ادب وفن

إنتهاك الفضاء الشخصي / مقداد مسعود

يتعرض الفضاء الشخصي إلى ثلاثة مؤثرات : الضغط / الحياد / الثناء . في قصائد مريم العطار ، كانت نسبة الضغط عالية جدا ، لكن استطاعت الشاعرة أن تذيب الضغوط كلها في مختبر القصيدة، وتجعل فعل القراءة ، يقدم الثناء للشاعرة ولشعرها والضغوط ليست مقعرة في غيابة الذات، بل هي من منتجات أنظمة الوعي / الكونفورميا وبشهادة أن الفرد في مجتمعاتنا تحديدا، يكون خياره الاجتماعي الأوحد، بمشروطية منظومة التابو المتسّيدة ، ومشعلو/ مشعلات الحرائق وحدهم / وحدهن يمتلكون / يتملكن : قوة الإختراق سياسيا واجتماعيا وفكريا وثقافيا .
إذن إلى هذه الكتيبة المسلّحة بالوعي الانقلابي تنتمي قصائد مريم العطار وبشهادة مريم العطار نفسها :
"في اللحظة التي أعلّق ثيابك المتسخة َ
على حبال السطور
سأعترف أنني نسيتُ غسلها عمداً
لأجرّب أن أكتب سطراً ليس مِن مهامِك..
/ 82- أسماء مستعارة)
وبالقصيدة تهش الشاعرة على القطعان بكل أنواعها
(أنا في قعر البيت أتلوى
أكتب وأمحو
لن يصل هذا النداء إلى أحد ِ
الشعرُ مرة ً أخرى
يجري في عروق يدي
ألقيه منه ُ على السطور
أرميه بعيدا كأظافري حين أرميها في الهواء
لم يعدُ أحد ٌ هنا
كلٌ أخذ مكنسته ُ
راح َ يلملم الربيع من فوق سطوح البيوت / 70 – أحلم بغجر الحي)
(*)
تستوقفني قصيدة (ثمن الأنوثة) ومن خلال تكرار قراءتي لها ، اعتبرت ُ القصيدة كلها مقدمة شعرية للسطرين الأخيرين
(ما أبهظ ثمن الأنوثة
في بيوت الفناء)
تعلن الأنوثة أفعالها : ( أعرف ُ / أخشى / أعشقُ / أقرأ / أبحث ُ /أسترد) ثم تنقل القصيدة بثها إلى جهة ثانية (يستيقظ جارنا فجراً يفكك أفخاذ زوجاته العاطلات) بعدها نستقر في نبض القصيدة ، أعني السطرين الأخيرين
(*)
القصيدة لدى الشاعرة مريم العطار، ترفض تنميط اتصالية الدال / المدلول وتسلك نيسما جبلياً إلى عيون الرهبان : (الطفولة أن أكون صغيرتك وأنا في سن اليأس / 96) (الرذيلة مستلقية ٌ تقذف أعقاب سجائرها على أنف الشهداء /96)(الأسماك التي تركتها تحت جلدي مصابة ٌ بداور ٍ تبحث عن أصابعك َ أصابعك مفاتيح لن تصدأ تحت المياه الباردة / 52) ..(نحن أموات ٌ..ارتدينا ملابس مدنية واختلطنا في الزحام /92) في القول الشعري نسبة عالية من المرارة الضاحكة (أهل القبور أولى بالتدخين / 98) (رماد الجثث يكحّل عيوننا / 99) (الغرق ُ يختصر ألف عام ٍ من انتظارك على اليابسة ../106) ..والخيانة تومئ إلى بياض ناصع ،فالأب في قصيدة (وراء القفص الصدري) يحمل / يتحمل العبء كله وحده وتلك هي خيانته الكبرى ..(أبي ..حين يقضم الفجيعة في الخفاء ..