ادب وفن

رحيل الفنان والكاتب المناضل معين المظفر ذاكرة المدينة / عزيز الساعدي

في يوم 23 تموز 2015 رحل عنا القاص والفنان معين المظفر. فقد وجد ميتاً في غرفته المستأجرة في أحد فنادق منطقة البجاري المتواضعة، ذلك ان أهله في النجف وهو يعيش أعزب ومتشرداً.
لقد عشت مع الفنان معين المظفر أكثر من ستين عاماً، جمعنا عالم الفقر والكتب والنضال والفن. وسوف أقف هنا في محطات من حياته الشاقة ونضاله في سبيل حياة أفضل تحت وطأة الحكومات الدكتاتورية، تعرض خلالها إلى الاعتقال والتشريد والتعذيب والتسريح من وظيفته.
المحطة الأولى
كان لديه ستوديو في محلة البجاري الفقيرة يجتمع فيها شباب يساريون وشيوعيون، يستعيرون منه الكتب التقدمية ويستمعون إلى مكتبته الموسيقية ويشاهدون أفلامه السينمائية، والأفلام التي يصورها بنفسه، ولأنه كاتب قصة قصيرة فقد اشترك مع "جماعة البصرة أواخر القرن العشرين" وهم كتاب القصة الغاضبين على الأنظمة الدكتاتورية الذين أصدروا سلسلة من كتب الاستنساخ التي تضم الكثير من القصص المبدعة وأذكر منهم القاص المبدع قصي الخفاجي وغيرهم، ولفتت هذه القصص الانتباه بجرأتها في نقد الواقع السياسي والاجتماعي.
كما كان هناك مجموعة من المصورين الفوتوغرافيين الذين يجتمعون في محله.
أما أنا الطالب الجامعي حينذاك فقد كان يطبع لي صور الممثلين عرباً وأجانب لكي أبيعها مع الكتب أمام سينما الرشيد. ونتيجة لرطوبة الاستوديو واتخاذه سكناً له فقد أصيب بعدة أمراض من سوء التغذية والرطوبة.
المحطة الثانية
لفت التجمع الكبير للشباب الجامعيين في الاستوديو انتباه السلطات الحزبية البعثية فكتب عنه عضو شعبة حزب البعث المدعو "الجوزي"، وهو تاجر الزجاج المقابل للاستوديو تقريراً للأمن في العشار ضمنه: أن الاستوديو يضم خلية شيوعية. عندها جاءت قوة أمنية واعتقلته بتهمة تأسيس خلية شيوعية في الاستوديو. وقد تعرض للتعذيب على يد مسؤول أمن العشار وعذب بشدة لكي يعترف ونتيجة لصلابته في التحقيق لم يوش بخليته وأصبح قاب قوسين من الموت، وعندما أطلق سراحه ورايت جسمه الملوث من كدمات التعذيب قلت أن هذا المناضل لو لم يكن جسمه رياضيا- كان بطلا في كمال الأجسام- لمات في التعذيب.
وبعد أن أخذ إجازة الاستوديو بيع المحل وأصبح بلا عمل ولا سكن. اضطر للسكن في الغرف المتواضعة وأخذ يبيع الكتب في الشارع وقد تدهورت صحته لسوء التغذية.
لقد طرد قبل ذلك من وظيفته في محافظة البصرة واستطاع بجهوده أن يفتح محلاً للتصوير قرب مقهى الأدباء واستمرّ في العمل بهذا المحل لمدة سنة ولقلة الاقبال عليه لم يتمكن من دفع الإيجار فغادره ورجع إلى الشارع يبيع الكتب والمجلات، وأقام عدة معارض للصور الفوتوغرافية، ثم اشتغل في مكتبة الروائي علي عباس خفيف في مجلة البجاري ولقلة الإقبال عليها سرّح من العمل وأغلقت المكتبة. وبواسطة أحد المدرسين التقدميين حصل على عمل حارس في أحدى المدارس الخاصة براتب مئتين وخمسين ألف دينار وسرح من العمل بعد ثلاثة أشهر وعند اشتغاله في مقهى الأدباء أخذ يبيع الكتب في المقهى لأن راتبه كان مائة وخمسين ديناراً ولم يستطع المقهى الذي يشرف عليه الحزب الوطني الديمقراطي أن يدفع له راتبه لعسر ذات اليد.
المحطة الثالثة
ولكونه مصوراً مبدعاً فقد صور معالم البصرة بدءاً من الشناشيل في البصرة القديمة حتى أشجار شارع الكورنيش الضخمة والمطروحة أرضاً وكذلك صور الزوارق الصغيرة وأصحابها والصيادين وساعة سورين وساحة أم البروم وقد استعان به القاص المبدع محمد خضير عندما كتب قصص بصرياثا ونشرها في كتاب. كما أنه اشتغل مع فرق الهواة المسرحية وعرض أفلاما سينمائية وثائقية وطبع صوره التراثية للبصرة على صفحات كتابه وأشار لها كونها الصور للفنان معين المظفر.
المجد والخلود للقاص والفنان التقدمي معين المظفر ولكفاحه ونضاله في سبيل حياة أفضل لشعبه وبسبب طموحاته التقدمية وأفكاره تعرض للفقر والتعذيب والمرض- إصابته بداء النقرس والبروستات وسوء التغذية. عاش بطلاً مناضلاً ومات وفياً لمثله العليا ومن خصاله التي يندر أن تتوفر عند الكثير أني لم أسمع منه كلمة نابية أو سخرية من الآخر فقد كان ذا صدر رحب وبشوشاً محباً. طوبى للراحلين بلا وداع التاركين في القلب لوعة وفي مآقي العيون دمعاً مراقاً..