ادب وفن

الترجمة وخذلان العقل العربي / علي حسن الفواز

لم تحظ إبداعية الفاعلية الترجمية بالاهتمام الذي تستحقه على المستوى المؤسسي والبرامجي، وعلى مستوى تأهيل العقل العربي لثقافة "التعرّف" التي تعصف بالعالم، فكنّا نستهلك لغتنا بنوع من المازوخيا التعويضية، وبحسابات واهمة أن لغتنا مكتفية بذاتها رساليا وتوصيليا، وكثيرا ما نتوهم أن تاريخانياتها كافية لصناعة المجد الموهوم وجرّ العالم إلى عتبات بيوتنا.
وهذا ما جعل العديد من مترجمينا يبحثون عن مقاعد حقيقية في النظام الثقافي العربي، ومقاربة ثقافات ولسانيات الآخر دونما حساسية، وبعيدا عن الأفق الذي ظل المترجم العربي يساكن عتمته، في الوقت الذي فرض فيه "الاستبداد الشعري والسردي" مهيمناته على الفعاليات الإبداعية والنقدية، أن وظيفة هذا المترجم لا تعدو أن تكون صورة مشابهة لـ "نسّاخي" الكتب الأولين. وحتى الكارزما الثقافية لشخصية المترجم ظلت بعيدة عن التوصيف وعن صياغة عنوانها المهني داخل أطر "السيستم" الثقافي، وأحسب أن هذا "البُعد" ظل يحمل في جوهره الكثير من الهشاشة الثقافية، على مستوى التنظيم العملياتي للمؤسسات وللدرس المعرفي والعقلي، وعلى مستوى الوظيفة الإجرائية في النظام الثقافي ومعطياته.. وإذا كنّا نفكر بجدية في جدوى الصناعة الثقافية لا نجد أمامنا سوى الدعوة للاهتمام بالمشغل الترجمي، بوصفه المجال الفعّال، والإطار الذي يمكنه أن يُثري المؤسسة الثقافية وفضاءات تعرّفها من جانب، فضلا عن إسهامه في توسيع مديات التواصل الثقافي المعرفي والجمالي والعلمي مع الآخرين، التي تحوّلت في ظل هيمنة تكنولوجيا المعلومات والمعارف إلى فضاء لا محدود، وإلى شكل للاغتراب الثقافي الضاغط..
ولعل أي مراجعة لعدد الكتب التي تترجمها المؤسسات الثقافية العربية سنويا سنكتشف حجم كارثة العزلة الثقافية التي يعيشها العقل العربي، وكم هي الأوهام التي تحاصر المثقف العربي، وتتركه عند التاريخ والمتحف والمرويات والمشافهات مسكونا بلعبة الاجترار والاستعادة، فالأرقام مهولة، ونوعية الكتب التي تتم ترجمتها تكشف عن حقيقية العزلة الثقافية والمعرفية والعلمية والفلسفية التي نعيشها..
صناعة المعرفة والتعرّف تعني تأمين المجال الحيوي للتعلّم والفهم، ولنشوء العقل المؤسسي الذي يملك القدرة على التخطيط والتنظيم بقياس المعرفة والتراكم والجدوى، وهذه العمليات ليست بدعة، أو جزءا من أوهام الغزو الثقافي كما يرى البعض، والتي يُخشى منها في موضعة العقل العربي تحت تأثير بيئات لغوية وثقافية ودينية وأخرى سياسية.
تكريس أوهام ثقافة "العزل" تحت يافطة الخوف من الغزو الثقافي، وغياب البرامج الحقيقية والمُنظَمة للترجمة ستجعل المثقف أكثر ضعفا في مواجهة قيم التجديد، والتحولات التي غمرت كل تفاصيل المعرفة في العالم، مثلما تُفقده القدرة على الحصانة، وعلى المناورة، وعلى المغامرة أيضا، لأن المعرفة في جوهرها مواجهة للأسئلة، وفعل حقيقي في التراكم والتأسيس والوعي الفاعل في الوجود، وفي التناص والتفاعل مع الآخرين منتجي الأفكار والمعاني والقيم والشيفرات، بما فيها شيفرات التأويل والاختلاف، تلك التي تتطلب مزيدا من المعرفة والفهم والانفتاح على اللغات والأفكار الأخرى..
المترجم سعيد الغانمي أكثر مترجمينا الشباب اهتماما بترجمة المشروع المعرفي الحداثي، والأكثر تمثلا لقيمه الثقافية التنويرية، بكل ما تثيره من جدل وأسئلة، لكنه يمثل صورة للرثاء الترجمي، فهو يعمل لوحده دونما مؤسسات، أو ربما يخضع عمله لتكليف هذه الجهة أو تلك، وهو عمل انتقائي ولا يمكن وضعه في سياق العمل التأسيسي..
هذا التموضع أو ما يمكن تسميه بالعزلة، أسبغ على مشغله الثقافي طابعا أقرب للخيارات الشخصية، أو خيار الجهات التي تُكلفه لترجمة هذا الكتاب أو ذاك، في الوقت الذي ندرك أهمية العمل على مأسسة المشروع الترجمي، لأهميته ولضرورته في مواجهة التصحر المعرفي الذي نعيشه، والإهمال الذي تواجهه أسئلتنا الثقافية، وهي تقف عزلاء أمام اللعبة الكونية لإنتاج الأفكار وإجناسات الثقافة، والتحولات الكبرى التي تخص وظائف المثقف، ووظائف المؤسسة الثقافية في تقعيد المناهج والنظريات والتداول العلمي للمصطلحات والمفاهيم..
