ابنها قد تم أسره من قبل العدو فإنها لم تتوان عن إرسال هذه الأهزوجة لولدها:
" بس لا يتعذر موش آنه "
فكان جواب ذلك البطل.. صورة صادقة على صلابة الثوار وعمق ارتباطهم بالأرض التي احتضنتهم.. وشرعية الموقف الوطني الذي يقاتلون تحت لوائه، وهكذا جاءت رسالته:
" حطوني بحلگه وگلت
آنه "
أما الشاعرة العمارية الفراتية (انجيدة) فإنها، وبعد ان وصلها خبر استشهاد ابنها، الذي لم يمض على زواجه سوى أسبوع واحد.. قد خاطبته بهذه الأهزوجة الرائعة:
"عربيد اسم أمك يالهيبة "
الشيخ عبد الواحد آل سكر، زعيم قبيلة ال فتلة.. قال هذه الأهزوجة.. وهو يؤكد تماسكه وقوة جنانه وعمق إيمانه بدوره في المعركة المقدسة ضد المحتل:
جميع الناس مني وانه بيها
ومواچب سرت كثره وآنه بيها
طيور ام العلا ترف وآنه بيها
" تندار الدنيا وهذا آنه "
وفي مراسلة جرت بين عجة الدلي زعيم البو جياش وزعيم بني حچيم عزارة المعجون.. لغرض توحيد المواقف وإدامة زخم المعركة وحشد العشائر:
هذا العلم هذا على الحرب منشور
ودمنه على الملاگه بكل مسية ايفور
دوك أسرع يطارش گل لبن مذكور
" يتلگه الصوجر واحنه وياه "
فأسرع ابن مذكور " زعيم بني حچيم " وبادر وهو يرفع العلم عاليا ويهزج:
عد وجهك يعجه العلم خله يرف
وعلى روس النشا مه بها الوطن يشرف
عزارة ايگول حاضر والصبح يچشف
" الخوش أزلام تبين بيه "
وعندما تمكنت قوافل الثوار في الشامية من طرد الحاكم نور بري وشتتوا قواته، وأصبحت الشامية بيد الثوار، كان المهوال يهزج أمام الثوار:
" هج ما حصلني ورد خالي "
ولكي لا ينسى الثوار معركة الشعيبة التي حصلت قبل ثورة العشرين، أعاد المهوال ذاكرته الحية، ليوصل رسالته إلى رموز وقادة الجيش البريطاني:
يهاملتن تيدب لا تزومش دوم
ذوله افروخ الازرگ موش اهل لملوم
نطلبك بالشعيبة وأعرضت هليوم
" رد لا تدهده بحلگ آفة "
وفي العارضية التي شهدت اشد المعارك وأعنفها.. وما صادفته تلك المدينة من قتال شرس ومقاومة عنيفة أقضت مضجع الانكليز وأرعبتهم كثيرا.. فكانت الأهزوجة:
هاي العارضية إلها اعلى الدول معتاد
كل جيش اليطبها يصيح منها الداد
الفالة ابظهر الآمر وصلت لبغداد
" ومشكولة الذمة على ألفاله "
وعندما عرضت حكومة البعث المقبور في العام 1985 فلم " المسألة الكبرى " والذي كان يتحدث عن ثورة العشرين، إلا انه تجاهل عن عمد وإصرار مسبق رجال الثورة وأهل الرميثة وقبائلها.. فما كان من الشاعر الراحل حداوي أبو عبد ألظالمي إلا أن ينهض بغضب ورجولة ويرتجل هذه الأهزوجة والتي يرد فيها على جملة الأكاذيب وقلب الحقائق في تصوير المعركة:
لون شعلان يدري انباگت الثورة
چا فج التراب وطلع من گبره
مهي بالسوير المسألة الكبرى
" الشاهد عدنه الشاهد احنه أيتام من العشرين "
وعندما كانت سواعد الرجال، تنقض على مدفع لجنود العدو وتأسر من فيه، والمقاتلون بسلاح بدائي جدا وهو " المكوار "، كان المهوال يطلق صيحته متحديا جنود وأسلحة العدو المحتل:
الطوب افخر لو مگواري...... الطوب افخر لو مگواري
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1) السيد عبد الرزاق الحسني: الثورة العراقية الكبرى.
2) زهير هادي الرميثي: الأهزوجة الشعبية في المثنى:منشورات مجلة الشرارة.
3) علي تايه: الأهازيج الشعبية.