ادب وفن

خصائصُ الأسلوب .. والجهد الجزائري / حامد كعيد الجبوري

يعزفُ الكتابُ والباحثون والنقادُ عن الكتابة حول الشعر الشعبي العراقي إلا ما ندر جدا جدا، ونضع خطا تحت "ما ندر".
وتبرير ذلك برأيي الشخصي ان المعنيين المذكورين يعتقدون بسهولة الشعر الشعبي العراقي وعدم أهليته للدراسة والبحث، وان الكتابة عنه وله تعتبر عندهم ضرباً من الاستخفاف أو عدم الأهمية، أو لأنهم لا يستطيعون خوض غماره وأمواجه المتلاطمة التي ستغرقهم دون تحقيق أي شيء أو منجز ثقافي يشار اليه ولهم لاحقا وبالتالي أهملوه، ناهيك عن المفهوم الطبقي الذي نعتوا به الشعر الشعبي وأسموه ظلما بشعر العامية.
ولا أخفي أن الموروث الشعبي العراقي كما بقية أبواب الثقافة والفنون عامة فيه من الغث الكثير، وبالمقابل فيه من السمين أيضا مما يثير شهوة الكتابة عند الـ (ما ندر) جدا كما أشرت إليه آنفا. لذا نجد في بعض الصحف العراقية موضوعا نقديا من صفحتين أو أكثر لملء فراغ هذه الصحيفة أو تلك. وحتى صحيفة "طريق الشعب" تعطي للأدب الشعبي صفحة واحدة في الأسبوع، وأنا أجد ذلك قليلا جدا، ففي هذه المساحة الضيقة يندر أن نقرأ موضوعة بحثية متكاملة الأغراض والمفاهيم النقدية، أو دراسة تفصيلية رصينة بشأن تراثنا الشعبي الغزير. وما صدر عن دار الينابيع عام 2010م بعنوان (الثورة النوابية) لحسين سرمك أجده المنجز الضخم عما كتبه الشاعر الرمز مظفر النواب، وكنت أترقب دراسات أخرى لنفس الناقد أو غيره عن تجارب عراقية شعرية شعبية، لا تقل إبداعا ووطنية وجماهيرية عن تجربة رمزنا النواب، مع تحفظي ععلى ذكر أسماء الشعراء كي لا تثار تساؤلات حولها، لأني أتعامل مع النص كونه عملا إبداعيا لا غير. وقد تكون صعوبة توثيق الثقافة الشفاهية الشعبية المتداولة حالت دون التصدي والكتابة عن الموروث الشعبي العراقي كما قلت.
أجد أن الخلفية السياسية للصديق مزاحم الجزائري هي التي دفعته صوب الكتابة عن شاعر هزلي مثل حسين قسام النجفي استحوذ على الإعلام الشعبي اللساني في حقبة الثلاثينات والأربعينات وبداية خمسينات القرن الماضي. فخلفية مزاحم الجزائري السياسية تُعنى بالأدب الشعبي عامة والشعر الشعبي خاصة، بل وتعتبر قصائد البعض من الشعراء منشورات سرية تتداول عند مختلف شرائح المجتمع العراقي. وقصائد مظفر النواب مثال على ذلك. ولليسار العراقي وبخاصة الحزب الشيوعي العراقي يدٌ بيضاء في تسليط الأضواء على بعض من الشعراء الشعبيين الذين وجد فيهم جذوة شعرية يمكن من خلالها تبني تلك الظاهرة المميزة وصقلها وإبرازها في إطار وطنيتها التي تحمل، ليصبحوا بعد ذلك من أبرز شعراء ستينات وسبعينات القرن الماضي. ومثال ذلك كراس (أغاني للوطن والناس) الذي طبع بعد احتفالية العيد الأربعين للحزب الشيوعي العراقي سنة 1974 م، وضم بين دفتيه 32 قصيدة لشعراء لا يزال يشار اليهم وليومنا هذا بتجربتهم الفريدة المميزة، وأسلوبهم الحداثوي، وتداخلهم بصفوف شعبهم ونقل معاناة الوطن وأهله.
ويُتهم الحزب الشيوعي زورا بأنه يخلق الرموز الشعرية منطلقا من شخصنة ذاتية لأسماء بعينها، ليبرّزها وتصبح واجهة إعلامية للحزب وقيادته. وهذا زعم مرفوض ودليلي أن كل الأسماء التي تعرفون وأعرف من شعراء شعبيين هم منجزٌ إبداعي سبروا أغوار المفردات الشعبية وقدموها على صحن ثقافي شعري ممتع للذائقة الأدبية القارئة، فأحبَ الناسُ تلك القصائد وحفظوها واستدلوا بها على عظيم تلك التجربة السبعينية حينها.
