ادب وفن

الحكاية الخرافية / لفته عبد النبي الخزرجي

يعتبر فريد ريش فون دير لاين، الباحث الألماني الشهير أستاذا قديرا في دراسة الأدب الشعبي، فله دراسات وبحوث في تاريخ الحكايات الخرافية، ومواطنها الأصلية التي نبتت فيها وترعرعت في بيئتها، وتقمصت تقاليد شعوبها وأسهبت في نقل خرافاتها، ولم يقتصر بحثه عن الخرافة أو الحكاية الخرافية، لدى الشعب الألماني فقط، بل تعداه إلى مختلف شعوب الأرض، فقد استطاع هذا الكاتب والباحث المتمرس في عمله والمتمكن من صنعته، أن يضع أمام القارئ مجموعة من البحوث عالية المستوى في تناوله للحكايات الشعبية ذات المدلولات الخرافية، وكان أفضل ما قدمه "عالم الحكاية الخرافية" الذي صدر عام 1954م، كذلك اشترك مع مجموعة باحثين لإعداد بحوث مستفيضة ضمت أربعين جزءا من كتاب ضخم كان هو من أشرف عليه، تحت عنوان "الحكاية الخرافية في الأدب العالمي"، مما يعد انجازا كبيرا ومتميزا لهذا الباحث المثابر والكاتب القدير.
تقول الدكتورة نبيلة إبراهيم، التي ترجمت كتابه "الحكاية الخرافية" وقدمت له:"وقد دفع هذا بالكاتب إلى أن يغوص في معتقدات البدائيين ودياناتهم وتصوراتهم، معتقداتهم، فالحكاية الخرافية قدم الإنسان، وإذا شاء الباحث أن يصل إلى الصورة الأولى للحكاية الخرافية، لا بد له من أن يمسك بأول الخيط، فينقب عنها بين جوانب الحياة البدائية".
ولا يخفى أن دراسة هذا النوع من التراث الشعبي وعملية الإلمام بتفاصيله وحيثياته، ليست من السهولة بمكان، إن هذا الجهد الذي بذله الباحث في دراساته عن الخرافة الشعبية، ومتابعاته في التفاصيل والتفرعات واللغات واللهجات الشعبية المبعثرة هنا وهناك، لا شك من الأمور المكلفة وفيها من الصعوبة والتعقيد الشيء الكثير، كما أن مثل هذه البحوث لا يمكن أن ينهض بها شخص بذاته أو بمفرده، تقول الدكتور نبيلة إبراهيم:"إن الحكاية الخرافية ترجع بنا إلى عصور تسبق كل تاريخ مدون، كما أنها ترجع بنا إلى بداية الفن الشعري والى عالم آخر من الفكر والاعتقاد والحق والدين".
والحكاية الخرافية لها منابع نمت في ظلها وترعرعت في سواقيها وترسخت في أذهان الناس، تعبيرا عن حكمة أو غرض معرفي أو خاطرة متداولة، ففي كليلة ودمنة مثلا، ورد في المقدمة أن هذه الحكايات التي وردت في الكتاب والخرافة التي استوعبها هذا المؤلف المعروف، والتي جاءت على "لسان البهائم والطير صيانة لغرضه من العوام، وضنا بما ضمنه عن الطغام، وتنزيها للحكمة وفنونها، ومحاسنها وعيونها، إذ هي للفيلسوف مندوحة، ولخاطره مفتوحة، ولمحبيها تثقيف ولطالبيها تشريف".
والحكاية الخرافية لها "اتصال وثيق مع أساطير الآلهة، لأن العلاقة بين الأسطورة والحكاية الخرافية في الحضارات القديمة، متداخلة إلى درجة أن الشكلين لم ينفصل احدهما عن الآخر انفصالا تاما".
ورغم أن الحكاية الخرافية، قد ولدت في بلدان معروفة بعينها لتوفر البيئة المناسبة لقبولها والتعاطي معها، واكتسبت خصوصيتها من عادات وتقاليد وحياة الشعوب في تلك البلدان، إلا انه لم ينحصر موطنها في تلك البلدان بل أنها لم يكن لها موطن واحد، فهي متحركة وتنتقل إلى الشعوب الأخرى لتأخذ مساحات وفضاءات أوسع في انتشارها، وقد تجري عليها إضافات تنسجم وتتلاءم مع تلك الشعوب. ولابد أن نميز "بين الحكاية الخرافية وبين قريباتها من الأنماط الشعبية الأخرى، مثل الحكاية الشعبية وحكاية البطولة وحكاية الآلهة والأسطورة وحكاية الحيوان".