إنه يخوننا جميعاً يحملها على أكتافه ليأكلها وحده ُ../88) وهو أب العائلة كما هو أب التاريخ (إنني مرمية ٌ على قمصان أبي أبكى عبء التاريخ ../ 89- قصيدة – ثمن الدواء) والأب شاخص كالعلامة (لم أتعلّم الدرس َ كنت ُ أحصي ديون َ أبي / 109).. والقمصان صالحة للسكن (عشتُ شهورا بقمصان أخي ../ 86- قمصان أخي) والتضحيات تتوالى فالذات تحتطب ، والذوات صالحة للأستعمال الغرائبي (مثلي يحترق ليدفئ الغرباء) (وأجدادي كانوا أسيادا يرفعهم الوطن ُ ويضرب ُ بهم في الزنزانات ../87) وتواصل الذات الأنثوية احتراقاتها (أحرق ُ أعواد الكبريت تحت جلدي أريد لهذا الليل أن يضاء / 96) وثمة اتصالية شعرية بين الواحدة والكثرة في قصيدة (سيرة ذاتية):
(أنا أبنة ُ تلك الجمجمة
التي عثروا عليها على الحدود
وأم لطفلة ٍ يجعلونها تبيع جسدها
في مخيمات اللاجئين
أنا ليل شجي في عزاء بيت جنوبي
أنا دمعة ُ متسول ٍ..
أنا ملاذ للحزن القديم
أنا صدى سعال ِ امرأة ٍ مرمية ٍ في الردهات
أنا خلل ٌ يربك رتابة هذا البيت
أنا طائرٌ مصاب ٌ بروماتيزم ../ 8)
إلتقطت ُمن هذه القصيدة ،الأسطر الخاصة بالإحالة التكرارية إلى ضمير المتكلم المنفصل التي ربما منها وحدها تتشكل (صداقة العناصر) حسب وفاء العمراني. كما أن قصائد مريم العطار تعلن : لا تصالح بين الثقافة والمجتمع ، ولا عودة إلى اللغة العاقلة الرصينة، بل على اللغة الشعرية أن تنتج تضاداتها التي تتوازى مع تفريغ حياتها من كافة مقوماتها الطبيعية هنا يكون الوضوح الشعري : انفصاما لغويا أو خيانة لمكابداتنا ، وتشحن المفردات بتضاداتها السالبة لتنزاح شعريا وتفارق الأصل المعجمي ..فالقصيدة لها وظيفة مثنوية ، فهي قصيدة وصورة تذكارية أيضا، فمن الكلمات تنبجس الوجوه من الذاكرة التذكارية للنصين المتماهيين : صورة / قصيدة ،كما هو الحال في قصيدة (آخر صورةٍ)
(انظر إلى قصيدتي الأخيرة
علِقها على جدار بيتك َ
هذه آخر صورة ٍ تجمعنا / 116)
(يكفيني من العمرِ النومُ ليستر عورة الواقع ../ 46- سوء الحظ) ..هل نجد جواباً على هذه الكفاية في قصيدة (رسالة إلى صديقي) هل في قولها (لا يوم يكفينا) هو أن زمننا العراقي يمشي إلى الخلف ولكن ليس بحركة المشط الرجالي ..بل لأننا من سكنة الماضي المدّمى :
(عنقي يؤلمني لكثرة الالتفات للماضي
الماضي أعني صباح َ عاشوراء َ
أعني الأربعاء الدامي
أعني الجمعة السوداء
نحن استخدمنا أيام الأسبوع بقدر مصائبنا
لايوم يكفينا ../25) ولا تتوقف الشاعرة عن مكيجة اللحظة العراقية المفخخة وسخرية الكفاف (يكفيني مِن العالم الخارجي ّ أصوات الباعة ِ لأعي أنني على قيد ِ الفناء)..(أزيّن مرارة الواقع بحبّات الشوكولا ../44) والحياة بطبعتها الرديئة تعني أن (الحرية جثة ٌ نمضغها منذ قرون ../ 33- مشاة مجانين) ومهمة الشاعرة هي أن (تخرج الأشواك مِن أجساد الورد ../36- طبول الحرب)..
