ادب وفن

عروس الصحراء.. "بصية" السحر والجمال

قاسم صبار الفوادي/ جمعة حسين السوداني
لا يبقى ذكر للمدن والأشخاص والأحداث ما لم يكن هناك من يدون بعض ملامحها، لتكون مصدرا للتاريخ وللأجيال.
لذلك عمد الكاتب احمد حمدان الجشعمي* الى الكتابة عن مدينته "بصية" بشكل متكرر ليبقى التاريخ يذكرها ويذكّر بها الاجيال، خاصة وأن "بصية" تقع في بطون صحراء السماوة ووسط رمالها.
يقول احمد الجشعمي في كتابه "الرمال": تقع "بصية" في أقصى الجنوب الشرقي للبلاد ضمن محافظة المثنى، وتتبع قضاء السلمان اداريا، وقد أصبحت ناحية بموجب مرسوم جمهوري سنة 1958، كما وتبلغ مساحتها 24532 كم.

وتعد "بصية" من أقدم النواحي وأعمقها في الصحراء واكبرها مساحة، تحتوي بيداؤها المترامية الأطراف على كميات هائلة من الاحجار المختلفة، اضافة الى الحقول النفطية الممتدة قرب مركز الناحية وحتى الشريط الحدودي مع الكويت والسعودية.
وتعد أغلب بيداء "بصية" صالحة للزراعة، اذ تمتاز بخصوبتها العالية وتوفر مخازن هائلة للمياه الجوفية التي تتصف بعذوبتها وغزارتها لذلك فهي غنية بالنباتات والاشجار والشجيرات الحولية والمعمرة.
تاريخ "بصية"
سكنت بادية "بصية" قبائل عربية كثيرة ممتهنة حرفة الرعي، فقد سكنتها قبائل بني تميم في منطقة "شقراء" والمعروفة باسم وادي الغضا او وادي بني تميم، وسكن بنو شيبان في مركزها ناحية "بصية" وابو غار.
ولم يلاحظ أي اثر شاخص لسكانها القدماء في الوقت الحاضر سوى الآبار المنحوتة في الحجر بوادي بني تميم وقبور الهلاليين، والتي حفرت بنظام هندسي متقن قل نظيره في البوادي العربية باسرها.
والملاحظ ان الناس في ناحية "بصية" مازالوا يسمون "شقراء" بوادي الغضا ومنطقة الرمل، التي قال عنها الشاعر مالك بن الريب التميمي:
الا ليت شعري هل ابيتن ليلة بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه وليت الغضا ماشى الركاب لياليـــــا
نشأت ناحية "بصية" بادئ الامر بعد بناء حصن بصية العسكري فيها سنة 1927 حيث ان اغلب الشرطة الهجانة فيها قاموا ببناء بيوت لهم من الطين "اللبن" بين المخفر والوادي وشيئا فشيئا بدأت بالظهور حتى سنة 1958 والتي صدر مرسوم جمهوري يقضي باعتبارها "ناحية"، اذ شهدت بعد ذلك تطورا ملحوظا، حيث تم بناء مركز للشرطة فيها وبناء مستوصف ومدرسة ابتدائية وعدة دور للموظفين وحفر بئر ماء ارتوازية وايصال التيار الكهربائي الى منازل المواطنين فيها .
ويقول احمد الجشعمي في كتابه الرمال "ومدينة بصية التي تكافح من اجل العيش والبقاء ما زالت ترفد العراق بثقافة ابنائها ورموزها وارضها المعطاء... فقبل الاسلام وما حدث على اديم صحرائها من معارك طاحنة استدعت ان يقف شعرائها وشاعراتها لإثراء ثقافة المعركة، شعرا ونثرا وادبا، فكانت من اشد الاسلحة وطأة في حسم المعركة لصالح اهلها".
ومن أبرز شعراء "بصية" بعد مالك بن الريب التميمي، منصور المديني، مسمار الصميدعي، فالح بن عابر الجاسمي، محمد الخشيبان الشعطان الظفيري، مهلي حشاش المعلومي الظفيري، نعيم المدور، وعبد الجبار بجاي حاشوش الزهوي، واحمد حمدان الجشعمي.
