ادب وفن

"ترانيم الغواية".. التاريخ والتاريخ المصوّر / د. ابراهيم أبو هشهش*

تسعى هذه الورقة إلى تقديم قراءة أولية لرواية "ترانيم الغواية" لليلى الأطرش من خلال النظر في طريقة السرد الروائي في توظيف عناصر منتقاة مستمدّة من التاريخَين العام والمصغّر بهدف إقامة خطابه الرّوائي الخاص.
وإذا كان المقصود بالتاريخ العامّ معروفًا، فقد يكون الأمر في حاجة إلى بعض التّوضيح فيما يتعلّق بالتاريخ المصغّر "Microhistory"، الذي هو مصطلح حديث نسبيًّا، ازداد الحديث عنه بعد ثمانينات القرن المالضي بشكل خاص، ويُقصد به اتّجاه علمي حديث في البحث التّاريخي، يتوصّل إلى معرفته الخاصّة من خلال النّظر في تفاصيلَ دقيقة لمكوّنات أو وحدات بحثيّة جزئيّة تتعرّض لتجاهل المؤرّخين في العادة.
ولكنّ هذه التفاصيل في ذاتها ليست هي مركز اهتمام هذا الاتّجاه البحثي، ولكنّه يَستخدم هذه التّفاصيل الغنيّة بالدّلالات لكي يقدّم تفسيرًا أفضل وأكثر دقّة للمقولات التّاريخيّة في سياقها العامّ أو الكبير Macrohistory" ". أمّا مصادر هذا التاريخ فهي في العادة مصادر هامشيّة مثل المذكّرات والرّسائل الشخصيّة، والذاكرة الشّفوية، والصّور العائلية، وكذلك أشياء أخرى مثل المقتنيات المنزليّة والتّحف، والوثائق الخاصّة، إلخ...، فهو يبحث في ممارسة البشر اليوميّة لحياتهم وصولا إلى قراءة ملامح التّاريخ ومقولاته التي تندرج في السياق الزّمني العامّ، ويلتقي من هذه النّاحية مع فروع معرفيّة مجاورة مثل الأنثروبولوجيا التّاريخيّة، والتّاريخ العقلي الثّقافي، والتّاريخ الاجتماعي.
ولعلّ السؤال الأساسي الذي يمكن أن تتفرّع منه بقيّة الأسئلة في هذه الورقة، هو: هل يمكن فعلًا قراءة تاريخ مدينة القدس بشكل خاص وجزءٍ من التاريخ الفلسطيني والعربي بشكلٍ عام في هذه الرّواية؟ وهل يؤسس التآزر بين الواقع التّاريخي "الموضوعي" من جهة، والمتخيّل من جهة أخرى، بنيةً سرديّة تعتمد التّاريخ، وتحقّق شعريّة الرواية في الوقت نفسه، بدون أن ننسى أن الرواية في نهاية المطاف كيان تخييلي أدبي يستمد قيمته الجماليّة من إحالته إلى ذاته، ومن أيديولوجيّة الروائيّة، في حين أن التاريخ يستمدّ قيمته من خلال الحكم عليه بالموضوعيّة والحقيقة، بدون أن يغيب عن أذهاننا ما قاله جيرار جينيت عن عدم وجود متخيّل محض أو "لا متخيّل" محض.
ومن هذا السؤال المركزيّ يمكن بطبيعة الحال تفريع أسئلة أخرى تدور إجمالًا حول طبيعة العلاقة بين التاريخ والرواية، والآليّات المستخدمة في توظيف العناصر التّاريخيّة في البنية السرديّة، ومدى تحكّم الكاتب في هذه العناصر وتسخيرها لأيديولوجيّته الروائيّة ومعماره السّرديّ الجمالي، وطريقته في انتقاء هذه العناصر وتأويلها لتغدوَ جزءًا من خطابٍ معاصر، يستند إلى الماضي، ولكنّه يحيل إلى الحاضر، خاصّة أن الرواية التاريخيّة حسب جورج لوكاتش هي الرّواية التي ينظر إليها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق.
