ادب وفن

القاص الدكتور فرج ياسين: خُلقتُ لأكون قاصا / حاورته: شهد مولود الرفاعي

القاص فرج ياسين، قامة إبداعية باسقة.. شغل الوسط الأدبي بمنجزه السردي الإبداعي، وتناوله النقد العراقي العربي في دراسات أكاديمية رصينة، فضلا ً عن جهود نقدية متنوعة تناولت تجربته الإبداعية من زوايا متعددة ولعل آخر هذه الجهود الكتاب النقدي _ مدارات الكون السردي _ الذي يضم بين دفتيه العديد من المقتربات النقدية والكثير من الأسئلة الموجهة للقاص وهو:
_ أي الكتاب _ من إعداد وتقديم ماجد الغرباوي وربما سنضيف بأسئلتنا الموجهة للقاص فضاءً أرحب لفهم وأستكناه هذه التجربة السردية..
سألناه أولا:
 كيف تفسر قدرة الأديب على انتقاد السلطة داخل النص الأدبي وعجزه عن انتقادها خارجه؟
 يجب أن نشير أولا إلى أن عدداً كبيراً من أدباء العالم ناضلوا على الصعيدين السياسي والأدبي، وليس بالوسع الفصل بين النشاطين، والأمثلة كثيرة: أراكون وألبرتي ولوركا وغوركي وكثير غيرهم، لكن هذه الإشكالية تظل قائمة، إذ إن بعض الأدباء يتعرضون للقمع من قبل السلطات الدكتاتورية أو الفاسدة فيضطرون إلى تسويق خطابين، أحدهما معلن يحاول جهد الإمكان الابتعاد عن بؤر الصراع المريبة ويشتغل على التخصص بحذر وإرادة حرة. والأخر سري إذا صح القول يتعاطاه الأديب حين يكون منسجماً مع ذاته ومستحضراً شخصيته الحقيقية، ولا أرى في ذلك عجزاً إنما هو تحسب ضروري ومطلوب.
 ماذا عن المحظورات التي لا يحق للأديب العراقي تجاوزها: الدين والسياسة والجنس؟
 هذه المحظورات لا تخص المجتمع العراقي وحده، إنها محظورات كونية، والأديب الحر لا يتورع من مقاربتها، ولا أظن أن هناك أدبا صادقاً يظل بمنأى عن تأثيرها وربما يقاس الإبداع بمدى استحضارها في النصوص الأدبية أو الاعمال الفنية الأخرى، لكنها في الآونة الأخيرة أصبحت ممراً للعبور إلى الجماهيرية والشهرة من قبل بعض انصاف الموهوبين، ممن ما لا يخفى على أحد.
 ما هي الآليات التي يحتاجها المبدع لبناء نص متكامل؟
 الموهبة واللغة والتجربة بأنواعها والثقافة الأدبية والعامة ثم الحساسية الفنية. وليس ذلك كل شيء طبعاً، لأن التأثير الخاص الذي يتركه النص في متلقيه لا سبيل إلى حصره أو تعريفه لذلك يغدو التميز في الأسلوب من أهم صفات الأديب ولهذا نقول إن لفلان بصمته الخاصة التي لا تشبهها بصمة أخرى.
 كنت شاعراً ثم غادرت الشعر وكتبت القصة لكنك لم تكتب الرواية عدا قصة ذهاب الجعل إلى بيته التي عدها النقاد رواية قصيرة. ما سبب مغادرتك الشعر وما سبب عدم كتابتك الرواية؟
 لن تجدي أحدا لم يجرب كتابة الشعر في حياته أو في بداياته، والأمم نفسها تبدأ بالشعر ثم تخلص إلى النثر على مستوى التدرج الحضاري، وحين كتبت الشعر ونشرته كان السرد مكوناً أساسيا في بناء قصيدتي؛ وبما إنني أردت أن أحكي لا أن أقدم وصلات غنائية أو تنويمات أو أحلام فقد أخذتني القصة إلى رحابها.
كان الواقع اليومي في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات بحاجة إلى من يواجهه سردياً، وكان ثمة سوق حامٍ للشعر بينما كان القصاصون قلة منكفئة على أنني على الرغم من كل شيء لم أتخل عن الشعر أبدا لأنني اكتبه أحيانا فضلا ً عن انه متغلغل في نسيج القصص التي اكتبها بوصفه احد مكوناتها.
