ادب وفن

ألغاز وتساؤلات في الذكرى 79 لاغتيال لوركا / محمّد محمّد الخطّابي

احتفل العديد من الأوساط الثقافية مؤخراً "ابتداءً من يوم الاثنين 17 آب" بذكرى هذا الاغتيال في مختلف المناطق والمدن الإسبانية، وبشكل خاص في مدينة غرناطة مسقط رأس الشاعر، وباقي مناطق وأصقاع وبقاع الأندلس، بل لقد نُشر في هذه المناسبة كتاب جديد تحت عنوان "لغز الموت وقائع المراسلات بين أغوستين وإيميليا يانو والتعليق عليها"، للباحثة مارتا أوسوريو، وقد صدر هذا الكتاب المثير عن دار النشر "كوماريس"، ويضمّ هذا الكتاب العديد من المراسلات التي تمّت بين هذا الباحث الكبير لحياة وموت الشاعر لوركا، الذي كان من أكبر المعجبين به وبأعماله، وبين صديقته إميليا، ويعتبر هذا الكتاب تكملة أو امتداداً للكتاب السابق الذي يعالج الموضوع ذاته، وفي الوقت الذي يلقي فيه هذا المؤلَّف المزيدَ من الأضواء الكاشفة حول هذا الإغتيال، فإنه في الوقت ذاته ينشر ظلالاً وشكوكاً حوله كذلك، وتتمثّل أولى الشكوك الرّئيسة التي تحوم حول هذا الموضوع الشائك في التساؤل التالي: هل تمّ نقل رفات لوركا من المكان الذي تم دفنه فيه، حيث تمّت عملية الاغتيال، كما أشار إلى ذلك شهود العيان الذين سبق لهم أن حدّدوا مكانَ إطلاق الرّصاص على لوركا!
لوركا ما زال حيّاً!
وعلى الرّغم من هذا الاغتيال، فإنّ الشّعراء والكتّاب والنقاد والدارسين والباحثين والمؤرّخين والقرّاء… إسباناً كانوا أم غيرَ إسبان، كلهم يؤكّدون أن الشاعر فدريكو غارسيا لوركا لم يمت، وهو ما زال حيّاً، نابضاً، مشعّاً، ومتالّقاً بيننا، بل أنه في منظورهم، سيعيش أبداً في قلوب الناس والقرّاء من عشّاق شعره، وفي أفئدتهم وألبابهم، ومن بين هؤلاء الكتّاب والكاتبات والباحثين والباحثات صاحبة الكتاب الأوّل الآنف الذكر التي أثبتت فيه شهادة أغوستين بينون نفسه في هذا السياق منذ عام 1955، حيث تؤكد الكاتبة مارتا أوسوريو أن هذا الباحث قد سبق عصره، وأخبرنا بما نراه ونسمعه حول هذا الموضوع اليوم، وهو أنه بعد مرور 79 عاماً ما زلنا نردّد التساؤلات نفسها، ونفجّر الألغاز نفسها حول هذا الحادث المؤسف والمؤلم. وتتساءل الكاتبة متأسّفة ومتحسّرة " لماذا لم يقم المهتمون، ولا الباحثون بشيء ذي بال في هذا الاتجاه؟ وبالتالي فلا أحد يعرف شيئاً عن هذا الموضوع حتى اليوم". وتطالب الكاتبة الباحثين والمؤرخين بالقيام بعمل جادّ، وإجراء بحوث علمية دقيقة بناءً على المعلومات التي جمعها بينون في كتابه القديم، وأنه ليس الشاعر لوركا وحده جدير بهذا الاهتمام، بل جميع هؤلاء الأبرياء الذين لحق بهم حيف كبير، وعانوا من ظلم عاتٍ، هم كذلك جديرون بأن يكون لهم مكان في ذاكرتنا، وحيّز في تاريخنا، ولم يكن هؤلاء من المواطنين الإسبان وحسب، بل كان بينهم أجانب كذلك. وتسرد الكاتبة في هذا القبيل- على سبيل المثال وليس الحصر- قصة فتاة ألمانية يهودية كانت قد فرّت من بطش النازيين في بلدها ألمانيا، ولكنها لقيت حتفها إلى جانب لوركا، حيث اغتيلت معه في المكان نفسه لأنها كانت صديقة لمهندس اشتراكي إسباني مناهض للفرانكاويّة.
