ادب وفن

وصايا علي فرحان في «ليل سمين» / قراءة : داود سلمان الشويلي

القصيدة : وصايا
1 - ايَّاكِ أن تنحني لقلبي مثل انحنائي لقلبكِ
لأنَّ نولَ الحبّ سيلفُّ قصائدَكِ الفارعةَ،
ويُتلفُ أصابعَكِ بحبر لا يُمحى /
حبرٌ يتكلمُ
ويصرخُ بألم مشروخٍ
أحبُّك .
2 - لا تتلفظي
أسمي أمامَ العصافيرِ
لأنَّها ستتخذُ فمَكِ عشّاً .
3 - أيّاكِ أن تحبيني مثل حبي لكِ
لأنَّ كرياتِ دمِكِ ستغدو دوائرَ نارٍ
وأصابعَكِ فراشاتٍ لا تنفكُّ تغزلُ
جسدَكِ قصائداً
وأوجاعاً غامضةً.
4- لا تغسلي قدميكِ بماءِ الفراتِ
لأنَّهُ سيغيرُ مجراه نحوَ منزلِكِ .
5- احترسي من الألوانِ والأشجارِ والطيورِ
والبلدانِ والبحارِ والكواكبِ --------الخ
لأنَّها أذا رأتْكِ
فسوفَ يعذبُكِ حبُّها لكِ
***
في المجموعة الشعرية "ليل سمين" لعلي فرحان ، سنتفحص امرين في هذه المجموعة الشعرية وهما اللغة وخصوصياتها التركيبية الشعرية ، ووصايا الشاعر التي حرص ان تكون في خاتمة للمجموعة .
اول ما يصدمنا عنوان المجموعة الشعرية الذي يربط لفظتين احدهما اسم لظاهرة طبيعية وهي " ليل " غير معرفة بـ "ال" التعريف ، لمعرفته وشيوعه ، والاخرى صفة "سمين ".
إذ " ليل " لا يمكن ان نصفه بالسمين ، أو الضعيف ، وانما يوصف بالظلام ، وبالطول والقصر ، الا ان الشاعر في احدى قصائد المجموعة وصفه بانه سمين ، ويعني ممتلئ وليس دهيناً، وهذا العنوان مأخوذ من اول بيت في قصيدته الاولى " نجوم نحيلة " :
•" نجوم نحيلة
ليلٌ سمينٌ
يَزْدردُ النساءَ في الشرفات
ويُتْلفُ الصِبْيَةَ بكوابيسٍ تحت الشمس
أُحَدّقُ في نجومِهِ النحيلة واحفنُ حنطةَ الفراغ
مكوِّماً ارغفة الغد تحت ارجل البورصة".
و " نجوم نحيلة " هو عنوان ايضا ، مركب من لفظتين ، احدهما اسم لشيء مادي ، غير معرف لشيوع معرفته ، والآخر صفة لا توصف بها النجوم .
نجد الشاعر قد اختار لعنوان المجموعة ، وعنوان القصيدة التي تتضمن عنوان المجموعة ، صفتين متناقضتين ، هما " سمين " و " نحيل " ، وذلك لان الليل يضم النجوم وكل الاشياء ، فهو سمين " ممتلئ " بها ، اما نحول النجوم فقد أتى من المقارنة بين الليل المتضمن للنجوم ، ، ومن هنا تأتي شعرية التركيب بين الالفاظ ، إذ ترتبط الالفاظ بلا قانون ، او قاعدة نحوية ، وانما يحدوها قول الشعر.
ان الشاعر وهو يختار هذه الالفاظ المختلفة ، فهو يعي جيدا ان ما يكتبه يجب ان يكون مغايرا لما هو مألوف من القول ، وهذا القول المغاير لما هو مألوف من قول هو ما يطلق عليه اسم " شعر" .
الشعر عصي عن كل تعريف ، فليكن مغايرا لكل قول ، وهذا ما درج عليه الشعراء الكبار منذ الجاهليين الى يومنا هذا .
قيل سابقاً ان الشعر هو " كلام موزون مقفىّ ، دالٌ على معنى، ويكون أكثر من بيت ". وقال بعضهم: هو "الكلام الذي قصد إلى وزنه وتقفيته قصداً أولياً"، وقيل انه نفثات من الشعور ، او الاحساس ، وقيل انه ... الخ ، فليكن تعريفنا بانه هو " قول مغاير لكل قول ، ينبعث من الشعور والاحساس".
