ادب وفن

"عشبة الملائكة".. هموم وأفكار ومواقف / رحمن خضير عباس

في روايته "عشبة الملائكة"، يكثف الأديب حسن الفرطوسي نصه الروائي ويجعله فضاءً فسيحا للمفاهيم والنظريات والقواعد والمعتقدات. تلك التي تشتبك في ثنايا النص، من خلال هذا الفيض من الأفكار والأماكن والشخصيات. وهي شخصيات اختارها الكاتب بعناية، لتعبر عن مراحل وأفكار ونظريات وأساليب ومفاهيم، شكلت في وقتها منعطفات في المسيرة البشرية، واستطاع أنْ يستحضرها في حانته.
وبغض النظر عن الزمان والمكان فقد جعل من رموزها وروادها وزعمائها مجرد أصنام وتماثيل تحتل واجهة الحانة. لا تختلف عن الزبائن العاديين الذين يؤمّونها لتزجية الوقت.
ومنذ الصفحات الأولى وأنت تقرأ الرواية، يقذفك الكاتب في معترك النص الحافل بالإثارة والغرائبية ما بين الحركة والذهول والدهشة لجموع من الناس هاربة من أقدارها ومن أساطير من صنعها. هؤلاء الهاربون من نبوءة انتهاء العالم، والذين حاولوا أن يجعلوا من الحانة علة هذا الانهيار، فحاولوا تدميرها، لكنها – أي الحانة - تدافع عن كيانها بواسطة مخلوقات غريبة، عناكب وحيوانات خرافية تطاردهم في محاولة لتدميرهم انتقاما، وإثارة الرعب فيهم.
وبعد هذه المقدمة التي بدأ بها النص يتحول الى الفصل الأول مقتبسا أسطورة برازيلية عن الدولفين الذي يدعى بوتو والذي يخرج في أحد المهرجانات البرازيلية، على هيئة شاب وسيم يرتدي قبعة ويختار فتاة جميلة ليراقصها ويضع فيها جذوته السحرية ثم يسحبها معه الى قاع النهر. هذه الأسطورة قفزت الى ذهن الفتاة البرازيلية مشليني والتي فوجئت بهذا البحار ابراهيم، الذي هرب من سفينته، واتخذ من أدغال وشواطئ الأمازون طريقا له، وحينما تكتشف بعد ليلة مشبعة باللذة أنه آدمي وليس بوتو الأسطورة، تتعلق به وتصطحبه معها الى حي الفخارين حيث تعمل وتعيش.
لكن إبراهيم الذي كان في بؤرة الفعل السردي، والذي اعتقدنا أنه سيكون محورا للرواية، يتلاشى من دفة السرد ويختفي، وتصبح شخصيته هامشية، عدا أنه مجرد مدمن على الخمرة، لا يعيش بدونها متسكع في أزقة حي الفخارين. لقد ذاب في المد الروائي وفي زحام الشخوص الذين حفل بهم المتن السردي، فقد تجاوزته الأحداث، دون أن يساهم في صنعها ، اللهم الا عودته الى المشهد حينما كانت ميشليني تترصده لمحاولة بث الوعي فيه، وجلبه الى سقف بيتها، حيث تتضور من عطش الرغبات، أو الى ظل رجل يشاركها الفراش ويبعد عنها عناء الوحدة.
تظهر شخصية موريسو، الرجل البدائي الذي فقد احدى عينيه وهو يصطاد الخنازير في قريته التي تختفي بين أدغال النهر. كان قويا ومثار إعجاب الجميع ولكن هذا "العور" في عينه قد حوّله الى شخص تافه حتى في أنظار زوجته التي كانت تعشقه ولكنها بدأت بكراهيته من خلال الاستهانة به، فيقرر هجران قريته التي لا ترحم من يغادرها.
حانة حي الفخارين منفصلة عن المكان والزمان. فقد كانت تتوهج في الفراغ، وتستقطب الناس، وكأنها تملك هالة من السحر والجاذبية فتصبح بؤرة المكان وجوهر وجوده، فتجعل الجميع – من روادها وزوارها الطارئين- متعلقين بزواياها، مذهولين من خفاياها ورحابتها واحتوائها على المتناقضات، ما بين احتساء الخمر كوظيفة ظاهرية، واحتساء الفكر والذوبان في آفاقه.