بصية اليوم
زار "بصية" وفد من دائرة العلاقات الثقافية العامة في وزارة الثقافة يترأسه مديرها العام فلاح حسن شاكر، للمشاركة في احتفالها السنوي بتسميتها ناحية حسب القرار رقم 71 لعام 1958، لينقلوا صورة عن بصية اليوم التي ما زالت مصدرا يغني الثقافة العراقية بتراثها وفنونها وادبها.
و"بصية"، التي تبعد 250 كم عن مركز السماوة، يمثل مدخلها مركز الشرطة، والمبهر، ان اهالي "بصية" انشأوا متحفا في احدى قاعات المركز يضم تحف تمثل تراثها، اذ تتألق الربابة على جدرانها ومختلف الاعمال اليدوية من سجادات وبسط، وخارطة جميلة كبيرة جدا لمحافظة السماوة تقسيمها يمثل الثروة الطبيعية الموجودة في السماوة من حيوانات وطيور وزواحف ومواشي التي تضمها هذه البيئة، اضافة الى جلسة عربية من بيئة المنطقة.
فما يضمه المتحف من محتويات انما يعكس الاهتمام بالجانب الفني من موروثهم الاجتماعي بكل تفاصيله، اضافة الى ثقافة المنطقة.
ويوجد في ناحية بصية الكثير من الدوائر الحكومية والخدمية، اضافة الى ما انشئ فيها بعد سنة 1958، مثل مديرية ناحية بصية ومديرية البلدية، ومجلس بلدي للناحية، ودائرة جنسية واحوال بصية، ودائرة كهرباء الناحية، ودائرة ماء بصية، وملحق متوسطة بصية، والمستوصف البيطري فيها، ومحطة تلفزيون بصية، وملعب مجلس شباب بصية، فضلا عن المركز الصحي فيها.
والجدير بالذكر فقد انشأت اول مدرسة ابتدائية في الناحية سنة 1958 سميت آنذاك بمدرسة الفراقد الابتدائية وكانت مبنية من القصب، وبواقع صف واحد و12 تلميذا، حيث يتولى تدريسهم المعلم كاظم محسن التركي، وفي العام الدراسي 1959 ـ 1960 اصبحت المدرسة تضم صفين و22 تلميذا، وفي سنة 1968 تغير اسمها لتصبح مدرسة بصية الابتدائية المختلطة وبواقع 6 صفوف. وتم فتح مدرسة متوسطة في الناحية للعام الدراسي 1980 ـ 1981 الا انها الغيت نتيجة الحرب العراقية الايرانية آنذاك بعد سنة واحدة فقط من تأسيسها. وتم اعادة فتحها سنة 2002 ـ 2003.
كما ويقدر عدد تلاميذ مدرسة بصية الابتدائية الحالية بحدود 108 تلاميذ يقوم بتدريسهم ثلاثة معلمين فقط، وفي المدرسة مختبر للعلوم وساحة رياضية وقاعة للاحتفالات والندوات ومشتمل لسكن المعلمين واكثر من 10 قاعات دراسية.
الموروث الثقافي لناحية بصية
وللناحية موروث ثقافي وحضاري عريق وهو الدبكات الفلكلورية التي اصبحت جزءا لا يتجزأ من الموروث الفلكلوري للمدينة، وقد اشتهرت به منذ القدم وبقيت محافظة عليه الى يومنا هذا، وهذا النتاج التراثي المادي وغير المادي في المدينة يتطابق ومعايير المنظمة العالمية اليونسكو، حيث يقوم البدو في ناحية بصية في وقت الاعراس والمحافل والاعياد افراحا اشتهرت عندهم بأسم "الدحة" و"السامري" و"العرضة" يقيمها الشباب وهم يصطفون صفين يتوسط احد الصفين الشاعر المسمى عندهم "الكاروكة" ويبدأ القصيد عادة الصف الذي فيه الشاعر ويردد الصف الاخر ما قاله الصف الاول وهكذا، وربما رافقت القصيد بعض الدبكات المنسقة مقرونة بضرب الدفوف والمثلاث وهذا الرقص من السامري يسمى عندهم "النكازي".