الخوف والنّسيان
وقد رأت الكاتبة بأمّ عينيها من منزلها في قلب مدينة غرناطة العديد من الأسر التي فقدت أفراداً منها، ومن عائلات إسبانية أخرى من الأساتذة، والكتّاب والشعراء والمثقفين الذين تعرّضوا هم كذلك إلى أشكال مختلفة قاسية من التعذيب والتنكيل والمتابعة والتضييق والعنت، بل وللاغتيال القهري والقسري الجائر أيضاً، الشيء الذي ترك في أعماقها وطبَعَ في ذاكرتها صوراً فظيعة من الخوف والنسيان والخيال المهول، تماماً كما انعكس ذلك في كتابها الأوّل حول هذا الباحث الشجاع بينون. وفي السياق نفسه هناك كتاب آخر حول هذا الموضوع بالذات وهو للصحافية الإسبانية إيسابيل ريفيرتي وهو تحت عنوان "حقيبة بينون"، حيث أماطت فيه هي الاخرى اللثام عن عدد غير قليل من الحقائق المرّة، والوقائع المذهلة التي لها صلة بحادث اغتيال لوركا، وتعتبر ريفيرتي كتاب بينون، والدراسة المستفيضة التي أنجزتها عنه الكاتبة مارتا أوسوريو، عملين جليلين جديرين بكلّ إعجاب وتقدير، كما تعتبرهما وسيلتين أساسيتين، وطريقين جادّين للوصول إلى الحقيقة التي ينشدها الجميع. إنها تحكي لنا أن أغوستين بينون صاحب الكتاب "وهو مواطن من مدينة برشلونة يحمل الجنسية الأمريكية" وصل إلى مدينة غرناطة عام 1955مع صديق له آخر أمريكي وهو وليام تايلور، الذي كان يحمل نسخة من الطبعة الأولى من كتاب لوركا الشّهير "أغاني الغجر"، الذي كان قد ترجم إلى اللغة الإنكليزية إبّانئذ، فوجدا غرناطة وكأنها مدينة محظورة غارقة في الخوف والهلع، كان ممنوعاً فيها حتى ذكر اسم لوركا على الألسن. وتقول مارتا أوسوريو في هذا الصدد "كانت غرناطة في ذلك الحين مدينة حزينة لا تبعث على الحبور والبهجة". فترك بينون المدينة على حين غرّة وطار إلى نيويورك وبيده حقيبة ملآى بالعديد من الوثائق والمراجع والمستندات حول قضية اغتيال لوركا، وهذه الحقيبة هي التي ستقع في ما بعد في يد مارتا أوسوريو. وفي يوم 17 آب من الشهر الفائت 2015 صدحت الأصوات بالقرب من مسقط رأس الشاعر في غرناطة وفي المكان نفسه، الذي تمّت فيه عملية الاغتيال، مجلجلة بصوت المغنية الإسبانية الغرناطية سُوليّا مورينتي "ابنة المغنّي الأندلسي الشهير الراحل إنريكي مورينتي" وهي تشدو بما معناه "لابدّ لنا أن نذهب إلى حيث يعشش الصّمت الرّهيب، لاسترجاع أصوات هؤلاء الذين حاق ولحق بهم الظلم الآثم واغتيلوا ظلماً وعدواناً من طرف الفرانكاويين"، وانطلاقاً من هذا المعنى، وتأسيساً على هذا المفهوم يُدرَك فحوى إقامة تكريم للشاعر فدريكو غارسيا لوركا، وإلقاء الأضواء على مأساته، وبُعدها الإنساني العميق الغور والمدى، كما أقيمت احتفالات مشابهة في الأماكن الأخرى التي قضى فيها لوركا آخرَ أيّامه، بما فيها قريته "فوينتي باكيرو"" المحاذية لغرناطة الحمراء "مسقط رأس الشاعر". صديق الشاعر السيئ الطّالع فدريكو غارسيا لوركا، ورفيقه في مجموعة الجيل الأدبي الإسباني الذائع الصّيت المعروف بجيل 27، الشّاعر الأندلسي رفائيل ألبرتي كان قد كشف النقاب قبيل رحيله عام 1999 من جهة أخرى عن تفاصيل مصرع لوركا، وكيف أنّه واجه الموت بشجاعة وصلابة وثبات، يقول في هذا الخصوص:"إن طبيبا إسبانيا اسمه فرانسيسكو فيغا دياث كان شاهد عيان في حادث اغتيال الشاعر لوركا المؤسف، قد حكى قصّة بهذا الشأن ردّدها له سائق السيارة الذي قاد لوركا، إلى جانب معتقل آخر وثلاثة من العساكر الذين ينتمون إلى الحرس المدني الإسباني، الذين ينعتون في اللغة الإسبانية بـ"غوارديا ثبيل" فقال:"إن الطريقة التي قتل بها لوركا كانت حتى الآن لغزاً