قبل كلّ شيء لا بدّ من الانطلاق من بداهة انتساب رواية "ترانيم الغواية" للرواية التاريخية بامتياز؛ فهي ببساطة ليست جزءًا من التجربة الشّخصيّة للكاتبة من حيث بعدُها الزّمني، فأحداثها تمتدّ حوالي قرن من الزّمان ابتداء من الثلث الأخير، من القرن التاسع عشر، حتّى ما بعد النّكبة "1948". ولكنّها كانت تتوغل في التّاريخ إلى أبعد من ذلك، عبر الإحالة إلى وقائع تاريخيّة بعينها من التاريخ الإسلامي ترتبط بأحداث الرّواية بصلةٍ ما.
ومن يقرأ هذه الرّواية التي يتقاسم المكان وأهله بطولتها خلال مئة عام تقريبًا، سيلاحظ لا بدّ أن التاريخ ليس مجرّد خلفيّة أو إطار لأحداث الرواية مثلما هو الشأن غالبًا في كثير من الرّوايات التاريخيّة التي استمدت تقاليدها من والترسكوت وروايته التّاريخيّة الأولى "ويفرلي" 1814م، بل إنّ هذا التّاريخ هنا حالة دينامية حيّة يتدفّق في الشّوارع والبيوت والكنائس والمساجد والمصائر الفرديّة والجماعيّة.
تقوم هذه الرّواية على بنية الحكاية الإطار، والحكايات المتضمّنة الفرعيّة، فراوية أبو نجمة مخرجة الأفلام الوثائقيّة تأتي إلى القدس بتصريح زيارة لمدة شهر من أجل إعداد فيلم وثائقيّ عن تاريخ المدينة التي تتعرّض للصراع والتّهويد، ويختلط فيها السماوي بالأرضيّ، والمقدّس بالبشري. وتذهب متهيّبة إلى عمّتها الثّمانينيّة ميلادة أبو نجمة الشهيرة بميلادة الحنش، وهي عجوز على مشارف مرض الزّهايمر صعبة الطّباع تعيش وحدها في بيت العائلة الذي لم يبقَ من أهله سواها، أمّا الآخرون فقد غيّبهم الموت أو ابتلعتهم المنافي والمهاجر. وبعد استقرار الساردة في بيت العمة يبدأ عالم الرواية بالتشكل متمثلا في عشرات القصص والحكايات الفرعية المتضمنة التي نسمعها من صوت العمة أو من الأصوات التي تتحدث في الرسائل واليوميات بعد أن فتحت العمة مكتبة شقيقها إبراهيم لراوية، فينهض تاريخ القدس حيا نابضا في السنوات المئة أو أقل قليلا التي سبقت النكبة. ومن الآن فصاعدًا سوف تلعب ميلادة هذه بذاكرتها القديمة السّاطعة وقدرتها السّرديّة العفويّة الاستثنائيّة دورًا هامًّا في تطوير السّرد، ومع ذلك فالسّرد في هذه الرّواية متعدّد الأصوات، وهذه الأصوات جميعًا تصبّ في سارد رئيسٍ واحد يلعب دور السارد الضّمني الذي يستمع إلى السّرد أو يقرؤه، وبالتالي يصل إلى القارئ، وهذا السارد الضّمني الذي هو المخرجة السينمائية راوية أبو نجمة، هو من يتحكّم بالخيوط السّرديّة ويقطعها، ويعيد وصلها وتركيبها، وفقًا لاستراتيجية سرديّة بارعة تستحقّ الإعجاب فعلًا، لأنّ الرّواية مكوّنة من عدد كبير جدًّا من القصص القصيرة المترابطة معًا، فيما يشبه متوالية سرديّة محكمة ، كالسلسلة المتينة التي يأخذ بعضها برقاب بعض بتلقائيّة لافتة، وبتنوّع وتعدد، استطاعت السّاردة الرّئيسة قيادته باقتدارٍ واضح.
ولكي تظلّ هذه الورقة وفيّة لعنوانها، فسوف تقصر اهتمامها هنا على العلاقة بين المكوّنات التاريخة والخيال السّردي.