لهذا نرى اللغة في " ليل سمين "تبحث عن تراكيب جديدة ، وطازجة ، بعيدة عما هو قاموسي من معنى ، إذ الدال والمدلول يتحركان سوية نحو عالم جديد من الرؤى والافكار والصور ، انها – أي اللغة – كائن حي يتشكل في قصيدة علي فرحان بجدة الصياغة التي يصل اليها .
وهذا ما نجده في اغلب قصائد المجموعة ، مثل : ألمَنا الابيضَ ، و خجلَ الدمعةِ، و مهبِّ المأساة ،عارياً وطأ الغمام ،تلحسُ المدينةُ أسْمنتَه ... الخ من التراكيب اللغوية التي تجعل اللغة مادة طيعة بيد القصيدة .
وكذلك في عناوين قصائد هذه المجموعة ، من مثل: حزن وحساء ، رغيف البازلت، صباح خاكي ، شاعرٌ في علاكة، أرملةٌ في أعالي الكلام ، فكل لفظة من الفاظ هذه التراكيب هو عائد الى مجموعة من الفاظ مادية مع الفاظ معنوية ، او مادية مع مادية ، او معنوية مع معنوية ، الا انها من مجاميع او عوائل مختلفة ، وكذلك ما يأتي من قول في متن القصائد .
• " فكوني
طعمَ الروحِ حينَ أضمَّكِ
يا براءَةَ الشجرةِ
لم يعدْ يلزمُني العالمَ
بكِ أتذوَّقُ لهبَ اللا مرئيّ"."من قصيدة : ليسَ لكِ نبعٌ" فلا يوجد براءة للشجر.
أو قوله في قصيدة " أرملةٌ في أعالي الكلام":
* "أستمرئُ طعمَ الغيابِ حين أراكَ تنزلُ عن ظهرِ الحصانِ
وتلتقطُ جَرِيدَ النخلِ .
مربكٌ بأطواركَ الرثَّةِ ،
في ظلالِ القبورِ تغزلُ وقاحاتِ العبقريةِ
في الأمسياتِ القاتمةِ تقايضُ زبيبَ القتلى بالعَرقِ".
فالاطوار لا توصف بالرثة ، وليس هناك وقاحات للعبقرية ، ولا يوجد زبيب للقتلى .
وغير ذلك من القول الشعري الذي تصاغ منه قصائد المجموعة التي رصدت الحياة التي نعيشها بكل مآسيها واهوالها ، احزانها وافراحها ، ضحكها وبكائها ، بياضها وسوادها .
ولأغناء نصه الشعري راح الشاعر يبحث عن لغة شعرية في الحكايات والاساطير كما في قصيدته " رغيف البازلت" إذ وجده في قصة الاسراء والمعراج وفي حكاية " بلوقيا " ما يتناص معه ، وهو اثراء للغة القصيدة ، وفي صورها العديدة . إذ جاء في حكاية " بلوقيا" :
" فيها الف جبل من نار وفي كل جبل سبعون الف واد من نار وفي كل وادي سبعون الف مدينة من نار وفي كل مدينة سبعون الف قلعة من النار وفي كل قلعة سبعون الف بيت من النار وفي كل بيت سبعون الف تخت من النار وفي كل تخت سبعون الف نوع من العذاب". وكذلك في قصة الاسراء والمعراج .
وقد قال الشاعر :
•"وعند المنعطفِ ولّى نادباً يسْحلُ خلفَه حبلَ الألمِ
بألف عقدةٍ من البكاءِ
في كلّ عقدةٍ ألف عينٍ ، في كلّ عينٍ ألف ينبوعٍ
في كلّ ينبوعٍ ألف جرةٍ ، في كلّ جرةٍ ألف كأسٍ
في كلّ كأسٍ ألف بحرٍ ، في كلّ بحرٍ ألف قتيلٍ
في كلّ قتيلٍ ألف رصاصةٍ ، في كلّ رصاصةٍ ألف موتٍ
في كلّ موتٍ ألف بلدٍ ، في كلّ بلدٍ ألف حبلٍ
في كلّ حبلٍ ألف عقدةٍ ".