(*)
قصيدة (أسماء مستعارة) محاولة في أنسنة الاشياء تسموياً وفي هذه التسموية ينهض الانفصام بين الدال والمدلول. فالتسمية هنا إسباغ شيئية على الإنسان وتجريده من نوعه الإنساني
(أخترع أسماء للأشياء
إبريق الشاي الذي يُدعي الرجولة
أمامي
سأسميه : (كريم) ، إنّه رجلٌ سمين ٌ
وقصير عاكسني في المراهقة
ثم قضم وجنتي بقبلة ٍ ممتلئة ٍ
بالبصاق ..
سأسمي هذه البلّورة الفارغة
(سلمى)
إنها رشيقة ٌ تشبه صديقتي الباردة
أختي – أيضا – إنها (زجاجة عطرٍ)
تغطّي رائحة أعمالنا
تجمّل القبح ، تجعلنا نسترخي لبضع ِ دقائق
الساعة ُ هذه المدورة ُ اللعينة ُ
سأندهها : بـ(أمي)
أمّا أبي..
ماذا أسمي هذا الكائن
هل هو قفل ؟
سكين ٌ؟
مطرقة ٌ؟.../ 84)
(*)
للبيت مؤثراته الشعرية : (وأنني أجيد إعادة َ بناء القلب والبيت في كل مرة ٍ/ 46)
(لي الحق أن أكون شريرة ً
لأن أفراد عائلتي أخيار
لا يملكون بيتاً
سوى ذباب ٍ يصفّق فوق
العدم ..)
وهذا المؤثرية لا يقتصر على قصيدة (سوء الحظ) بل نلمسه أيضا في القصائد التالية (دمية لطيش القدر) (أحلام قيد السرير) (شتائم مجانية) (أسماءٌ مستعارة) (برّاد بيتنا صبور)..(أقص أجنحتي).. حين نتحدث عن المؤثرية البيتية فنحن نعي أن البيت والمدرسة والعائلة والدولة والرياضة والأعلام ..وإذا تكلمنا مثل بيار بورديو فهي (تسميات اختزالية لآليات معقدة هي التي يجب أن تحلل في كل في خصوصياتها التاريخية .. من هنا يرى بورديو أن التذكير ليس أبديا في التاريخ بل هو من نتاج تأبيد المؤسسات الآنفة الذكر من هذه المؤسسات تم تصنيع المرأة المدجّنة ، بالقصيدة تحاول الشاعرة مريم العطار ان تعطل التدجين نلتقط ما نحتاجه من قصيدة (أقص أجنحتي /41)
(أما أنت يا أبي
حاول أن تفتح كوةً لهذا الجحيم)
(أرتدي درعاً رصينا ً
أخرج الى الشارع
أقاوم أعداء وهميين
أمام المرآة في خصلات شعري
يتساقط قمل تحرش الرجال)
(وأخي..
يصفق الأبواب
جسدي وراءَ الأبواب ينحف)
(الأمراض تنتشر في شارعنا
في الظهيرة
وراء المكتبة
أقص أجنحتي
أبكي بحرقة ٍ جوع َ العناكب ِ
ما مِن فراشة ٍ تأقلمت للعيش في
المجاري..)