هذه الحانة أصبحت بؤرة للتلاقح بين الأفكار والنظريات والتجارب والفلسفات والمعتقدات.
فهذا أبو الأعلى المودودي شيخ التيارات السلفية في الهند وصاحب الكثير من الاجتهادات في الفكر الإسلامي، من خلال ركام مؤلفاته ، يتجلى في هذه الحانة الروحية كي يسوّق أفكاره ويدافع عنها وهو على هيئة تمثال.
وغير بعيد عنه صاحب المذهب الوجودي سارتر، وهناك الزعيم الشيوعي لينين الذي حول الماركسية من مجرد نظرية تخضع لبعض القوانين المادية. فحاول تطويع النظرية، لتستجيب لحاجات مجتمعات فلاحية في روسيا القيصرية الإقطاعية. إضافة الى تواجد بعض الشعراء والفلاسفة الذين أفنوا حياتهم في تحقيق طموحاتهم الفكرية. ها هم يتحاورون ويسفحون آراءهم على موائد الحوار، متحمسين لها، بغض النظر عن فكرة التقادم وتجاوز الزمن والتغير في المعطيات.
هل أراد الكاتب أن يستحضر الزمن بثقله الفكري، ويحاول أن يجعله يراجع القناعات التي آمن بها ؟
إنّ الحمولة الفكرية والمعرفية التي أثقلت كاهل النص توحي بهذا الاحتمال. لاسيما وأن الكاتب قد سعى إلى جعل الحانة ملاذا للباحثين عن الحقيقة، من شعراء ومتصوفة وفلاسفة وثوريين، إضافة الى الأفّاقين والمتسكعين والعشاق واليائسين والمنفيين وأهل الحي من الفخارين وأهل المدن والأرامل والعاشقات والمدمنين والباحثين عن المخطوطات التي تميط اللثام عن بعض أسرار الحياة.
انها حانة موريسو، البدائي والذي ينتمي الى مرحلة الصيد، والذي يفقد عينه في صيد الخنازير، تلك الصنعة التي لا يجيد غيرها. ولكنه يفقد الوطن الذي رفض خطأه ولم يشفع له ندم العودة. موريسو خرج من جلده، فتفجرت في دواخله قدرات كانت ذائبة في نهر القبيلة الآسن، والذي كان فيه مجرد ظل باهت لروح الجماعة. ولكن غربته عن القبيلة ووحدانيته جعلته قادرا على التطور والنفاذ الى جوهر الأسئلة الحياتية المعقدة، مستعينا بموروث الماضي الذي جعله قادرا على إيجاد الشراب السحري الذي كان وراء فكرة تأسيس الحانة. تلك الفكرة التي تحولت الى نهج فكري، من خلال المخطوطة التي كتبها موريسو وهو في عزلته قبل وفاته والتي عثرت عليها الأستاذة ليبوجينا والتي يقول فيها:"في هذه الحانة يمكننا أنْ نؤسس المكان الذي تتلاقح فيه جميع الأفكار".
ما العلاقة بين خيبة إبراهيم العراقي والهارب من السفينة، الذي يعاني عقدة الذنب حيث ترك امرأة تحت الجدار المنهار دون ان يسعفها؟ أثناء الحرب بين العراق وإيران، وبين موريسو البرازيلي الذي لفظه الوطن/ القبيلة أيضا؟، كلاهما هارب او مطارد أو منبوذ، ولكن إبراهيم اصبح ضحية لليأس والإدمان فأصبح على الهامش. لأنه بقي أسيرا للماضي الذي أرهقه وحوله الى حطام بشري لا روح فيه. وعلى عكسه تماما شخصية موريسو. الذي تجرد عن ماضيه وبدأ من جديد، فقد تألق وهو يبدأ من حالة تأكيد الإبداع من خلال عمله في الفخار ومن ثم تأسيسه الحانة، وقد بقي حاضرا حتى في موته، حيث أنه أول من اُقيم له نُصْب من مواد جسده، فأصبح تمثالا ينضح بالحياة أسوة بأصحاب النظريات والأفكار الذين كان لهم ثقلهم التنظيري وقدرتهم على التغيير.