وهذا الإشكال الذي تكرسه التداخلات بين هذه الأنواع من الحكايات، لابد يضعنا أمام تحد آخر وهو ضرورة أن تكون هناك دراسات علمية تحاول أن تبين الحدود الفاصلة بين هذه الأنواع من الحكايات ذات المنابع والمصادر المتشابهة والمتباينة في الوقت نفسه.
ومن أقدم الحكايات الخرافية التي كانت لها دلالات تاريخية واضحة في تبيان قدرة بعض الشعوب على الاحتفاظ بحكاياتها الخرافية مهما امتد بها الزمن، وخلال حقب تاريخية سحيقة هي ما وصل الينا من حكايات خرافية عن وادي النيل وبلاد ما بين النهرين "ومع ذلك فإن أقدم الحكايات الخرافية التي وصلت إلينا مكتوبة تدل بحق عند مقارنتها بعضها ببعض دلالة تثير الدهشة على أن الكثير منها قد احتفظ بشكله من غير تغيير كبير عبر آلاف السنين. فنحن نملك حكايات خرافية لبابل ومصر يرجع تاريخها إلى ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح".
وهذا دليل آخر يؤكد أن الحكاية الخرافية، لها مناخات وفضاءات تعوم فيها، وبيئة تناسبها، لتمد اذرعها وتبسط سلطانها وتفيض معانيها وتؤدي رسالتها المعرفية ضمن واقعها الذي ولدت فيه "اذ أن الخيال اليقظ والقريحة الخصبة التي يمتلكها القصاصون الموهوبون، والمتعة في التشكيل والتزيين بل القصد إلى التعلم أحيانا، كل هذا غير من شكل الحكاية الخرافية".
ولا بد أن ندرك أن الحكاية الخرافية، تمثل تحديا معرفيا في حياة الشعوب البدائية، وخاصة عند شعوب الحضارات القديمة. وهي في إطارها الفني وأسلوب صياغتها والخيال الخصب الذي ساهم في سبكها واكساها تلك الملاحة والصورة الحكائية في إطار ظرفها وزمانها وبيئتها.
وقد ثبت للباحثين أن الحكايات الخرافية، تكاد تكون متداخلة بعضها مع البعض الآخر، مما يدعونا للاعتقاد أن الحكاية الخرافية عند الشعوب البدائية كانت تمثل حضارة تلك الشعوب، وعملية انتقال الحكاية الخرافية من شعب إلى آخر، كانت تحصل دون معوقات، بفعل قوة التأثير المعنوية للخرافة لدى الشعوب البدائية.
يحدد فرد ريش فون دير لاين، عصر الازدهار للحكايات الخرافية في القرن السادس قبل الميلاد، وفي مناطق محددة وهي الهند والإغريق. كان هذا في الفترة ما قبل المسيح، أما عصر الازدهار الثاني للحكاية الخرافية، فهو عصر الحروب الصليبية، وخاصة في القرن الحادي عشر الميلادي، حيث ظهرت الحكاية الخرافية في أوربا "ايطاليا وألمانيا".
ومن الحكايات الخرافية التي استأثرت باهتمام الباحث الألماني الكبير "ألف ليلة وليلة وما حصل عليها من تطور في مصر حتى استقرت على ما هي عليه الآن"، وكذلك هناك "المجموعات الكبيرة للحكايات الخرافية في الشرق، ويخص بالذكر منها مجموعة ملتقى التيارات لمختلف الحكايات للشاعر الكشميري سوما ديوا".
ومسار الحكاية الخرافية، لا يبدو عليه التوقف، فهو متواصل من بلاد سومر وأكد والوركاء ولكش وأور وحكايات ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة والأناشيد الدينية وما تمثله من حكايات خرافية وأساطير الشعوب الجرمانية والقائمة تطول، كذلك فالحكاية الخرافية لا يمكن أن تستقر على ارض واحدة أو أنها تعيش في موقع واحد، إنما هي متحركة.
وأبسط مثال على أن الحكاية الخرافية، ليس لها وطن واحد أو منبت بعينه، كما انه ليس أمامها سوى الانتشار والظهور بمظاهر تلائم البلد أو الشعب أو المنطقة، هو حكايات ألف ليلة وليلة، حيث إن هذه المجموعة من الحكايات الخرافية، قد انتقلت من الهند إلى بلاد فارس ثم إلى العرب ، وأخذت قالبا وشكلا جديدين، "ثم صنعت بعد ذلك فنا جديدا ممتازا".
ومع كل هذا فإن الحكاية الخرافية، كما يرى فرد ريش فون دير لاين "ليست ثرثرة عجائز ولا منطق لها، ولا هي اختراع صرف، وإنما هي ملك للشعب ونتاج قواه الشاعرية".
وهذا يقودنا إلى "حقيقة أن الحكاية الخرافية ليست شيئا بسيطا، بل صورة مركبة من كثير من التفصيلات".
