ادب وفن

قراءة في تجربة الشاعر مجيد جاسم الخيون «هور الچبايش»... منجز شعري كبير / سفاح عبدالكريم

الشاعر مجيد جاسم الخيون شاعر ومناضل وأنسان... غني عن التعريف مبدع أصيل... له قراؤه ومتذوقوه لما يحويه نطقه من حلاوة وكنه لهما طعمهما... شاعر عشق بيئته حد التصوف والموت وأبى أن يفارق طينته الا وهو مرتشف آخر فنجان قهوة في مضيف أهله العامر "آل خيون" وحينها وما زالوا شيوخاً لبني أسد عموماً.. تشبعت أنفاسه بعطر رائحة البردي والقصب ونسمات الهور وأزاهير النباتات المائية والشمبلان ونفاح الحوليات المحاط به.. رحل مبكراً تاركاً وراءه ثروة شعرية كبيرة وقصائد لا تنسى ومنها "هور الچبايش لا تسد الشط" و"العاصفة.. حلمان.. لعب طوبه.. طلع چذاب.. وغيرها" من القصائد الجميلة وقد لا يجد جيلنا الحالي ومن الشباب خصوصاً ترانيم الأناشيد والصيحات الشعرية في وقتنا لمضي زمن عليها وعدم الاهتمام الحكومي في التراث عموماً واهمال البعض من المتوفين والحاضرين.. (لسوء حظنا). ان المجموعة الشعرية الوحيدة له التي حضينا بها وبه "هور الچبايش" وبعض القصائد التي نحصل عليها من هنا وهناك. وقد قرأناها في حينها في (مجلة العاملون في النفط) وصحيفة كل شيء الاسبوعية والراصد وغيرهما من الواجهات الاعلامية المقروءة والمسموعة. والشاعر مجيد الخيون في تصوري يحمل صنعة ابداعية خاصة ومتميزة ومعروفة من لغتها ومحتوياتها والشاعر هظم لغته الدارجة بمعرفة ودراية وقد امتزجت تطلعاته بالامثلة الشعبية المتواردة ونطق بما يحيطه من تداولات وموروثات ولهجة متعارف عليها وقد عرف بها جيداً وقدرته على الصياغة والتكوين وتوجهاته الحداثوية من خلالها حيث مزج معانياً، بقدر من التفرد والاستماع والاستساغة والابداع.. وكان صادقاً ومتحمساً لكل ما يكتبه ولم يتكئ على احد في منجزه الشعري وعاصر الماضي والحاضر ومفارقاته ومداعباته لها معنى ورمز يفهم من خلال قراءة نصوصه الشعرية الموجهة صوب من لا يدرك معنى الحياة والثورة والانسانية والوطنية مستمداً قدرته من وعيه اليساري وشبابيته المتجددة فهو عارف لما يكتب سلاحه المجابهة بالحرف، واعتمر السجون، وعانق كبار الشعراء فهو لا يسيغ الكذب مطلقاً منتقداً في شعره من لا يرغب فيه بصراحته المتناهية بقوله "الهور سويته مُرّگ.. زورّك خواشيج الچذب" وكذلك عدم خشيته المتسلطين ابداً فخذ من قوله مثلاً "گالوا زرة سمچ طاحت ابغداد.. ليش الفاو ما عنده ولا صبره". وكذلك استهانته بالظلمة "خروف أگرن سمك نمله"..
ان "هور الچبايش" فعلاً احتوى الشعر الحقيقي غير الملمع والمتداخل في محتوى الضياع اللهجوي.
ان الشاعر مجيد جاسم الخيون علم بارز يرفرف في سماء الشعر الاصيل ونموذجاً متفرداً وعندما يتخطى في عگد الهوى – سوق الناصرية – سوق العشاق تنحنى له الرؤوس والاصابع تشير له، مثقفاً واعياً.. واعداً.. مقروءاً فهو والهور لحمة واحدة... بناؤه – رصانته – لعبته – طفولته – انتماؤه – عشقه – فقوله يعني كلما أتحدث عنه او ما غفلت عنه.
"يا روحي الچبايش بيك روحي اتطوف"
وكان انتماؤه له واضحاً يغرف من منبعه وطشاشه ما يشاء شغوفاً بعشقه اللذيذ معاتباً بصدق وشفافية.. يحتويك حتماً عند اللقاء به – أو حينما تقرأه منبهراً بتحولاته وصوره الفنية المنتقاة من بيئته – ومنها استمد عافيته مطلقاً قبل البوح عن اسراره ومعتقداته.. سالكاً طريقه بصبر واحتراس وشجاعة. وهو يعرف كيف ينقل خطواته جازماً بصحة مسيرته التي آمن بها فهو والمفاجأة صنوان لا يفترقان يعاتب بصراحة ودفء فمن قوله تلمس ما تقدمت به.
"إتشگگ إلحاف الشته وإخيال صيفك ما يمر..