إما لماذا لم اكتب الرواية فلأنني لم أجد الوقت الكافي والتفرغ ولطالما أعلنت بأنني هاوٍ في مملكة الإبداع الأدبي ولم أناقش هذا الأمر مع نفسي أبدا ً. لقد خلقت قاصاً.
 يقول الكاتب اليوناني اريستوفان:"الوطن هو حيث يكون المرء في خير"، أين موطن فرج ياسين على خارطة السلام؟
ـ كان العراق وطني وحين ضاق كثيراً صار الوطن مدينتي، وحين طال الخراب مدينتي انكفأت في بيتي، وبما أن البيت لم يف بسيرورتي الوجودية انحشرتُ في زاوية قاتمة مكانها داخل نفسي، وأنا امكث فيها منذ مدة طويلة وانتظر الخلاص.
 حال القلم العراقي كيف يبدو اليوم في المحافل الورقية والالكترونية؟
 أرى أن القلم العراقي ناشط وفاعل جداً اليوم، ولك أن تفحص النتاجات في جميع مفاصل المعرفة والأدب ويبدو أن آلية البدائل هي المتحكمة فأما أن تحمل السلاح وأما أن تحمل القلم.
ويخبرنا التأريخ أن حركة التدوين ظهرت عند العرب في أكثر المراحل ظلاماً في العراق والعالم العربي بعد سقوط الخلافة العباسية وتحكم العنصر الأجنبي إذ تشكلت ردة الفعل على هذا النحو، والسبب يكمن في هيمنة القوى المتصارعة واستمرار هذا الصراع مما يولد تعدداً في المواقف والرؤى بصرف النظر عن صدقها أو كذبها أو جدواها المستقبلية.
 الحب ريح ونداء متى نادى الحب قلبك ؟ وهل اثر الحب على جغرافية سطرك؟
 من الغريب أنني حين كنت اكتب الشعر في مراهقتي لم اكتب في موضوع الغزل، كتبت في الحكمة والقضايا الاجتماعية والوطنية وغيرها ولكن حين رفّ قلبي أول مرة كتبت بعض القصائد المقلّدة ليس لشعر نزار قباني مثلاّ بل للغزليين العذريين القدماء وهو قليل جداً، أما الحب بمعناه الشامل فهو المحرك الأول للإبداع ليس بالنسبة لي حسب بل لكل رواد مملكة الخيال الخلاق.
 هل فكرت يوماً بالكتابة الساخرة الهادفة؟
 لم أفكر على نحو قصدي، ولكن قارئ قصصي سوف يكتشف أن السخرية حاضرة في الكثير من القصص بوصفها احدى التقانات المعتمدة في بنائها الفني.
الكتابة فعل وجودي صرف يأخذ قالباً فيزيقياً بأداة الكلمة ماذا تعني الكلمة في قاموسك؟
 هناك أسطورة روسية قديمة تتحدث عن رجل قديم كان يبني قارباً فاحتاج إلى بضع كلمات لكي يتم صنع القارب ذهب للبحث عنها. ذلك الرجل الحكيم أراد أن يبني قاربا من كلمات أي انه أراد أن يعبر إلى الحياة والى المستقبل بالكلمات. الكلمة سر الخلق ومع بزوغها في الوجود الإنساني بدأ درس المدنية، وتحت عنوان الكلمة وسلطة الخلق ظهر الربط بين العقل والنطق اللساني إذ من الحجاج والجدل نشأت اللغة، وبما أن كل ذلك اعتمد على آليات الإقناع والاستدلال أي المنطق فقد أصبح الكلام والنطق والعقل أمورا متلازمة. وتعبر عنها كلمة (logos) ومنها جاءت كلمة المنطق.
من هذه المنطلقات الجذرية كان للكلمة حضور في وعي الإنسانية وحضور في وعي من يمارسون الكتابة وانا منهم إذ إن الكتابة تصبح أداة العقل وأداة التعبير وذات جاذبية لافتة حين يتم التعامل بها وعبر سيرورتها في النص يتم الاكتشاف والتأثير.