تقول ليلى الأطرش، في كلمتها الختاميّة التي تتوجّه فيها بالشكر لمن قدّم لها عونًا من الأصدقاء، أو أدلى بملاحظات كانت هامّة لهذه الرّواية:
"يسطع الإلهام من كلمة، وتتداعى الأفكار من وثائق حقّقها آخرون، فتتعربش الرّواية على أغصان التّاريخ ليرفدَها بيقينه ... ثمّ تغدو أحداثه مراجيح لخيال يعلو على حقيقة ما جرى، ودار من ذلك الصّراع المقدّس والإنسي، في مدينة منذورة لله مذ كانت.
وبعد هذه الفقرة مباشرة ثبّتت الكاتبة عشرة مراجع تاريخيّة كانت جزءًا مما "اتّكأ عليه الخيال الرّوائي إلى بعضِ وقائِعها التّاريخيّة" حسب تعبيرها.
في هذه الأسطر الموجزة ترسم الكاتبة الصّريحة التي كتبت اسمها على غلاف الرواية أي ليلى الأطرش الحدود بين الواقع المتحقّق فعلًا والخيال، فالتّارخ الذي حقّقه المؤرّخون المتخصّصون يرفد الخيال بيقينه، ويشكّل منصّة لانطلاقه، ورافعة له، ولكن الخيال يعلو عليه. وهذا أمر غاية في الأهمية، لأن ما يهمّنا في رواية ترانيم الغواية ليس تاريخ القدس الذي نعرفه إلى حدٍّ كبير، مثلما استقرّ في الرّوايات التّاريخيّة المشهورة. بل إدراك دلالات هذا التّاريخ، وفهم جوانب منه لم يقلها مباشرة، فليس من وظيفة السرد إعادة رواية التّاريخ "الموضوعي"، بل أن يوقفَنا على ما خفي من هذا التاريخ أو ما سكت التاريخ عن قوله. ووسيلة الرّواية في ذلك هي الخيال التي تجعل الّتاريخ يقول ما لم يقله، ولكن انطلاقًا من وقائع التّاريخ نفسِها. إنّ "ترانيم الغواية" تمرّ أحيانًا مرور الكرام عن حوادث تاريخيّة هامّة ولا تتوقف عند كل تفاصيل تاريخ القدس، لأنّ الفن حسب لوكاتش، هو البحث عن جوهر في سياق الظّواهر العارضة للحياة ، ولذلك فإنّ الرّواية في نظره لا تقول الحقيقة "التاريخية" بل تبرز وجهة نظر خاصّة عن هذه الحقيقة، وهنا يمكن تشبيه التّاريخ العام باللغة حسب دي سوسير، أمّا ما ينتقيه الرّوائي منه ويوظّفه توظيفًا خاصًّا في السّرد فهو ما يمثّل الكلام أو الخطاب، وهو هنا ما يهمّنا، فما أنتقته الرواية وأبرزته من هذا التاريخ هو ما يشكل بما يكمله من الخيال رؤية الرواية وتأثيرها الكلي في نهاية المطاف.