محيّراً، وقد أعطيت تفسيرات مختلفة حول هذا الأمر، وحسب فرانسيسكو فيغا دياث فإنّ سائق السيارة "التاكسي" كان قد زاره في عيادته في 13 آب 1936، أي قبيل مقتله بأربعة أيام. الأحداث وقعت في الليل، وقد تعرّف سائق التاكسي على واحد من اللذين تمّ القبض عليهما وهو الشاعر الغرناطي بواسطة الكشّافات التي أوقدها الحرّاس للقيام بعملية الإغتيال، وكان غارسيا لوركا قد سافر من مدريد إلى مسقط رأسه غرناطة إذ حسب الشّاعر رفائيل ألبرتي  كان لوركا يعتقد أنّه في أرضه سيكون في مأمنٍ من الخطر الذي كان يداهمه ويحدّق به من كلّ جانب. وأضاف: "أنّ لوركا كان يغشاه خوف الأطفال، وكان يعتقد أنّه لن يحدث له شيء في غرناطة "، فركب القطارَ إليها على عجل، إلاّ أن الموت فاجأه هناك، فكلٌّ منّا يحمل موته معه". ولقد سمع سائق التاكسي الشّاعر لوركا يقول لقتلته: ماذا فعلتُ حتى تعاملوني هكذا؟ ثم ألقى الحراس بعد ذلك بلوركا والشخص الذي كان معه  كان مسنّاً وأعرج داخل حفرة منخفضة أعدّت من قبل خصّيصاً لهذه الغاية، فعمل الشاعر على مساعدة زميله على الوقوف، ممّا زاد في حنق الحرّاس حيث ضربه أحدُهم بمؤخّرة سلاحه وشجّ به أمّ رأسه، ثم بدأ القتلة يشتمون الشاعر، ويرمونه، وينعتونه بأحطّ النعوت، وطفقوا بعد ذلك في إطلاق النار عليه على الفور. وأكّد السّائق أن اثنين من مصارعي الثيران، وعشرة من الأشخاص الآخرين كانوا قد قتلوا كذلك في تلك الليلة نفسها. وتشير الكاتبة والناقدة المكسيكية إيرما فوينتيس معلقة على ذلك:"أن الشّعراء مثل الأبطال والأنهار يطبعون شعوبهم بطابعهم ويجعلون شعبهم يختلف عن الشعوب الأخرى، فالشّعراء يتركون في العالم ضوءاً مشعّاً متعدّد الألوان، يجعلون الرّجال يجتمعون ويتوحّدون رغم تباين أجناسهم وثقافتهم، ورغم الخلافات السياسية والإيديولوجية والمذهبية والمشاحنات، التي قد تنشب بينهم، وقد تصل حدّ الحروب والعنف واستعمال القوّة. فكلّ شاعر من هؤلا ء بغضّ النظر عن الزمن الذي يولد فيه، يصبح بمثابة "معزف" كوني متعدّد الأوتار والأنغام ، وإن إختلفت تنويعاته وتقاسيمه فهو يعزف لحناً واحداً يعظمه كل موجود حيّ في أيّ صُقع من أصقاع العالم"، وتضيف الناقدة :"وعليه فإنّ فقدان أيّ شاعر لدى أيّ أمّة مثل حالة لوركا هو حدث تراجيدي يمسّ الإنسانية جمعاء، وليس رقعته الجغرافية أو بلده وحسب، هذا على الرّغم من وجود شعراء آخرين كبار، وأمّا إذا اغتيل شاعر فإنّ الشعور بالمأساة يتفاقم ويزيد ويكون أفظع وأفدح".
أَصوَات الموت دقَّت
من ذا الذي يمكنه أن يعوّضنا عن ما ضاع مع الشاعر، بدأ غارسيا لوركا قرض الشّعر في العشرين من عمره واستمرّ في الكتابة حتى يوم اغتياله عام 1936 و قد خلف لنا عشرات القصائد مبثوثة في العديد من دواوينه، ثم كم من الدواوين كان يمكن أن تضاف إلى هذه القائمة لو استمرت حياته على وتيرتها الطبيعية كيف ستكون أعماله الآن..؟
قال لوركا عندما كان على بضع خطوات من نهر "الوادي الكبير" الذي ما زال يحمل اسمه العربيّ والإسلاميّ القديم إلى اليوم:
أصواتُ المَوْتِ دَقّتْ، بالقُرْب مِنَ الوَادِي الكبَير
أصواتٌ قديمةٌ طوّقت، صوتَ القرنفل الرجوليّ
ثلاثُ دقّات دَمَوِيّة أصَابتْه، وَمَاتَ على جنب.
على الرّغم من شَغَفِه بالمسرح، فإنه في حياته الأخيرة لم يتوقف عن نظم أشعار رقيقة مؤثّرة وحزينة، كانت الأندلس من أبرز علامات هذه الأشعار، كان لوركا مجدّداً وفريداً، وطائراً غرّيداً في الشعر، كان من الطليعيين إلى جانب بابلو بيكاسو في عالم الصور والتشكيل والرّسم حتى أصبح من أعظم شعراء القرن العشرين.