ادب وفن

السينما والظلم: حالة " اثنا عشر رجلاً غاضباً" / عبدالله الساورة*

السينما والظلم، موضوعة حية، توقظ الشعور بالذنب، وهو أسوأ شعور يعتري المرء، فالأرواح النبيلة أكثر ما تخشاه وتتحاشاه أن تقترف الظلم، والظلم تهديد للنفس والبدن والروح وللمجتمع وفتح لمسار التعاسة والقبح ومقت الذات في كل الاتجاهات وتحمل تبعات ذلك. في فيلم " اثنا عشر رجلاً غاضبا" يحمل بطل الفيلم المحلف رقم ثمانية هذا الهم، ويعي جيداً تبعات الظلم والإحساس الذي يطارد الانسان بإلقاء شخص برئ في براثين الإعدام. ” فماهي براءتنا؟ وما ذنبنا؟ كلنا عُراة، فلا أحد في مأمنٍ ” .. كما يقال
هذا الفيلم الكلاسيكي / الجديد، كلاسيكي بعدد النسخ التي استخرجت من المسرحية الأصلية للعمل في أعمال سينمائية، وجديد في فكرته التي لاتموت: محاربة الظلم ومجابهته، " فالديمقراطية تكون متسامحة بقبول بعض جرعات الظلم حتى تتجنب ظلما جديداً" كما يقول المفكر الايطالي امبرتو ايكو. هذه المنهجية هي التي نهجها بطل الفيلم وذلك بمعارضة قرار إعدام الشاب البالغ تسعة عشر عاماً والذي اتهم بطعن والده في القلب بسكين وأرداه قتيلاً.
في الفيلم حكايتان متوازيتان، حكاية الشاب الذي قتل والده وظلت في خلفية الأحداث، وحكاية المحلف رقم الثمانية في مجابهة هيئة المحلفين البالغ عددهم اثنا عشر رجلا. في كلتا الحكايتين يختلط السرد ولكن الحكاية لاترواح قاعة مغلقة في المحكمة في جو يتسم بحرارة الطقس وتضفي عليها المناقشات والجدل والبرهنة سخونة وغضبا لاينقشع إلا في نهاية الفيلم. شخصيات الفيلم اثنتا عشرة، هي مجتمع مصغر يحاكم مراهقا من الأحياء المهمشة والمتصدعة بارتكاب جريمة، وقبل التأكد من صحة الروايات والتمحيص فيها تسبق الأحكام المسبقة وخلال الدقائق الخمس لبداية الفيلم يصوت احد عشر محلفاً بأن المراهق ارتكب الجريمة النكراء في حق والده والمجتمع، ويسوق بعض المحلفين أن الشاب ضرب أستاذاً في جبهته وهو لم يبلغ الحادية عشر من العمر، وأنه كان مشاكسا وفي كثير من الأحيان تم توبيخه من طرف والده بالضرب المبرح، وتم نقله إلى "خيرية" للإيواء. كلها معطيات عن مسار الشاب أن بإمكانه ارتكاب الجريمة. في حين يقدم المحلف رقم ثمانية فرضية جديدة، أنه فقط يرغب في مناقشة الأمر وطرحه من زوايا متعددة دون الجزم باتهامه أو ببراءته، ويطرح بعض أصدقائه المحلفين أن عملية تربية الأطفال تستدعي الصرامة في بعض الأوقات، وأن الأحياء الهامشية ليست مرتعاً ومكاناً لتخرج المجرمين، ودليل ذلك أن المحلف رقم خمسة كبر ونما بنفس منطقة الشاب المتهم وأنه يفهم سيرورة الظروف المحيطة بحياة الشاب المتهم وليس كل من يولد بهذه المنطقة مجرما ً.
