ادب وفن

الاطار السردي في رواية تكسي كراون / نائل الزامل

تقوم رواية "تكسي كراون" للمؤلف حسن فالح، على اطار سردي يتعاطى مع الحدث بشكله الخارجي, والبطل هو صحفي يقوم بدور الراوي في النص, والرواية ضمن الروايات القصيرة, أعدَّت على شكل التحقيق الصحفي في بنائها السردي, وهذا الاطار كثر التعامل معه, ربما كونه مغريا جدا في الانفتاح على عوالم مختلفة ومتعددة, وقد أكثر من استخدامه الروائي علي بدر في أكثر من نص, وهذا الاطار الخارجي لحياة المحقق الصحفي غالبا ما يخلق لنا مستويين سرديين, الأول هو حياة الصحفي نفسه ومحيطه وهمومه ومشاكله وعلاقاته, والثاني هو ما ينقله السارد عن الحدث المحيط به, وهذه الأطر السردية قديمة في المبنى الحكائي, وقد اعتمد في حكايات ألف ليلة وليلة, التي تقبع في اطار سردي عام يحتوي مستويات سردية أخرى, وميزة الاطار السردي هو التوثيق حتى أن الكاتب يظن فعلا أن المتحدث هو المؤلف نفسه, لما يسمح به هذا البناء من تحمل ذكر أحداث وأسماء وأماكن واقعية, يقوم البطل الراوي بذكر انعكاساتها عليه, ورصف الأحداث الواقعية خالقا شراكة حقيقية مع المتلقي، مما يعمق التأثر في البناء السردي والتعاطي بذاكرة شخصية مع الأحداث, فضلا عن متعة الاكتشاف للأماكن والشخصيات بوصفها التقريري السردي.
يمثل "كاركتر" الصحفي الراوي في البناء السردي العراقي, نسبة تستحق الانتباه لها، لا سيما في روايات ما بعد 2003, كونه مغريا في الدخول الى عوالم مختلفة, هو يذكرنا بهيمنة محطات القطار على الرواية العربية في عقود سابقة, لما يمثله هذا التجمع البشري المتنوع من غواية سردية كبيرة, وتفاعل في الاحداث. وفي أغلب "كاركتر" الصحفي في الرواية العراقية، هو الحلم بالانعزال، فنجد الصحفي، اما ساكنا في أحد الفنادق الرخيصة، أو مستأجرا شقة بسيطة خاصة به يمارس حريته الشخصية، بعيدا عن أجواء عائلته المحافظة, ولعل هذا ما يحدث فعلا لأغلب الصحفيين العراقيين اليوم، لا سيما الذين جاءوا من محافظات أخرى, أو مناطق سكناهم بعيدة عن مراكز عملهم.
رواية تكسي كراون، وهو عنوان مفارق وملفت للانتباه, يستمده الروائي حسن فالح من السيارات المستخدمة لنقل 286 معدوما من طلبة جامعة بغداد جميعهم يحمل اسم "صباح", الى مقبرة وادي السلام في النجف, كون الشك يدور حول أحدهم، كان يقود تنظيما سياسيا مخالفا لتوجهات السلطة البعثية الدكتاتورية, ولعدم تمكنهم من معرفة الشخص المعني تم اعدامهم جميعا, تستند الرواية في تقديم هذا الحدث المهم على حكاية أحد الدفانين الذي حفر عشرة اماكن للدفن من بين ال 286 حفرة. وأحاط البطل الحدث بتعابير انشائية تخيلية ترتبط في أغلبها علاقة الاسم "صباح" واثر الموت المجاني له, وتخيل العلاقات الجامعية لهم.
مما يلاحظ على الرواية هو طغيان الاطار السردي لحياة الصحفي وذكرياته على الحدث الرئيس المهم في الرواية, ورغم أن حياة الصحفي جاءت بشكل سردي لطيف، لكنه يجعل القارئ يظن أن حدث اعدام 286 طالبا جامعيا فقط كون اسمهم متشابها ثانويا, أو انها قصة قصيرة تقريرية تم اكمالها باطار سردي لتتحول الى رواية قصيرة, هنالك أسئلة كثيرة كان على المؤلف تحريها لتوثيق النص ومنحه سمة الوثيقة المعرفية, منها, أن من شهد حالات الاعدام الجماعي يعرف أن الجثث كانت تنقل بسيارات حمل ولا توضع في توابيت كما جاء في الرواية, فضلا عن انها غالبا لا تدفن في المقابر المعروفة كمقبرة النجف, ويتم الحفر لها من خلال جرافات كبيرة, ولا تستأجر لها سيارات خاصة مثل التكسي, واذا ما تعمقنا في التتبع فان التوابيت ال 286 تحتاج الى عدد كبير من الجوامع, والكثير من الأمور التي انقصت مصداقية النص ومدى اقناعه للمتلقي, كما أن الصحفي لم يطلب من الدفان أن يدله على مكان القبور, فضلا عن كون الدفان قام بدفن 10 أشخاص, اذا هنالك 28 دفانا اشتركوا في مواراة جثامين الضحايا, لم يكلف الصحفي نفسه بالسؤال عنهم, أو أماكن عملهم, كما أن