علاقة الغانمي بالمشروع الثقافي التنويري تنتمي إلى جدّة ما يحمله من فكر يلامس أسئلة الحداثة، وأسئلة ما تبثّه من مقاربات تخص الفلسفة واللغة والأنسنة والأنثربولوجيا وسسيولوجيا المعرفة وعلوم النقد واللغة وغيرها من مؤسِسات العقل الثقافي المعرفي والنقدي والجمالي. وقد أفضت هذه العلاقة خلال عقود إلى ترجمة الكثير من الكتب الرائدة في المجالات النقدية والمعرفية، ورغم محدودية جهاتها المستفيدة وضعف تسويقها، إلا أنها- وبالرغم من ذلك- تبشّر بأنموذج مميز لشخصية المترجم الجديد الذي ينبغي تكريس ظاهرته في الاجتماع الثقافي العربي والذي نحتاج إلى مأسسة عمله.
ترجمات الغانمي تمثل اليوم واحدة من أهم الجسور الفاعلة في المشروع الثقافي الجديد، ولعل ترجماته المؤسسِة للكارزمات الثقافية الإنسانية تشرعن فاعلية عميقة للتعرّف والإضافة، ولتلاقح الأفكار في سياق تحولاتها الحداثية، وفي اتساع وظائف مفاهيمها عبر غرسها في المجالات المعرفية، وعبر تحفيزها للتعاطي مع إشكالات الهوية والنص والمعنى والحرية والجسد والاستعارة والقيمة الاجتماعية للثقافة، وحول إعادة النظر في الكثير من النسقيات المضمرة في مجالات التاريخ والأساطير والملاحم بوصفها كشوفات باهرة للعقل الإنساني، ومديات مازالت قابلة لفاعلية القراءة والتلقي…
الحديث عن مشروع الغانمي يرتبط أساسا بتوصيف هذا المشروع، وبربطه بتجديد أدوات البحث العلمي في مجاله الترجمي، وبأهمية البدء بعملية ترجمة واسعة للمنهجيات الحديثة ولمشاغلها المعرفية، وبما يعزز قوة العقل الثقافي في أن يكون مجالا معرفيا لأنسنة وتيسير استعمالات الأفكار وتداولها، ولمواجهة تحديات كبرى يعيش أزماتها الكائن الثقافي والسياسي، إذ نجد أنفسنا جميعا اليوم في مواجهة مأزق تعويم قيم الثقافة وعزلها، وإزاء بيئة فقيرة تنتشر فيها بشكل غرائبي نزعات التطرف وكتب الأصوليات والغلو والتكفير الطاردة للآخر، التي تعمل على إشاعة ثقافة الإخضاع والمنع والطرد والإكراه، لاسيما كتب الفقهيات والسحر والموت وغيرها، التي تشرعن تحريم وتأثيم الحوار الثقافي بين الأمم، الذي تمثل الترجمة واحدة من أبرز تمظهراته الثقافية..
هشاشة البيئة الثقافية تخذل العقل عن الفاعلية، وتعطّل أسئلته ومؤسساته، وتشوه مظاهره الإنسانية والحضارية، وهو ما يستدعي بالضرورة التعاطي مع هذه المشكلة بوصفها ظاهرة ترد حضاري، واستعداء ثقافي مع الآخرين، وتغييب أي جهد لإنضاج البناء العلمي لنظريات العلم والفكر والجمال والفنون والفلسفات، وعبر الدعوة إلى استعمال مفاهيمها ونتائجها على مستوى التعليم، وعلى مستوى بناء مشروع الدولة المدنية وبناء القوة المعرفية الرادعة لكل مظاهر الجهل والتخلف والظلامية..
ربط مشروع الغانمي وعدد من مثقفي التنوير الثقافي الجدد بمأسسة فاعلية للبحث العلمي يمكن أن يكون مدخلا لإنشاء برنامج ترجمي قومي، يسهم في تنمية المعرفة وتهيئتها للأجيال الجديدة، ولتنمية حلقات الفعل الثقافي في حياتنا، وفي مؤسساتنا الأكاديمية والعلمية، وفي تعرية كل مظاهر الزيف التي ارتبطت تاريخيا بالاستبداد السياسي، وبمركزيات الرعب السياسي والطائفي، وهو ما يعني الدعوة إلى الجهات المعنية عربيا لتفعيل الجهد الترجمي، وللاهتمام بفتح مراكز "حقيقية" للبحث العلمي وللدراسات الثقافية التي تُعنى بمجال التطوير المعرفي والتنموي، وشرعنتها قانونيا وتمويليا، وإعطائها الاستقلالية العلمية، واستثمار الطاقات والخبرات الثقافية العربية العاملة في مراكز البحوث العالمية للاستفادة منها في هذا المجال، وتشجيعها ماديا ومعنويا، وعلى وفق أسس علمية ومهنية وبعيدا عن الحساسيات والحسابات في هذه الدولة أو تلك.