يبرز الفيلم أن بعض شخصيات الفيلم يغيرون أراءهم ومواقفهم بسرعة كبيرة دون أن تطرح على نفسها سؤالاً أساسياً أن ما يتم تداوله هو حياة إنسان بين الموت والحياة. وأن المسؤولية الأخلاقية والتريث وعدم الاستخفاف في أخذ الأحكام هي القاعدة التي يجب اتباعها وليس النظر إلى الساعة الحائطية المعلقة والغرائز النفسية. يعدد بطل الفيلم الحجج بنوع من التركيز والتريث انطلاقا أن العجوز الأعرج لايمكنه أن يقطع مسافة ستة عشر متراً من غرفته إلى الممر لفتح باب الممر وأن الأمر يتطلب أربعين ثانية وليس خمسة عشر أو عشرين ثانية كما أفاد بعض المحلفين. كل دليل يجب أن يناقش بالمنطق والعقل بعيداً عن الأهواء، المرأة التي تنظر من الجهة المقابلة للشقة ويفصل بينها سكة حديد تمر في نفس لحظة وقوع الجريمة لايمكنها أن ترى من مسافة عشرين متراً الجاني أو القاتل في الساعة الثانية عشر ليلا وعشر دقائق بنظارات طبية. نفس الأمر بالنسبة للعجوز الذي شِهد أنه سمع صوت الشاب وهو يقتل والده في لحظة مرور القطار. كذلك طعنة السكين في القلب كانت من قبل شخص أطول من الأب بينما الحقيقة أن الشاب أقصر من الأب. هذه القرائن تتم معالجتها ومناقشتها ودحضها الواحدة تلو الأخرى. في البداية تكون جبهة المحلفين مكونة من 11 محلفاً مقابل شخص واحد. تم تنقلب الآية في التصويت الموالي أربعة مقابل ثمانية وفي مرحلة ثالثة ستة ضد ستة وفي مرحلة ما قبل أخيرة ثمانية ضد أربعة لصالح براءة المتهم تم في مرحلة أحد عشر مقابل محلف ظل متشبتا بأن المتهم ارتكب الجريمة. تم في مشهد أخير في الفيلم يعي المحلف الخطأ الذي اقترف في بداية التصويت وأن الشاب برئ.
فالبراءة لا تأتي إلا بالإمعان في التفاصيل الدقيقة دون الأحكام المسبقة والمتسرعة التي توازيها المسؤولية الأخلاقية.
يطرح الفيلم قضية أساسية: الظلم في مواجهة الأحكام المسبقة وفي مواجهة التسرع وفي مواجهة الغرائز والشهوات والانطباعات الشخصية. أن تنظر السينما لقضية الظلم من وجهة نفسية واجتماعية وأخلاقية لمن يمثلون العدالة والقضاء في هذا العالم، فإنها تسلط الضوء على الواقع الذي تعيشه هذه العدالة من تسيب و من أحكام تذهب حد الإعدام بسرعة البرق في حق أشخاص لم يرتكبوا أي جرم وأن ذنبهم الوحيد هو التواجد في مكان الجريمة. يطرح أحد المحلفين أن الشاب نسي عنوان الفيلم الذي شاهده في السينما حينما سئل عن مكان تواجده، وأنه عاد إلى منزل والده في الساعة الثالثة صباحاً ليجد شرطييْن ينتظرنه، فيقول أحد المحلفين " كيف يعقل أن يعود الشاب إلى منزل العائلة إذا كان قد ارتكب الجريمة في وقت سابق؟! ".
الفيلم ملئ بالدلالات والبراهين وبالإستخدام الجيد للعقل في تفكيك البراهين لاستيضاح وتبيان الوقائع التي تتطلب الصبر والروية للوصول أن الشاب الذي عانى القهر والتهميش لايمكن أن يكون مجرمًا. وأن الحكم بالإعدام عليه هو عمل مخجل لايرتكز على مسؤولية المحلفين والمهمة المنوطة بهم وإيلائها العناية الفائقة.
أغلب لقطات الفيلم كانت متوسطة تظهر جمع المحلفين في شجاراتهم وشجاعة بعضهم واستهتار بعضهم. ولقطات قريبة تبرز عيونهم واندهاشهم وملامحهم من اكتشاف حقائق كان يجهلونها أو لم يمنحوها أهمية كبرى في تقصي الحقائق. في نفس الغرفة كانت الكاميرا في مواجهة شخصيات الفيلم في مواجهة باب الغرفة والساعة الحائطية ومكان وضع بدلات الشخصيات حيث الطقس يتسم بالحرارة المفرطة. المروحة بدورها في الفيلم لم تكن فقط ديكورا جامداً فقط سعى البعض إلى تشغيلها ولكنها ظلت معطلة في بداية الفيلم حينما صوت المحلفين أن المتهم اقترف الجريمة. ولكن في لحظة التصويت بالتساوي ستة ضد ستة اشتغلت المروحة، في إحالة أن ماكينة العدالة بدأت تأخذ مكانها وانطلاقتها في تحريرالشاب من قبضة الظلم. نفس الأمر بالنسبة لحالة الطقس حينما بدأ المطر في الإنهمار وهو دليل على المطر يمحي تصويت الخطيئة الذي ارتكب في اللحظة الأولى. وفي حالة صمت الشخصيات تنقشع الموسيقى التصويرية.
في فيلم " اثنا عشر رجلاً غاضبا" نجد النسخة الأصلية عام 1957 للمخرج الأمريكي سيدني لوميت والذي تنحاز أفلامه لطرح اشكالية السلطة وتفرعاتها. نجد فيلم " 12 رجلاً غاضباً" (1997) للمخرج ويليام فريدكين. تم نسخة حرة للمخرج الروسي نيكيتا ميجالكوف بعنوان
" 12 " سنة ( 2007). في اسبانيا نجد نسختين الأولى عام 1962، تم النسخة الثانية في استوديو رقم واحد بالتلفزة الاسبانية سنة 1973 من اخراج غوستاف بريس بويغ.