... ، روحي غِدت بردانه
إجويريد المطيح الورگ... مرّ او طرگ دنيانه
ملاح مشحوفك ولا دار الوجه والشوگ ظل ويانه"
ان اللمعات التي يرسمها شاعرنا الكبير "مجيد جاسم الخيون" تدل على قدرته على تأثيث وحدة النص وايصال المعنى بمهارة فائقة للمتلقي المتعطش والمتعمق في صف وحدة لغته ولهجته التي تدرك تماماً من المتعلقين والعارفين بمعنى اللهجة ومشاهداتها فهو بارع في الالتقاط والخلق والتصوير.. فهو عاشق من طراز خاص من طين عجنته اشكالاً وكأنك تعيشها تواً وأنت عمق المدن.. والاهوار.. فهو صانع ماهر لا يستجدي احداً ولن يتصفح الموسوعات.. أعتمد تلقائياً من محادثاته.. ورؤياه.. شق طريقه بنفسه منتشياً بعبق عطائه الثر.. يحلم بما هو أصح أن يكون مرهف الحس ناطق بما هو معبر عن تصورات يكنها غيره بكفاءة ودراية واخلاص فنطقه عن امرأة عاشقة يعني درايته بوحدة الموضوع وكيف الاشتغال عليه فمثلاً:
"حلمانه لو شوگي يوعيني وأفز
لو ماي بارد عالضلع نگط إو من طيفي أفز"
والشاعر عتابه قائم لمن يحب ملاطفاً ومعانقاً إياه بكل شغف وفرح:
"يا هور الچبايش لا تسد الشط
يبو العگيد يلشبعت طير البط
يا هور الچبايش هيلك او فنك..
... تجاوبني الحقيقه إمن أرد انشدنك"
رؤياي عن الشاعر بان معاصرته تعني انتماءً للحاضر والواقع وإذ يستدرك اشياء من خلال وعيه واطلاعه وصدقه يعطيك ما يعنيه الشعر اولاً في الارتياح والتكوين والابداع فحكايته مع القطار "الريل" يعطيك نموذجاً لصنعته المتفرد.
"وَذح يا قطار الشوگ... وذح حيل بالسچه
لف الگصب بچرخك... داويها المكينه من دهن سمچه"
ما هذا المزيج والالتصاق؟.. هذا هو التصور الحقيقي لمعطيات النصوص التي يكتبها فهو المبحر في اعماق المسطحات المائية والطشاش والسماوات من دون خوف أو غرق.. وحتى في الاواسط العميقة من البحار لثقته التامة بنفسه.
"أسبح وسط موج البحر... يغرگ الكوسج هم شِفت"
وعن ذكرياتي مرة ساقتني قدماي ولهفتي الى الذهاب اليه مع أخي الشهيد ابراهيم عبدالكريم وكان لأهلي علاقة اجتماعية باهله الطيبين.. وكان ذلك عام 1971 وفي زمن شموخ القصيدة الشعبية السبعينية وكان الخوف والخجل ينتابني..كيف أجاري هذا الشاعر الكبير والانسان المضياف وقد استقبلني بحفاوة هو وأهله.. وقبل أن ابدأ الحديث معه كان قد غير الطاغية اسم مدينته (بدل الچبايش – بالجزائر).. لكنها بقيت وما زالت على اسمها.. سألته مازحاً أريد اشوف المناضلة جميلة بوحيرد الجزائرية فضحك وصمت بوجهي واشار الى الهور وقال ترى تلك السمراوات العائدات من حنايا الهور.. قلت نعم.. قال جميعهن جميلة بوحيرد.. هنا توقفنا واستمتعنا واستمعنا جميعاً أنا والمضيفون الى هتافات وصناعات وقراءات الشاعر مجيد الخيون وكأن الثائر جيفارا ينطق من الاحراش ويقاتل بالكلمة قائلاً وفي وقتها كانت وما زالت القضية الفلسطينية قائمة.
"يا ضمير العالم المشلول ما هزتك خيمه...
واليتامه الحافها برد الشته والگاع هيمه
يا رصاص اسلاحنه الرايح حريمه يا حريمه
السوالف ضاعت ابهيئة اممكم يا حريمه
"جونسون" ساس الجريمه
ما يرد الگاع غير اسلاحنه البيه العزيمه"
وهكذا استمتعنا بقراءتنا.. لكني لم استطع مجاراته في حينها..
قبلة الوداع لك ايها الشاعر وأنت في مثواك... ومودة بالغة.. خالصة وأنت توقض فينا الشعر مجدداً واعتقد جازماً حينما يجف بي عرق الكتابة وفيض الروح والوجدان أذهب مستجدياً القك الشعري رحمك الله يا ابا ايمان وانت تبحث عن كلمة الحق التي تقال من دون خوف او تردد وترفض كل ما هو متمرد على صيغته ومعتقده بقولك "طلع چذاب"
عانگت الگمر مرّه ابضباب الليل... عانگني گمرنه إو غاب
صميّت الشعاع اصموم... فكيت الصموم إتراب
عاشرت الصدگ عشرين... شو لنّه الصدگ چذاب
يا صوب العدم قيمه الوجودي اتشوف.. عندك للسؤال إجواب
وأظل ابشك ولا صدگ... طلع حته الصدگ چذاب
يا تمن الشاميه أكل كل زينك المشخاب"