ادب وفن

المكان والزمان / جاسم عاصي

ياسين النصير.. من القلة المتابعين للمكان تنظيراً وكشفاً للخواص العديدة، التي تنبثق من طبيعة البيئة أولاً، ومن وعي صيرورته والكشف عن تأثيراته ثانياً.
وبالتأكيد يكون لزاماً عليه أن يكون أكثر حذراً من تقدين درس عملي تطبيقي بخصوص المكان، بعد أن فحص نصوص الأمكنة. ففي كتابته الموسومة "المكان الغربي/ تراكم معرفي غارق في الخيال"، إنما كان وفق المبدأ العام ربط المنكشف له في المكان الغربي، مستنداً على صورة قبلية للمكان العراقي. إذ لم يتخلص من روح المقارنة بين المكانين وإن لم يُعلن عنها. فقط حاول أن يربط المكان بالزمان. وهنا بطبيعة فصل الخريف، الذي تنزع فيه الكائنات والحيوات لباسها القديم، لتجدده بأحسن منه. فالرؤى التي سار وفقها؛ هي رؤى شعرية. بمعنى عكس الإحساس بالمكان ومحتوياته، وجارى الطبيعة باعتبارها المكان الأوسع، وإن حصرها في الحيّز الذي يراه من خلال نافذته المطلة على تقاطع الشوارع في هولندا. لكنه بدا أكثر سعة، لأنه ربد بين الخاص، ونقصد زاويته المحدودة، وبين رؤيته العامة، باعتباره مقيماً في المكان. أي له كشوفاته التي تُرفد تطلعاته هذه. كما وأنه اعتمد على تراكم من الصوّر والتخريج الرؤيوي المسبّق عن الأمكنة، والمكان، بحيث أعطت نتائج تمثل في التراكم النوعي، الذي ساعد على خلق الحساسية الذاتي متمثلة بالرؤى البصرية والحس الشعري المرهف إزاء الأمكنة. لذا نجده في استهلال الكتابة يُحدد نظرته لما سوف يُطّلعنا عليه من خلال خواطره عن المكان. وما قلنا ربطه بالزمان. وهنا كان الربط مع فصل الخريف الذي أكد على كوّنه اختار الخريف "لأنه عندي من أجمل الفصول" ولأنه كذلك لابد من أن يذكر موت الأشياء في هذا الفصل. وهل هو موت دائم، أم انه ارتبط بأسطورة العوّد الأبدي في التجدد والانبعاث. غير أننا نتوقف على صورة المقارنة بين مكانين وفصلين من خلال "وإن أضفت ما نحن عليه من غروب العمر" إنه يضع مسألة البحث في المكان وفق منظور فلسفي، لأنه يقرنه بحق البقاء والزوال في معادلة الذات المتعددة "ذات تراها وذات تراك" وتلك هي سمة الوجود، إلى ما نظرنا إليه من خلال جدلية الوجود وعوامل البقاء، والأخرى التي تُنمّي فعل الزوال. وذلك باختيار الطرف الثالث من المعادلة وهو "الجمال والإبداع"
ولعل تحوّلات المكان شكّلت الصورة الأوضح، لأنها مباشرة أولاً، ومتميّزة بخصائصها الذاتية ثانياً مقارنة بالتحوّلات غير المنظورة بين الفصول في المكان السابق. لذا فقد باشرت تأثيراتها عليه وخاصة "فصل الخريف" موضوع التداول "أمكنة الغرب تستنسخ روح محطة القطار أو موقف الحافلة.... ولكي تستبطن الأشياء عليك لحاستك النفسية، عليك أن تُصغي لروح الشجر والرصيف. فهما روحان متجاورتان ومتحاورتان دائماً لينتجا نصاص بصرياً.... كل الأمكنة الغربية لا ترى خلال قشرتها الخارجية، عليك كي تعرفها أن تُنقّب فيها؛ فهي تراكم معرفي غارق في الخيال"، والمعرفي هنا يعني كما نراه مُحدد بالكشف الجديد. فالتحوّل يعني التجديد والحيازة على الخصائص، مما يتطلب عدم الاكتفاء بالمكشوف من المكان. فالمعرفة متواصلة طالما هنالك روح المقارنة بين الصورة الحالية والأخرى القبلية. وفي هذا نجد "النصير" أكثر روية في فحص عناصر المكان، بما أتاح لخواطره ورؤاه البصرية أن تتماسك إزاء شكل للموت الباهر في صورة "الخريف الغربي" لذا فأن أكثر مفرداته، وجمله القصيرة اتخذت تأثيرها المباشر، لكوّنها نوع من الحفر في الذاكرة المتلقية، والتي تتحاور مع المكان عبر تحاور ذات الناص معه. " ًتيح المساء لي أن أُمعن التأمل فينا نحن الثلاثة: الخريف والمكان الغربي والعمر"، وكأنه يُرثي الذات الثالثة في كوّنها اكتشفت المكان السحري هذا وقت حلول خريف العمر. وما يؤكد قراءتنا ما ذكره في معرض استرساله في تشييد خواطره الشعرية "هو الخريف يا صديقي، يطرقني ويطرق المدينة الغربية والناس، ويطرقني أنا المرئي وأطرقه أنا الرائي تواصل" ويتواصل مع انثيال خواطره، واصفاً وجه المقارنة والتقارب بين الرائي والمرئي في وحدة لا فكاك منها "الأوراق المتساقطة أعمار بانتظار المكنسة لتُزيحها عن أرواحنا كي تواصل الشوارع تاريخنا المشترك. أما نحن فتنمو على أجسادنا نُدب الفصول لنتشبث بالحياة".
المكان الغربي وكما يصفه كوّنه يتأرجح بين الحقيقة والوهم "نحن نعيش هنا في اغلفة حياتية تبدو جميلة، لكنها قاسية لمن لا يحسن التعامل معها"، ومن فرط تجددها وخفاياها يجد الرائي؛ أنها ــ أي الأمكنة الغربية ــ تُخفي تراجيديتها فلا مجال هنا "لتركيب ذهنية مفترضة. إن كل الأشياء تتدحرج أمامك للقبر بقدر ما يمكن القوّل أن كل الأشياء تُعيد لك زمنك المفقود"، وبذلك تمكّن "النصير" أن يحقق موازن متعددة الأطراف ليعك صيرورة جديدة مقارنة بالصيرورة الأولى.