ادب وفن

الصورة الشعرية في قصيدة «إشراقات» للشاعر طلال الغوار / جمال نوري

إذا كانت القصيدة حسب وصف سي دي لويس تشكل "بحد ذاتها صورة" فان الصورة الشعرية تعد واحدة من المقومات الاساسية لتشكيل القصيدة لكونها النبض الفاعل والمحرك للمخيلة وبدونها تصبح القصيدة كما يرى كولردج "الشعر من غير المجاز يصبح كتلة جامدة ذلك لان الصورة المجازية هي جزء ضروري من الطاقة التي تمد الشعر بالحياة" وتتنوع اهتمامات الدارسين في اشتغالات الصورة من حيث القصيدة التي يحاول الشاعر ان يلبسها اياها وكذلك مصادر الصورة فضلاً على وظائفها ولا يمكن بالتأكيد عزل الصورة الشعرية عن وحدة القصيدة لأنها ينبغي ان تتماشى مع بناء القصيدة لما تحمله من مرموزات وطاقة ايحائية وبصرية تساهم في نقل التجربة الشعرية والحسية عبر اللغة الشعرية ، يرى ادوينس "ان خاصية الصورة الشعرية هي في ان تبعث في القصيدة نوعاً من القصيدة القائمة بذاتها والقادرة على الحياة بذاتها وحدها وبشكل كامل" ولا شك ان الشاعر يمتلك مخيلة فاعلة تحاول ابتكار الصورة التي تمنح قصيدته تفردها وقد تكون عناصر الصورة مرئية أو ذهنية أو انعكاسية لواقع التأزم النفسي الذي يعيشه وهي تمثل - اي الصورة الشعرية - رؤية الشاعر الثاقبة في رؤيته للأشياء والموجودات المحيطة به وعلاقتها بالكم المعرفي والخزين المعلوماتي الذي يتشكل في وعي الشاعر وطريقة تعامله مع اللغة ، والصورة التي تعد منطلقاً لإثارة الدهشة لدى المتلقي في صياغتها وتكوينها وابتكارها وقدرة الايحاء المخزونة في شفراتها، ويعد سي دي لويس الصورة الشعرية بمثابة "رسم قوامة الكلمات" وقد لا يتوقف الامر عند هذا الحد اذ يرى الدكتور محمد غني هلال أن "الصورة ليست الا الوسيلة الفنية الجوهرية لنقل التجربة في معناها الكلي والجزئي . وان الصورة الشعرية كلها ليست إلا صورة كبيرة ذات اجزاء هي بدورها صورة جزئية تقوم من الصورة الكلية مقام الحوادث الجزئية من الحدث الاساس".
تنهض قصائد الشاعر طلال الغوار في مجموعته "حرريني من قبضتك" الصادرة عن دار تموز للطباعة والنشر والتوزيع عام 2011 وهي من اصدارات قصر الثقافة والفنون في صلاح الدين على ابتكار الصورة المرئية العيانية التي تستند في جلها على موجودات الطبيعة المحيطة به من اشجار وانهار وشوارع ومدن وألوان ونوافذ وحقائب وخنادق وحروب وانكسارات كثيرة عصفت بحياته وأثرت بتجربته الشعرية في عمق دلالاتها وهي تتشكل داخل القصيدة عبر مزاوجة فنية بين ما هو خارج وداخل في عملية تحويل الصورة الشعرية من مشكلات المألوف الى شكل آخر ، يمتلك طاقة عالية في تأسيس رؤية جمالية مبتكرة ، من خلال قلق الاواصر المتشظية في تجربة تمر به القصيدة التي تسمو لديه لتصل الى حالات شعورية تقترن بذهنية عالية ، تتطلب من المتلقي ان يكون اكثر ذكاءً في الامساك بقصدية الشاعر ورؤيته المتجددة وفي قصيدة "اشراقات" نجده يفتتح المقطع الاول منها بهذه الصورة البصرية "اشراقات" نجده يفتتح المقطع الاول منها بهذه الصورة البصرية "تحت فأس عذابك" والعذاب بما يشكله من قسوة وفراغ ومعاناة هو اشبه بفأس يوحي لنا في ابسط صوره له بأنه يرمز الى القسوة فالفأس أداة تستعمل لبتر وتحطيم الاشجار او أية اشياء اخرى واذا كانت الفأس تقترن بالشجرة حياة ونبض الشاعر والفأس الذي يقترن بالعذاب وبشاعته يمثل عنصراً في كلمة "تحت" إلا انه "ابتكر صباحاً" أي ان المهمة الاولى لا تجعله ينساق وراء الاستكانة والركون والاستسلام بل انه يبتكر صباحاً ويتشبه ايضاً بـ شجرة وارفة الاضلال والانتظار هنا ايجابي في دلالته لأنه رقم مشوه الغياب الذي مثله بسطوة الفأس لن يبتر انتظاره الجميل لحضورها وانسجامها في مخيلته ... وتتعدد الصور المتلاحقة في قصيدة الغوار الذي يمتك طاقة مذهلة في ابتكارها وذلك لخصب مخيلته وثرائها .....
