ادب وفن

حكاية سعدان وشجرة الكستناء / سعيد غازي الاميري

سعدان وزوجته سمرقند؛ في حديقة واسعة ممتدة لمتنزه مفتوح؛ النسيم ناعمٌ ليّنُ الهبوبِ؛ زقزقة العصافير تنعش المسامع...
شذى الزهور المنثور بنسق أو دونه يملأ الفضاء، جوقةٌ من الديكة المليئة بالفحولة تتبارى بمقربة من فصيل منوع من الدجاج الزاهي الألوان، أسراب البط الداجن تتبختر بدلع كما غرام الصبايا ...
حمام الوَرَشان" الطبان " يتبختر هو الآخر مقلبا رأسه الممشوق خازّ النظرات صوب أنثاه...
الناس سعداء كلٌّ على هواه ...
طور ممتع من المرحِ والمزاحِ وشيء منعش مضاف لسعدان بعد أن عبَّأ علبتين من الجعة السويدية وهو منغمس يشوي وجبة الأكل المحببة لكليهما من شرائح سمك السيل البحري المملح مع حبات من الفلفل الأسود الخشنة السَحن على فحم بمشواة صغيرة جَلباها معهما...
اتكأ سعدان باسترخاء وسعادة لذيذتين حدَّ النشوة بعدَ أنْ ملأ جوفه بالتمام والكمال؛ خدر لذيذ آخر أحسَّ به حين شاركته فاتنته المجاورة على جذع شجرة الكستناء والتي يكتظ بها المنتزه والمليئة بالآلاف من الزهر الأبيض الربيعي الصاعد إلى الأعلى؛ آلاف من الكؤوس المقلوبة بانتظام والمنضبطة بصرامة لأوامر الطبيعة.
وهما يلهوان بجهاز ال "أي فون" لسمرقند تلقوا اتصالاً لامعاً عارضاً بإلحاح كي يتابعا معه ...
إعلان مُغرٍ مصحوب بموسيقا تسلبُ لبَّ العقل لعالم جديد فيه لقطات لصحاري ملونة الرمال، جبال جبارة الصخور، بحار ساكنة شفافة تتيح للناظر مشاهدة جمال حياة الأعماق، أشجار ليست كما أشجارنا؛ ذات ضياءِ مثير يشتد عند تفرع الأغصان فيضفي على الأوراق ظلالا لمجسمات هندسية بديعة...
خطفت أبصارنا ألوان أطياف الشموس، هول جمال جاذبيتها وانتظام دفقها نحونا تكاد تخرج من حدود الشاشة لتلامسنا!
اِنتَظمَ المشهد أكثر بعد أن احتَلت الشاشة شابة جميلة تلهو مع ذويها؛ ازدادت حركات الشابة المثيرة للبهجة، كنا نشعر بانها تَعنينا بحركاتها وأن أهلها لا يمانعون بالتواصل معنا؛ رحبوا بنا بحرارة أشرنا لهم بالتحية ضحكنا سوية بغبطة ومرح، أومأت لنا ثانيَةً بادلناها الترحاب جاملتنا بغمزة عين متقنة هَزّت قلب سعدان ..
دعتنا لقبول صداقتها؛ وافقنا على الفور؛ أومأت لنا بالضغط على زرٍ بأعلى يمين الشاشة، ضغطنا بدون تردد؛ وإذا بها كما الشهب قد حلت بينَنا..
أرتعبنا بالوهلة الأولى؛ فتاة فرط جمالها "يَفَكُّ وثاقَ المحكوم بالصَلبْ "
كأنها بين أهلها وذويها وبلحظة سعادة غامرة عانقتنا بحرارة غير أن سعدان أطال العناق قليلاً..
أعدنا توازننا وحسمنا الأمر بحوار سريع برضا وقناعة مفرطة بأن التطور العلمي قد اختزل بالملموس البعدين الزماني والمكاني وربما سنرى العالم مجسماً أكثر وسنراه أقرب من زوايا مختلفة وبِتّنا مُعتَرفيّن بأن التطور العلمي قد اضحى واقعاً علينا التعايش معه!
أي سعدٍ نالنا اليوم يا إلهي "تمتم سعدان في سره" وهو يتبحَّر خصوبة أنوثتها
أنثى مكتملة النصاب!
هيفاء قوامها، شعرها فاحمُ السواد منسدل بدلال ناثراً خصالهُ على قفاها وصدرها الناهض مسلِّماَ لخصر نحيل مهضوم الحشا!
برونزية البشرة ولا أدرى عند أي من الشموس تَشَمّست!
عيونها لوزية الشطر خضراء كبرعم دافق للتو..
غصن من الآس المُزِهر ظفر بعناية؛ إذ شُرِح الغصن لنصفين ولفَّ بالتناوب على ضفيرة من الفضة انتظمت فيها زهرات الآس شاخصة إلى الأعلى ملامسة جيدها المصقول كما البلور..
فستانها ناعم بسيط جميل بدون حمالات فضفاض من حَدِّ وركها المنحوت؛ زاهي الحمرة "مكرمش" مثل زهر الرمان...