"بنفي والحكاية الخرافية":
تيودور بنفي باحث متخصص في دراسة الحكايات الخرافية وذلك من خلال دراسته الأكاديمية في الأدب السنسكريتي. وقد استطاع أن يقدم لنا ترجمات موسعة ومفصلة للحكايات الخرافية في الهند، والأكثر أهمية انه تمكن أن يدخل إلى أصل الحكاية ويقدم معلومات تفصيلية عنها وان يعيد روايتها، كما انه أشار إلى أن الهند هي الموطن الأصلي للحكايات الخرافية ، وان أصلها "بوذية" لأغراض تعليمية وتربوية.
ويؤكد بنفي أن الحكاية الخرافية، قد تجاوزت موطنها الأول لتصبح ملكا مشاعا للشعوب التي دخلتها وأصبحت جزءا من تراثها وتاريخها، كما هو الحال في حكايات ألف ليلة وليلة وحكاية الأخوين المصرية وحكاية الوردة الشائكة وحكاية وعاء الرماد وغيرها. وحكايات البوذيين الخرافية التي أشار إليها بنفي، قد خلقت "من شواهد المعتقدات القديمة نماذج وفابولات ذات غرض تعليمي، وذلك من خلال توجيه النصح والإرشاد للملوك".
وفي إطار البحوث المتواصلة والمتباينة والعديدة، عن أصل الحكاية الخرافية وتاريخها وأساليب تداولها وطرق انتقالها، كانت وما زالت مدار بحث وتحقيق وتأمل، ويعزو أغلب الباحثين أن الحكاية الخرافية كان لها دور فاعل في الأسس الدينية، يذكر ذلك الباحث الانجليزي "ا ب تيلور" حيث يوضح ذلك في مؤلفه الرئيس "الحضارة البدائية" ويعطينا صورة تاريخية "في مجال علم تاريخ الأديان وعلم الأجناس البشرية كذلك في نواح علمية أخرى، مادة وفيرة لا نظير لها". ويؤكد الباحث فرد ريش أن "هناك تشابها يثير الدهشة بين التصورات الدينية القديمة عند سكان إفريقيا واستراليا وسكان آسيا القدماء وسكان الأمريكيتين، وعند الاسكيمو وسكان الجزر الجنوبية".
ونحن هنا أمام إشكالية محيرة ، كيف استطاعت الشعوب البدائية القديمة أن يتعرف بعضها إلى البعض الآخر، رغم تباعد المسافات والحواجز الطبيعية واختلاف اللغات وغيرها؟.
إلا أن الباحث دير لاين يؤكد تعقيبا على هذا التساؤل "وليس من الممكن بأي حال من الأحوال أن تكون هذه الشعوب قد اثر بعضها في بعض تأثيرا متبادلا، ومع ذلك فان آراءهم تتفق تماما أو تتشابه فيما يختص بطبيعة المرض والصحة، والنوم والحلم، وفيما يختص بالحياة الخالدة بعد الموت، ثم فيما يختص بالحيوانات والطبيعة الصامتة".
ولا بد لنا من أن نميز بين الحكاية الخرافية البدائية، وبين الحكاية الخرافية الفنية ذات الشكل المحدد. والحكاية الخرافية مقيدة "بقوانين شكلية وموضوعية، خضعت لها منذ القدم وما تزال تخضع لها حتى اليوم".
ومع ذلك فإننا نرى أن الباحثين لم يتفقوا على رأي موحد حول تاريخ الحكاية الخرافية وزمن ظهورها والشعب الذي أنتجها وموطنها الأصلي الذي ترعرعت فيه وأخذت شكلها وموضوعها منه. كما أن الآراء متباينة والتصورات ليست متطابقة. إلا أن المهم في الأمر هو أن الحكاية الخرافية قد أصبحت من البحوث ذات القيمة الكبيرة والمهمة جدا وان عددا كبيرا من المتخصصين كانوا قد وضعوا إشارات واضحة على أن الحكاية الخرافية تعود إلى مذهب العقيدة الروحانية في اغلب الأحيان، ولابد لنا أن ندرك أن حياة الإنسان البدائي ومخاوفه من أحداث الطبيعة ومعاناته في ظل الصراع والاخطار الكبيرة التي تواجه الإنسان الأول، وهو يتقاسم الغابة مع الوحوش والزواحف وظواهر الطبيعة، مما دفعه لإيجاد مصدات نفسية تؤهله للعيش والتعايش مع كل هذه المخاطر، فكانت الحكايات الخرافية، وما تضمنته من مغزى تربوي وروحي وعقيدة ساذجة، تمثل مخرجا من تلك الأوهام والمخاوف ومصدا نفسيا يبعد عن الإنسان البدائي بعضا من هذه التصورات والمخاوف والأوهام.