وطالما كان دور دائرة العلاقات الثقافية في وزارة الثقافة يتمثل في تقديم وتسجيل نتاج هذه البيئة وثقافتها الى المحافل الدولية من خلال موروثها الثقافي، فان الدائرة طرحت مشروع توثيق تراث وصناعات والحرف الشعبية لناحية بصية، وتأسيس مركز لتوثيق تراث البادية العراقية.
"بصية" سياحيا
تمتلك ناحية بصية كل مقومات السياحة، والتي تمثل جزءا مهما من الهضبة الغربية خاصة وانها تتمتع بمناظر خلابة في فصل الشتاء وعند هطول الامطار، وهي فرصة للبحث عن طرق واساليب بديلة في الاستثمار والاقتصاد لاسيما وان مدينة بصية فيها من العناصر والخصوصية التي هي من صلب العناصر المهمة ضمن المعايير الدولية. وبما ان هذه البادية قد حافظت على طبيعتها البيئية وكهوفها ودهاليزها واشجارها وتربتها ونوعية الاعشاب المختلفة فيها ما ادى الى حفاظها على الكثير من الحيوانات البرية الموجودة على سطحها، مثل الطيور والذئاب والثعالب والدعالج والضباع والافاعي وطيور الحباري والصقور والشواهين والقطا والحمام البري والارانب والسحالي مثل الضب والارول وغيرها .
فبادية بصية تشهد اقبالا من قبل السياح العرب وتحديدا من الجزيرة العربية والتي تلجأ الى تلك البوادي العراقية الزاخرة للتمتع بمشاهدة وتصوير الطبيعة الخلابة وممارسة الصيد والسهر الدافئ الذي طالما تغنى بوصفه الشعراء.
كما يتجول السياح في بادية بصية، وينصبون خيامهم قريبا من مركز الناحية لغرض الصيد، ويهيئون سياراتهم وصقورهم المدربة وبنادقهم لهذا الغرض ويقومون بصيد الحباري والقطا والارانب وبعض الطيور الاخرى كالبط البري والسمنان ويوثقون مشاهد الصيد عن طريق كاميراتهم المحمولة، حيث يتمتعون اشد التمتع في هذه البادية الرائعة ويمكث السياح في البادية لاكثر من شهر.
ومن خلال افواج السياح الوافدين تنشط حركة السوق في المدينة حيث ينفق السياح اموالا مقابل السلع والخدمات التي يحتاجونها، كما انهم يستعينون بخبرة اهل البادية في الدلالة وتوفير المياه والوقود لهم، كذلك تنشط اسواق الخضار والفاكهة والمياه المعدنية ومبيعات الخراف، وحتى ورش تصليح السيارات ومحال الادوات الاحتياطية تزدهر خلال هذه الفترة بما تقدمه من خدمات للمئات من سيارات السياح.
كما ويسعى اهالي الناحية الى تنشيط الحركة السياحية فيها والتي سترد ايجابيا على مجمل اقتصاد البلد من خلال تفويج السياح الى المدينة سواء الوفود الداخلية او الخارجية والتعريف بالارث الثقافي والحضاري لها والتعريف بالفلكلور الاصيل النابع من بيئتها الحقيقية والتي استطاعت الحفاظ عليه سواء الآلات التي يستخدموها في النسيج او الحصاد وحتى الرقصات الشعبية والعادات والتقاليد والاعراف العشائرية فضلا عن الصناعات الشعبية والتراثية من صناعة الحصران والربابة والتي من خلال الحركة السياحية يمكنها الحفاظ عليها وايجاد سوق لها بغية استمرار وديمومة عملها هذه من العوامل الرئيسة التي يمكن من خلالها ادخالها ضمن اللائحة العالمية.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* احمد حمدان الجشعمي: كاتب ومؤلف وشاعر، ورئيس المجلس المحلي لناحية بصية.