الصحفي يعرف أكثر من شخصية تملك سيارة كراون في منطقته, لم يسالهم اذا كانوا شاركوا أو سمعوا بالحادثة, لا سيما وأن هنالك 286 سائقا في بغداد شهد الحادثة, ولا بد انهم تحدثوا أو على الأقل بعد سقوط الدكتاتور سيتحدثون, كما لم يحاول الصحفي الذهاب الى السجلات في جامعة بغداد او من وزارة التربية ومحاولة العثور على أسماء ثلاثية لكل شخص يدعى صباح ومتزامن وجوده في أي مرحلة من مراحل الجامعة الأربعة لفترة الاعدام, تخلق له فسحة نصية واسعة، لا سيما اذا افترضنا مثلا أن اثنين أو أكثر تغيبوا بالصدفة في ذلك اليوم عن الحضور للجامعة وكيف عانوا من الرعب أو الهروب الدائم, كما يمكن أن يشتمل الأمر على تعرفه ببعض عوائل الضحايا أو تتبعهم أو حتى تقديم عذر بذلك كأن تكون سجلاتهم أتلفت, أو محاولة البحث عن من كانوا طلبة جامعة بغداد في فترة الاعدام والسؤال عن أي شخص اسمه صباح, أو حتى لو يصف مثلا كيف تم اقتيادهم وتطويق الجامعة, كي يكون نصا مكملا لحكاية الدفان المبتورة, الذي ادعى وهو في الليل انه فعلا رأى 286 سيارة كراون تحمل توابيت للضحايا, وهو أمر غير مقنع بالمرة, ان هنالك كما هائلا من الفعاليات السردية المتاحة للمؤلف ليتعامل مع هكذا خامة سردية ثرية جدا وقابلة للتوثيق, أما حكاية الدفان فهي قد تكون أضعف وثيقة بين الوثائق المتعددة التي يمكن أن يقدمها, مثلا أن جامعة بغداد بعد حادثة الاعدام ولمدة أربع سنوات لم يتخرج منها أي شخص يحمل اسم صباح, وهو ما يتطلب من الصحفي أن يقوم بمراجعته ويصف جهد المراجعة وكيفية استحصال الاوامر الجامعية القديمة.
عانى التفصيل السردي في بعض الأجزاء من الترهل وهذا ما نجده في تركيب بعض الجمل على سبيل المثال "ركنا السيارة في كراج لمبيت السيارات ليس بقصد المبيت وانما لأخذ استراحة ومن ثم العودة"، ولم تكن هنالك اي دلالة في هذا التفصيل الذي من الممكن اختصاره بجملة "ركنا السيارة" فقط. أو اضافة اسم كراج معروف في النجف مما يساعد على منح النص التوثيق, ومن الممكن الاستغناء عن الجملة برمتها, والاكتفاء بذكر المطعم. في جملة شبيهة "اتجهت السيارة باتجاه محافظة النجف جنوب العاصمة وتركنا بغداد الحبيبة خلفنا", وجملة تركنا بغداد الحبيبة خلفنا زائدة, أو كان من الممكن استبدالها محل الجملة الأولى, وغيرها كثر, كما وردت المسبحة الكبيرة أربع مرات في النص وفي كل مرة لشخص دون وجود دلالة رابطة. وعلى الرغم من كون الرواية قصيرة, الا أننا نجد استعمال أسماء متشابهة, مثلا سلام صديق الصحفي وأبوه البعثي, وأبو سلام الشيوعي السابق الذي اسمى ابنه حبا بسلام عادل, وكذلك, كاظم خطيب حليمة, والحاج كاظم الدفان, وناجي الحديثي وناجي الدبيسي والأخير يرد اسمه ربما سهوا بناجح في احدى المرات, كما أن هنالك تداخلا نصيا مع رواية فرانكشتاين في بغداد لأحمد سعداوي, وبما ان الروايتين قد صدرتا في عام واحد، فمن الصعب تحديد الأول، أو من قام بالتناص مع الثاني, قصة المرأة العجوز المسيحية وابنها الوحيد المفقود, وتقارب الاسم ايشو, وقصة الجندي كاظم والبائعة, وصف شخصية حسين الدليمي الذي يشبه الى حد ما هيئة حميد العتاك.
استمرت رواية تكسي كراون بالنظر الى الحدث الذي منحها هذا العنوان, من خلال الاطار السردي الخارجي دون الدخول في تفاصيل الحدث أو انشاء اطار سردي داخلي متفاعل مع الحدث أو استحضاره بصورة الفلاش باك أو باي شكل سردي آخر, فالاكتفاء بالاطار الخارجي لحياة الصحفي, كل ذلك لا يطغى على الحدث فحسب بل أضاع أهمية وعمق الحدث المطروح.
ان رواية تكسي كراون تحتوي على ثراء لخامة سردية مهمة جدا, والتفاتة رائعة لها من قبل المؤلف حسن فالح, وان لم تستنفد امكانياتها السردية، فهي تبقى رواية ذات عمق وتحوي على مستويات ابداعية فضلا عن كون الرواية قابلة لإنتاج روايات أخرى تستثمر الحدث نفسه وتتعامل معه بشكل آخر, ومن الممكن أن يقوم بذلك الروائي نفسه, لأهمية الموضوع الذي أشار اليه.