سألتها
ــ ما اسمك يا مليحة؟
ــ نبع الزمان
ــ والله لأنكِ نبع الزمان وحاضرة المكان!
وإذا بحركة مفاجئة مُتقنة، دفعتني سمرقند بعكسها الأيمن في خاصرتي اليسرى سائِلةً ايَّاها وبابتسامة طاغية...
ــ هل أنت جائعة؟
ــ كلا شكراً
ــ عطشانة؟
ــ قليلاً
ناولتها سمرقند قنينة ماء محكمة السد اشتريناها من السوق ...
فتحت العلبة، شَمّتْ الماء رفضته بلطف ... أبدلنا القنينة بأخرى جلبناه معنا من حنفية الدار رفضت بلطف أيضا!
حاولت أن أعبث بالهاتف تبديداً للإرباك...
خاطبتنا بوضوح:
أراكما منفعلين قليلاً تعالا نتجاذب أطراف الحديث فالحياة مليئة بالمشتركات
وهل تظنين ذلك؟!
ــ أجل
كيف؟
ــ موسيقاكم رائعة وهي التي جذبتني
عن أي موسيقى تتحدثين؟
ــ موسيقى مسرحكم العملاق
أي مسرح يا ضيفتنا العزيزة!
اندهشت من تكرارنا السؤال سويةً ... سَكَتَتْ لحظة مع نفس عميق سمعنا زفيره وبابتسامة شفيفة عذبة أشعرتنا بما لا لبسَ فيه بانها تعرفُ وتَحسُّ وتَسمع أكثر مما نحسُّهُ ونسمعهُ نحن
قالت:
شجرة الكستناء هذه بزهرها المنضَّد بعدة آلاف منسقة كما الأجراس جميع هذه الكؤوس ومع كلِ هزة ريح تصدر أصواتاً موسيقية عذبة متناغمة بشكل فريد...
هذه الموسيقى تبدأ خفيفة جداً كهمس العشاق بنظراتهم الأولى في أرضكم وثم تبدأ بتناغم تكبر وتصدح كلما كبرت نواة ثمرة الكستناء في موضعها، تصل الذروة كما هي الآن ومن ثم تبدأ بطور جديد " طور نضج الثمر"، الموسيقا إحدى نعمكم الخلابة والوفيرة.
فعلاً أشاطركِ الرأي قالت سمرقند فآلات الموسيقا جميلة وقد صنعها الإنسان بالتتابع مع كَبُرِ محسوساته لما حوله
ردت:
المحسوسات جميلة هذه العبارة...
يا صديقتي الرقيقة كل آلاتكم الموسيقية مستوحاة أو يوجد نصها في طبيعتكم الساحرة
خرير الماء موسيقا!
أطراف الأفانين عند اهتزازها مع كل هبة ريح تطلق موسيقا
صوت احتراق الخشب بالمواقد موسيقا...
عَقّبَ سعدان
ــ ربما نحس بما تقولين ولكن ليس بهذا الوضوح الذي تمتلكين
نورينا بخبرتك أيتها العذبة...
خبرتي أوجزها لكم بنصيحة نعيش تفاصيلها بنهج ثابت...
كلما صادقتم الطبيعة ستكتشفون آلات أجمل وأعذب وستزداد رهافة مسامعكم وستهنؤون أكثر وأكثر
صداقة الطبيعة!
ــ نعم
كيف؟
ــ ببساطة شديدة أوقفوا العبث بها؛ كلما تعكروا صفوها يحلُّ عليكم كدر أكثر
التلوث بكل أنواعه وصنوفه كدر يغيظها...
بعد بُرهة صمت.. سألتها سمرقند:
أين الخلود؟
ــ في الضمير
ــ الضمير!!
ــ نعم الضمير وبه الطمأنينة
ــ أوضحي لنا أكثر!
ــ كلما كان المرء قريبا من صوت الطبيعة فاز بخلودٍ ألذُّ طعماً
تَبَسَمتْ قليلاً وأردفت القول:
ليس بالضرورة الخلود أن تعيش مدى الدهر؛ تبادل الأدوار موجود عبر الحقب والأزمان
البعد والزمن والحجم في عالم الأكوان في تداخل مستمر بنسق منتظم وبه اختزال كثير لمفاهيم ظلت سائدة ليس عندكم فحسب.... الدور لكم وعليكم اللحاق بنا..
سألناها:
هل ترغبين بالبقاء معنا؟
ــ شكراً فنحن ندور كما الدنيا
سألتها:
كل الصبايا هناك مثل بهاء جمالك؟
بابتسامةً عريضة أجابت
ــ نحن نحسُّ الجمال بالإيثار وبإشاعة الفرح أينما نحلُّ
ــ ما أروع روحكِ ايتها الغضة قُلتَها بصدق وهممت أنْ أعانقها بحرارة كما يفعل السويديون هنا!!
قرَصتّني سمرقند بقوة عند أسفل الإبط الأيسر...
صَرَختُ بشدة فأفقت...
سمرقند كانت تلملم حاجيات سفرتنا للمتنزه القريب من بيتنا.
كريستيان ستاد/ السويد
30/4/2016