وكتاب " خصائص الأسلوب في شعر حسين قسام النجفي " عمل وجهد ليس بالهين للباحث والشاعر مزاحم الجزائري. وقراءة الجزائري واقعية انطباعية بنيوية لقصائد شاعر ترك لنا ثلاثة دواوين شعرية: "سنجاف الكلام"، "قيطان الكلام"، "محراث الكلام". وربما يعتقد البعض بمكان ما سهولة الدراسة لقصيدة شعبية مباشرة، تخلو من الرمزية لتفصح عن مكنوناتها ومعانيها العفوية كما يحلو للقارئ تسميته. وهذا يخالف حقيقة قصدية الشاعر ورمزية سخريته اللاذعة وإشاراته في ما يقول، وقد أستطاع الجزائري أن يناقض ما يدعيه البعض وأخرج لنا رؤيا وحقائق قصائد قسام النجفي، وقصديتها بتسفيه أفكار مجتمعية بالية طبع الكثير من عامة الناس وجبلوا عليها.
العربية لا تبدأ بساكن ولا تقف على متحرك، حقيقة تركها لنا النحويون. فلا يستطيع أحد منا قراءة أي بيت من الشعر الفصيح دون أن يشكل الحروف – الضمة، الفتحة، الكسرة، السكون: "حييتُ سفحكِ ظمأناً ألوذُ بهِ / لوذَ الحمائمِ بينَ الماءِ والطينِ". من يستطع قراءة البيت دون تحريك الحروف في البيت أعلاه، ومن هنا تأتت جمالية ورفعة اللغة العربية في تحقيق غاياتها ومراميها، (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) سورة فاطر. فلو قلنا اللهُ بدل اللهَ لأختلف المعنى كاملاً، فالكسرة أو الفتحة تغيير في المعنى وضياع ما أراد الشاعر أو الناثر. لذا أنبرى العروضيون وقعدوا القصائد الشعرية الفصحى، ووضعوا لها ميزانا عروضيا يحتكم إليه. أما الشعر الشعبي ولعدم قبول الحركة على الحرف الأخير من الكلمة فقد أصبح من الصعوبة بمكان إخضاع القصائد الشعبية للميزان العروضي الفراهيدي (رأي شخصي).
يقول النجفي: "شاربله كونية دوه / واثلث حكك شربت نوه / ياكل شمس يشرب هوه / من إذنه يطلع دخان"، في هذا المقطع وببقية القصائد الشعبية لا نستطيع أن نحرك نهاية المفردة الشعبية، كذلك في بقية القصائد الشعبية عامة. ولو أخضعناها للحركة لأضعنا وزن القصيدة واختلفت معانيها على الفهم والتمييز. وبجهد كبير ودراية عروضية اخضع الجزائري قصائد قسام النجفي للبحور (الفراهيدية) وأشار الى وزن تلك القصيدة بما يقابله من الشعر الفصيح. ومؤكد أن الجزائري ليس وحيدا في هذه التجربة، حيث سبقه الكثيرون لتقعيد "الوزن" والقصائد الشعبية، وهي محل خلاف كبير بين العروضيين. والطريقة المثلى عند غالبية الشعراء الشعبيين هي اعتماد وسيلة الأذن الموسيقية، وأجدها وسيلة خاطئة توقع الشعراء في الخلط بين الأوزان الشعرية المتقاربة بتفعيلاتها العروضية، إلا إذا كان الشاعر الشعبي يمتلك أذنا موسيقية واعية وهذا ما يندر.
قسم الباحث مزاحم الجزائري منجزه "خصائص الأسلوب في شعر حسين قسام النجفي" الى ثلاثة فصول غير المقدمة والتمهيد والخاتمة. الفصل الأول: مضمونية البنية الإيقاعية، وفيه مباحث شتى. الفصل الثاني : مضمونية اللغة والأساليب الفنية وفيه مباحث أخرى. والفصل الثالث : مضمونية الصورة الشعرية ويحتوي كذلك على مباحث عدة.
لم يغفل الباحث إيراد بعض القصائد والموالات والأبوذيات والهوسات الساخرة للشاعر النجفي، مما يضيف متعة للقارئ ويجعله مسترسلا في قراءة كل المباحث التي أوردها الجزائري. ومن طريف الهوسات يقول النجفي ساخرا: "احنه صدك واحنه نحرث المحروث / منخلي على وجه الأرض ملغوث / إلنه يوم نهجم بيه على البرغوث -- والحرمس هد أعله رجاله".
انه جهد لا يسعنا إلا أن نشكر الصديق الجزائري الذي فكك قصائد حسين قسام النجفي وأخضعها الى ميزانها العروضي، واستخرج لنا منها الجناسات والطباقات بموسيقى قصائد الشاعر، ومضامين البنية الإيقاعية، ومضامين اللغة وأساليبها، ومضامين الصور الشعرية الفكاهية والساخرة، ومضامين الصور الشعرية السريالية.
مبارك للباحث الجزائري مزاحم هذا العمل والجهد والمثابرة.