في قصيدة (فيلم ٌ قصير ٌ) تتناول الشاعرة مشهدا من بطش الرجولة
(يد القدر الفولاذيّة بدأت بقطع ِ أمعائي
بدأت بالضرب على أعناق معتقداتي
صوت الضربات أشبه بحزام أبي)
(لم تكن الحياة سعيدة ً معك
فوق السرير كنتُ أزيّن مرارة َ الواقع
بحبات الشوكولا
أسرق سعادات من حولي
أصطنع الضحك َ كإبتسامة مهر ّج
عجوزٍ
وأركض ُ بمكاني)
(لم تكن الحياة لطيفة معي
كل ليلة ٍ أنام ثملة َ أوجاعي
أحلم أنني أموت قرب النهر
لتزفني يداه الرحيمتان إلى البحر /45)
في قصيدة (سوء الحظ) يستوقفني السطر الواخز (لسوء الحظ أن العمر معلق ٌ بمخالب الذكور /47)..في قصيدة (كل شيء عدم) وحين تأرجت شائعة حول إلقاء القبض على الحب !! (أنهم كبّلوا يديه وحبسوه في قفص خشبي ٍ سيأتون ويدورون به في أزقة قريتنا)
ولم يكتف الذكور بذلك بل أعلنوا( سيحفرون له خندقا ../75) تتجاور هذه القصيدة مع غرائبيات قصص القاص الشامخ زكريا تامر ، ونسيج القصيدة مغزول على نول الحكي الماتع .في قصيدة (دمية لطيش القدر) السطر الأول محض جملة توصيل (أنا أتعس كائن في البيت) وكذلك السطر الثاني (هناك أشخاص يحاولون إلغائي).. كقارئ مريض بالترشيق أرى القصيدة تبدأ من السطر الثالث، كما علمتنا قصائد المعلم الأمهر الشاعر صلاح فائق..
(الجنود في لعبة شطرنج أبي
دائما يسعون لقتلي
وأبي كالملك الواقف .. يشاهد كل ّ شيء)
ثم تحدث نقلة خارج البيت نحو بنات الجيران، هي نفس النقلة في (ثمن الأنوثة)
بعدها تعود القصيدة إلى فضاء العائلة:
(أخي يوهمني في اللعب
يغرس في ظهري أجنحة ً بلاستيكية
أحيانا وفي المزح
يشعل أعواد الكبريت في شعري)
وللأم حصتها في ابنتها
(في الأمس أمي خلعت يدي من مكانها
فقأت عيني اليُسرى
تحاول خنقي..)
من خلال مؤثريتهم السالبة : الأب / الأخ / الأم : مسخت البنت : ممثلة للضحك والبكاء ، كومة حطام ، دمية مرمية ، وهي تصلح بأن تكون (أبنة ً لأية عائلة ٍ) فقد جردوها من سماتها الخاصة ومن فضائها الشخصي ، فانتقلت البنت من المعايشة الى مسرحة حياتها الشخصية (أنا ممثلة جيدة ، يمكنني الضحك والبكاء في آنٍ..) ..والانتهاك لا يشمل الفضاء العائلي ، بل كافة فضاءات الأنثى ، يتجسد ذلك في هذه القصيدة القصيرة (فرص عمل)..في قصيدة (برّاد بيتنا صبورٌ) تتساءل القصيدة :
(ما ينقص ُ البيت ؟) ثم تستدرجنا إلى المطبخ فينكشف لنا مرض البيت
(وأنا كلُ ما أريدُ الطبخ َ
أسمع ُ مِن قعر الأواني صوت َ بكاءٍ
أحلامنا بحاجة ٍ إلى مفردة ٍ بحرفين
أما بيتُنا..
يجب ُ أن يُسعف َ إلى المشفى ./ 54)
والبيت دائما ينير القصيدة نكاية بالظلام الحكومي
(ليس مِن السهل أن أجاري بيتي
المظلم َ
وأكتبُ عن الضوء الذي يشق ُ
بشرتي ../ 59- طفلة طائفية)..
لا يتموضع الاسم المناسب في المكان المناسب في قصيدة
(فرصة عمل /111)
(أبحث عن فرصة للعمل في جريدة
أعثر على أسمي
في قائمة الوفيّات) ..
(*)
من هذه الخرزات : البيت / الأب / الأخ / الأم / الشارع / الوضع السياسي / تزييف الوعي الديني / تعنيف المرأة / التحصن بالقصيدة...الخ من هذه الخرزات تتكون قلادة
المجموعة الشعرية ( شتائم مجانية) للشاعرة مريم العطار..
ـــــــــــــــــــــ
*مريم العطار / شتائم مجانية / دار الفراشة للنشر والتوزيع / الكويت / ط1/ 2015