ثم يردف "ولن ادع الزمن يتقوس في احلامي"
وهكذا تصبح لغة التحدي مقترنة بالصورة الاخيرة وصف بها شكل الزمن الذي لن يستطيع رغم بشاعته ان يقوس احلام الشاعر وان يثنيها عن الوصول الى فضاء التحقق والتواصل مع الاخر .
ويتعرض الغوار في المقطع الثاني الى تجربة الحرب واهوالها وآثارها في جيله الذي وصفه الشاعر غزاي درع الطائي "نحن جيل البنادق جيل الكتابة في الخنادق" وفي هذه المقطعة الشعرية يستهل الفوارق "مذ دخلتين الحروب وخرجت من خطواتي الخنادق".
والحروب كما نعرف تغير من سياقات الحياة وتربك وتائرها في الحياة اليومية والمستقبلية فان كانت الحروب تحصل في الخارج فإنها ستدخل بانعكاساتها وظلياتها الى داخل الشاعر لتبذر اليأس والتراجع والخوف والمعاناة المستمرة فننقله من خندق الى آخر حيث تخرج من خطواته التي لا تجد مكاناً أليفاً ومطمأن غير الخنادق ، مكاناً متأزماً محفوفاً بالمخاطر والموت ولن يتوقف الشاعر هنا بل يختتم مقطعته الشعرية قائلاً:
صار النجم القصي
يودع احلامه
في فراشي
أي ان النجم البعيد الذي اقترب في تخيله بالأحلام المستقبلية والمشاريع الحياتية المؤجلة قد اصبح مستحيلاً في واقع يحتشد بمفردات الحرب والموت والألم .
وفي مقطع آخر يخاطب الغوار الزمن قائلاً "أيها الزمن انت تلوح دائماً بالوداع".
ويقترن التشبيه هنا بالتلويحة التي تشير دائماً الى الرحيل والوداع وهذا بلا ادنى شك اشارة واضحة الى حجم الفراق والغياب الذي يسكن الشاعر اذ يكشف ذلك في نهاية القصيدة
كلما اشرت الى نجم
سقط منير
من اصابعي
ان تلاحق الصورة الشعرية تمثل جانباً ثرياً من تجرية الشاعر الغوار لما تمتلكه من مهنية تستنفر ذائقة المتلقي وتثير فيه دهشة دائمة ولا تكتفي الصورة لديه عند مستوياتها المرئية الاولية بل تمتد في دلالاتها الايقاعية والفكرية في ملاسة الواقع واستشراق المستقبل عبر رؤية سفرية ثرة تجعله يخاطب اللامرئي قائلاً :
أيها اللامرئي
ها انا
اغمض عيني
فأراك ...
والرؤية الاستباقية اشارة الى اكتناز المخيلة بالصورة التي يبرع في تشكيلها الغوار من خلال ابتكار علاقات مذهلة بين الاشياء والموجودات لكي تتكون الصورة بكل ايحاءاتها المكانية والزمانية والذهنية ولتكشف في النهاية عن أهمية الصورة الشعرية في بناء قصيدة وتأثيرها وتشكيلها الفني المتميز.