أمّا الآليات التي انتهجتها الرّواية في توظيف التّاريخ فقد تمثّلت في الاستناد المباشر إلى معرفة تاريخيّة موثّقة حينًا، وشارحة حينًا آخر. مثلما تمثّل ذلك في الهوامش الكثيرة المبثوثة في صفحاتها، ومثلما يمكن استنتاج ذلك ضمنيًّا من خلال المراجع التاريخيّة المتخصّصة المثبتة في قائمة خاصّة في نهاية الرّواية، ومن التفاصيل التاريخية الدقيقة بما تتضمنه من حوادث وشخصيات معروفة فعلا في تاريخ المدينة وتاريخ فلسطين الحديث عموما، بالإضافة إلى أنّ السّرد الرّوائي كان يعمد أحيانًا إلى توثيق تاريخيّ من خلال فقرة "قال المؤرّخ" المبثوثة هنا وهناك بدون تعيين محدّد لهذا المؤرّخ، وهو إن كان لا يعدو أحد المصادر أوالمراجع التّاريخيّة المختصّة المعروفة، فإنّه كان أحيانًا يعيق إلى حدّ ما سلاسة السّرد وتدفّقه.ويبدو كأنه تدخل من خارج الأصوات المتحدثة في الرواية. أمّا فيما يتعلق بالتاريخ المصغّر فقد تمثّلت مصادره في بعض الكتب المحدّدة المثبتة أيضًا في قائمة المصادر والمراجع وخاصة كتب اليوميات والمذكرات التي تركها أعلام مقدسيون عاشوا الفترة الزمنية نفسها التي امتدت فيها أحداث الرواية، ولكنّ هؤلاء لم يتحدثوا في الرواية مباشرة، فقد لجأت الرواية إلى الحيلة السّرديّة المتّبعة عادة في الرّواية التّاريخية والمتمثلة في عثور السّارد في الغالب على مذكّرات أو مخطوط يفتح أمامه نافذة يطلّ منها على الماضي، وهذا ما تحقق في إطلاع الساردة على محتويات مكتبة إبراهيم بن سالم أبو نجمة، وما تحتوي عليه من كتب وصور ووثائق ورسائل، ولكنّ الأهمّ من ذلك كله يوميّات "الخوري متري الحدّاد" الذي ارتبط بالعمّة ميلادة بعد ترمّل كليهما بعلاقة حبّ ملتهبة كانت ترنيمة الغواية الكبرى في هذه الرّواية، ومن هذه اليوميّات يطلع القارئ على جزء هامّ من تاريخ القدس وخاصة الكنيسة الأرثوذوكسية وصراع المسيحيّين العرب لتعريبها وانتزاعها من النّفوذ اليونانيّ، بالإضافة إلى جوانب من الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة التي تشارك فيها المسلمون والمسيحيّون جنبًا إلى جنب في علاقة نادرة من التّآزر والمسؤوليّة، وهذه المذكّرات التي هي خيال يستند إلى تاريخ واقعيّ موثّق لم تبتعد كثيرًا عن حقائق التّاريخ الموثّقة، ودخلت فيها شخصيّات معروفة مثل البطرك ذميانوس، ومنها نعرف أمورًا كثيرة عن نموّ الرّوح العربيّة القوميّة التي اتحد في النّهوض بها المسيحيّون والمسلمون، فلا عجب أن يكون الخوري متري وهو رجل الدّين المسيحي من تلاميذ شيخ مسلم من قادة النهضة العربية هو الشّيخ عبد الحميد الزّهراوي الحمصيّ صاحب جريدة الحضارة. ولا يمكن في هذه العجالة تتبّع جميع المتواليات القصصية التي اشتملت عليها هذه اليوميّات، ولكن يكفي أن نشيرَ إلى أنّ كاتبها الخوري متري كان يعي أنّه يكتب سيرة القدس مع سيرته الشّخصيّة ' فقد كان يربط دائمًا إيقاع حياته وحياة أسرته وتاريخ الطّائفة الأرثوذوكسية بإيقاع التّاريخ في المدينة وتطوّرها وما يجري منها ولها من أحداث. وإذا كانت يوميّات متري الحدّاد من صنع الخيال فإنّ ما ورد فيها من معلومات وموادّ تاريخيّة ليست كذلك، وأظنّ أنّ هذه المذكّرات كانت تستند بهذه الدّرجة أو تلك إلى يوميّات تركها مقدسيّون مشهورون مثل الأديب الكبير خليل السّكاكيني، أو الموسيقار جوهريّة، وسواهما. فالرّواية التاريخيّة تفعل مثل ذلك عادة إيغالًا منها في الإيهام بالواقعيّة من جهة، وكسراً لهذا الإيهام من جهة أخرى، في سبيل المحافظة على شخصيتها بوصفها عملا يقوم على التخييل أساسا، وذلك من خلال سرد وقائع تاريخيّة متعينة وموثّقة بأحداثِها وشخوصِها، ثم وضع ذلك في إطار من صنع المخيلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ناقد وكاتب من فلسطين