رغم أن السرد الروائي انشغل بأفعال شخوصه، مثل مشيليني فتاة السامبا العاشقة والريفية العاملة في الفخار والتي تحلم بفحل يؤكد أنوثتها. وليبوجينا الأستاذة والباحثة والتي بقيت ملتصقة بأجواء المعرفة الدفينة في زوايا الحانة، المرأة المغرمة بمعرفة التفاصيل والتي جعلتها تجادل شيخ الفخارين وتساهم في تخليد الناس من خلال معرفتها بأسرار التحنيط. وأيماندا الإيطالية الحسناء التي فُتنت بموريسو ومن ثمة أصبحت نادلة الحانة وخبيرة مشروب الكاشاسا .وهاريسا الشابة الجميلة والتي أتت الى الحانة لإكمال تصوراتها العلمية، لكنها فقدت عشيقها الصيني فان ترين والذي جذبته رائحة المخطوطات وشيخ الفخارين، إضافة الى موريسو وإبراهيم.
لقد كان شيخ الفخّارين في الرواية شخصية مثيرة وقابلة لأوسع أبواب الترميز والإيحاء حتى يتوهم القارئ بانه أمام صياغة مقاربة لرواية نجيب محفوظ "أولاد حارتنا"، فشيخ الفخارين لا اسم له، كما أنه وراء الإنتاج المادي والفكري للحانة، وحينما مات موريسو قام بتحنيطه بمواد المعالجة الكيمياوية ضد اختراق البكتريا حتى أصبح يشبه صاحبه. كما أن لديه أسرار الخلود والموت وتأريخ المخطوطات وسر الاحتفاظ بها ، إضافة الى علاقاته المتشعبة بالكثير من المشاهير، ومنهم كونداليزا رايس التي دخلت على الخط السردي، وكان لها حوار فكري مع شيخ الفخارين حول إشكالات فكرية عديدة ومنها مفهوم الثورة وماذا تعنيه أو تتركه من آثار.
ولكي تبقى الرواية في إطار عملية الكشف والاستقصاء. فقد تناولت النبوءة العلمية حول انهيار المنظومة الفكرية والعلمية للعالم من خلال إشكالية الصفر، التي روج لها الكثيرون قبل الانتقال الى الألفية الثالثة. والتي أحدثت رعبا وكأن العالم سيتعرض الى طوفان كومبيوتري. وذلك من خلال انهيار القدرة التي برمجها الكومبيوتر. واحتمال عجزه عن استيعاب المستقبل.
وقد ذهبت الرواية في رصد انعكاسات هذه الإشاعة على البشر من حيث تكديس المواد الغذائية وغلق الحسابات المصرفية والاعتكاف الى العبادة. لقد استطاعت ان تجس النبض الحقيقي للبشر في ظل مجسات الخوف من الانهيار والفناء.
حفلت رواية عشبة الملائكة بتقنيات روائية تمسك بالقارئ وتثير فضوله بالكيفية التي تنشأ منها الأفعال، كما تثير فيه إشكالية التأمل، فقد استطاع الكاتب أن يحاور بالكثير من الأسئلة الحادة، وأنْ يتناول بعض الهموم الإنسانية وهو في صدد البحث عن الخلاص، بالمعنى الفلسفي. وبغض النظر عن طبيعة الأفكار التي وردت، ولكنها سُكبت في حيّز روائي لا غبار على مهارة تقنياته، أو جمال لغته. كما تدل من زاوية أخرى على وعي الكاتب في المحافظة على خيوط الفكرة التي طرحها ومحاولة رصد ردود الأفعال المختلفة عنها، ولكن الشيء الجميل أنه جعل من العالم قرية صغيرة تتسع لكل التيارات، وقابلة لكل الاجتهادات، كما جعلها تتسع لأجناس بشرية مختلفة الأصول والأزمنة والأمكنة، ولكنها قادرة على أنْ تتعايش.
"عشبة الملائكة" رواية جميلة تغوي القارئ وتشده وتبهره.