ان تنوع مصادر القاموس اللغوي / الشعري للشاعر منحه حرية في اختيار تراكيب مفرداته اللغوية ، ان كان ذلك من القاموس ، او من الحكاية الشعبية ، او النص الديني ، إذ عنده اللغة تركب "براقَ الغضبِ وتعرجُ بالقتلى" كما قال في قصيدته " رغيف البازلت".
***
قدم الشعر العربي ، وكذلك العالمي ، قصائد تضمنت مجموعة من الوصايا الى الشعراء الاخرين ، او الابناء ، او الزوجات ، او الحبيبات ... الخ ، ومن ذلك على سبيل المثال قصيدة " قيثارة الحب " ذات الملامح الايروسية ، والاحتفاء بالجمال الجسدي للانثى ،كتبها الشاعر الروماني اوفيد ، وكذلك الشاعر العربي نزار قباني في قصيدته " وصايا إلى امرأة عاقلة" التي يوصيها ان تحافظ على جنونه ، لان هذا الجنون هو الذي يمنحها وجودها بما يفعل.
في قصيدة " وصايا " التي افتتحنا بها هذه الدراسة ، قدم الشاعر مجموعة من الوصايا لحبيبته ، إذ تتكون من خمسة مقاطع شعرية غير متساوية في عدد الابيات ، الا انها تصب في مجرى واحد هو تقديم الوصايا للحبيبة كي لا تقع في المحذور .
•اول وصية هي / مطالبتها بعدم الانحاء لقلب الشاعر كما يفعل الشاعر ، لان ذلك سيفقدها ضفائرها ، و ضفائرها هذه هي قصائد كتبتها بحبر لا يمحى ، الا انه يصرخ " احبك " .
•الوصية الثانية /هي ان لاتتلفظ باسم الشاعر امام العصافير ، لانها ستعشش هذه العصافير في فمها.
• الوصية الثالثة / يطلب منها ان لا تحبه كما يحبها هو ، لان الحب هذا سيغير كريات دمها ، ويبدل اصابعها الى فراشات ، و يغزل لجسدها اوجاعا غامضة .
•الوصية الرابعة / يطلب منها ان لاتغسل قدميها بماء الفرات ، لانه سيغير مجراه نحو بيتها .
•الوصية الخامسة / يطلب منها ان تحترس من الالوان والاشجار والطيور والبلدان والبحار والكواكب ... الخ ،لانها اذا رأتها سيعذبها حب هذه الاشياء لها .
ان كتابة قصيدة على شكل وصايا تؤشر هيمنة اللحظة الشعرية التي تقف بين الشاعر وحبيبته ، هذ اللحظة التي تجعل المعنى يحمل دلالة الاكتناز الانساني للحبيبة المكتوب لها القصيدة / الوصايا .
ان كل فعل تقوم به " المرأة / الحبيبة " نحو الاشياء يدفع بتلك الاشياء الى ان تتحد بها ، او بما تملك ، او تسير نحوها ، لان الاشياء تلك لا تنفك عن الارتباط بها ، فهي المهيمنة عليها فتسحبها من خلال حبها اليها .
ان ما نلمسه في هذه الوصايا هو ايثار حب المرأة على حب الرجل والاشياء الاخرى ، وهذا ما يمنح العلاقة التي تربط الرجل بفتاته قوة ومتانة ،تدفع الرجل / الشاعر ان يكون حريصا عليها.
فليس هناك " نول للحب " و لا " قصائد فارعة " و لا " حبر يتكلم " ولا " الاصابع تصبح فراشات " ولا " تغزل الجسد " ولا " اوجاع غامضة " الا ان الصنعة الشعرية " والشعر صناعة كما يقول الجاحظ" دفعته إلى صياغة هذه المعاني بهذه العبارات المترابطة .
ان علي فرحان في مجموعته الشعرية " ليل سمين " كان حريصا على انتقاء لغته بتركيبات جديدة بعيدة عن عالم القاموس، وفي الوقت نفسه كان حريصا على تقديم الوصايا الخمسة الى حبيبته في نهاية المجموعة بهذه الترابطات بين الالفاظ.