 أصدرت كتابين نقديين مهمين عن الاشتغال السردي في العراق وفي موضوع الأسطورة وكذلك الأسطرة تحديداً. ماذا أضاف النقد إلى تجربتك الإبداعية؟
 شكلتّ الدراسة الأكاديمية مرحلة مهمة في مسيرتي الأدبية فقد وجدت نفسي بإزاء بحبوحة من المصادر الأدبية وغير الأدبية مثل علم النفس والاجتماع على نحو خاص، وأتاح لي التعرف على فضاء الأدب القصصي في العراق لأنني درست توظيف الأسطورة في كتاباتي وكذلك الشخصية المؤسطرة في القصة العراقية. وكان لاطلاعي على كم هائل من القصص اثر كبير إذ بدأت أتعرف على أساليب وتقانات وهموم القاص العراقي والعربي كما اكتسب مشروعي القصصي طاقة حيوية جديدة انعكس ذلك في كتابات النقاد الذين تناولوا بالدراسة هذا المشروع وكذلك انعكس في دراسات الأكاديميين الذين أنجزوا بحوثاً ورسائل ماجستير عن أدبي القصصي.
- لاقت قصة الخميس التي عكفت على نشرها في الآونة الأخيرة اهتمام القراء والنقاد. ماذا تمثل عندك هذه التجربة بوصفها مرحلة من مراحل الكتابة السردية؟
 لم أجد للإجابة على هذا السؤال سوى ما سبق لي قوله في مناسبة سابقة: اجلس إمام التلفاز أو امشي في الشارع أو أمارس عملي والتقي بالناس أيعقل ان تمر كل هذه الحالات علي فأتخطاها واذهب إلى بيتي واجلس إلى مكتبي واصطنع طقوساً ومقبلات ثم اسرح متخيلا احداثا وأشخاصا واماكن وانسج منها قصة متخيلةً لا علاقة لها بما شاهدته ُ أو سمعته ٌ أو أحسست به ِ ذلك اليوم. لقد جعلت مما أعيشه وأعانيه يوميا ً وفي كل لحظة محفزاً لكتابة قصة صغيرة خبرية ليس فيها تمحلات مصنوعة ولا تحتوي على تزويق أو بهارج لغوية أو شعرنة مقصودة على العكس تماماً، أردت أن اروي خبراً فحسب وفي قصص كثيرة يظهر هذا الخبر على نحو مباشر، وهو في هذه الحال يراهن على واقعيته وعلى انتمائهِ إلى المشترك اليومي بيني والآخرين، ولكن واقعيته ُ تعتمد على الرصد الخاص واكتشاف ماهر لغرائبي أو عجائبي أو مثير أو مختلف، وفي ظني أن هذا هو سبب تقبل قصص الخميس فهي كما وصف جلال الدين الرومي "لعل الأشياء البسيطة هي أكثر الأشياء تميزاً ولكن ليست كل عين ترى".
- في فترة النزوح لاحظت انحساراً في كتاباتك. على ماذا تحيل ذلك؟ وهل نحن بحاجة إلى أدب يتحدث عن هذه المرحلة في حياة الإنسان العراقي؟
 كان النزوح مفاجأة قاسية وترتب عليّ مواجهة الأثر النفسي جراء تداخلات كثيرة منها القلق على العائلة والبيت وأمور الإقامة والانسجام مع المكان الجديد، وكل هذا حتم استغراقا سلبياً لا يمنح فرصة للتأمل الإبداعي كما تعودت؛ فانا لا اكتب إلا في أجواء الاطمئنان الكامل فضلا عن أن ما حصل اخذ يقتص من مصداقية الأشياء لأنه ينتمي إلى اللامعقول وتلك مواجهة وجودية أفقدتني الإحساس بجدوى الكتابة أو التواصل أو المشاركة إلا على نحو مبتسر وحذر جداً.
أما حاجتنا إلى أدب يتحدث عن هذه المرحلة فهذا أكيد ولكن بعد انتهاء هذه الصفحة العكرة لان أي شيء يكتب قبل أن تتكشف خيوط اللعبة يعد قاصرا لاسيما وان اللعبة ذات أجنحة وإطراف ومناقير لاحصر لها.