انشغال هؤلاء المخرجين بهذه القضية، بالإضافة إلى وجود نسخ أخرى عن الفيلم الأصلي دليل عما توليه السينما في طرح قضية العدالة والحق وتطبيق بنود القوانين والتحقق منها والإستماع إلى أقوال المتهمين. في شخصيات الفيلم نجد شخصيات الفيلم تتوزع على الشكل التالي:
المحلف رقم واحد: بين 40 و 50 عاماً، رئيس هيئة المحلفين، غيّر تصويته لأنه تأكد أن المتهم الشاب برئ.
المحلف رقم اثنان: 35 عاماً موظف بنك، يعتقد بأهمية السلطة القضائية، لم يشارك كثيراً في النقاش، غيّر رأيه بسرعة قصوى.
المحلف رقم ثلاثة : 50 عاماً، يمتلك شركة صغيرة، يشتغل بها سبعة وثلاثون عاملاً، يحمل كرهاً شديداً للمتهم وهو أخر من صوت ببراءته.
المحلف رقم أربعة: بين 35 و40 عاماً، يشتغل بالبورصة، يركز بالضرورة على الأفعال التي هي ضد المتهم الشاب، وعلى العكس من ذلك ظل صوته عالياً ضد المتهم فترة طويلة.
المحلف رقم خمسة: 25 عاماً، عامل، عاش بنفس منطقة المتهم. الوحيد الذي يتفهم الظروف المحيطة، ويأخذ القضية بشكل شخصي. كان من الأوائل الذي عمل على تبرئة المتهم.
المحلف رقم ستة: 40 عاماً، يشتغل صباغاً للمنازل، ليس لديه القدرة على هذه النقاشات والجدل الدائر، ويرغب أن ينقضي الوقت بسرعة ليذهب لحال سبيله.
المحلف رقم سبعة: 50 عاماً، ممثل لشركة تجارية، مقتنع بأن المتهم مذنب، وله خشية وريبة وعدم الثقة بالمثقفين. لم يغير من موقفه وصوت في نهاية المطاف ببراءة المتهم.
المحلف رقم ثمانية: 52 عاماً، مهندس، الأول الذي صوت أن المتهم برئ، وأيقظ ظلال الشك بين بقية المحلفين، وبرهن للواحد تلو الأخر بالبراهين القاطعة والدامغة وبتتبع الحجج للحيلولة دون ادعاء يصل إلى إعدام المتهم.
المحلف رقم تسعة: 73 عاماً، متقاعد، متفهم، إنسان حذّر بالنسبة لجميع البراهين. لهذا يتفهم منطق المحلف رقم ثمانية ويتبع اقناع بعض هيئة المحلفين.
المحلف رقم عشرة: بين 40 و 50 عاماً، ميكانيكي، يُغَيِّر من موقفه ومن تصويته، ويريد الإنتهاء من القضية بسرعة كبيرة تحت ضغط السرعة.
المحلف رقم أحد عشر: 55 عاماً، ساعاتي، من أوربا الشرقية، ضحية الأحكام المسبقة لأعضاء هيئة المحلفين ثلاثة، سبعة، وعشرة، يبرهن عن عزلته مع المتهم.
المحلف رقم اثنا عشر: 30 عاماً، يشتغل في قطاع الإشهار، غيّر تصويته ثلاث مرات بعد تقديم المحلفين لحججهم.
الملاحظ أن أغلب النسخ الفيلمية بما فيها النسخة الأصلية غيبت المرأة... ولم تكن حاضرة في هيئة المحلفين!!!!!.
أحد هيئة المحلفين ينشغل بالرسم عِوَض التركيز على مجريات القضية، ومحلف مريض يسعل بين الفينة والأخرى، ومحلف مستهتر. في إحالة أن المخرج يقدم حالة الحق المعلول والعدالة المريضة والمعتلة التي تستهتر بحياة الانسان دون النظر في التفاصيل الدقيقة.
يبقى سؤال أساسي يطرحه الفيلم : لماذا يغير الإنسان من رأيه؟
الجواب بسيط جداً أن الشخص في البحث عن الحقيقة وكشفها بالبراهين والحجج عليه أن يتخلى عن الكبرياء والغطرسة، ويردم الأحكام المسبقة ويقبل بتغيير رأيه لصالح الحياة ولصالح براءة الإنسان الذي اتهم دون التحقق من الأدلة المقدمة ضده. ألم يقل نيتشه ذات مرّة ” إنّهم أبرياء حتى في شرهم ”.
عبدالله الساورة: كاتب وناقد سينمائي من المغرب*