ادب وفن

استعادة المفتقد .. حوارية الشعر : الشاعرة رسمية محيبس في "ثرثرة" / مقداد مسعود

بعد قراءتي الثانية للمجموعة استوقفتني طويلا هذه الأسطر الشعرية.. رأيتُ فيها قصيدة قصيرة مكتملة.. فيها تكتمل شروط النص العميق بقصره.. وإذا كان السؤال يومئ إلى بخل السائل واعتراضه على هذا الإسراف وإذا كان السؤال يضخ تعاليا طبقيا.. فأن الإجابة عرفت غاية السؤال، لذا دخلت كرة الإجابة، مسجلة هادفا ذكيا.. كما أن الإجابة لم تكتف بذلك ، بل أخبرتها في طيتها عن توقيت توجيه السؤال، وهكذا كقارئ سأعرف أن السؤال كان قبل حلول العيد بيوم.. وربما توجه السؤال في ليلة العيد والحناء بمثابة أول عيدية أي أول عملة نقدية تنالها ايادي الفقراء..ولنحدد راحات الفتيات ..

في هذه العينة الشعرية التي التقطتها من قصيدة (العيد/ 48- 50).. إزاء حوارية :صوت تساؤل / صوت إجابة.. وستكون الحوارية هي القوة الدافعة للسيرورة من خلال ثلاثة أسئلة :
*من أي القبائل أنت ِ؟
*لماذا....الحناء؟
*لماذا تحدقين في وجوههم الصفر..؟
وسيكون جواب السؤال الأول: أنا من قبيلة الدموع
وستكون الاجابة الأطول من حصة السؤال الثالث..
وآليات الحوار الشعري.. لها السيادة في مجموعة (ثرثرة) للشاعرة رسمية محيبس.... والحوار يشتغل على ثنائية الداخل/ الخارج
في (الألم الغريب) وهي القصيدة الأولى في المجموعة، نقرأ السطر الأول: (لمن هذا الصوت
الممتلئ بكل هذا المطر)
وسنعرف في نهاية القصيدة أنها ذات سيرورة داخلية/ منولوج..
ونستلم معلومات عن ذات نسوية :
* وما كنت أسيرة سوى لذكريات لا تهدأ
* متوزعة بين هذا الضوء وبين السكون
* متعبة أنا..
لا أشير سوى للأعاصير الميتة
* خجلة أمام المرايا..
* سأنزع هذه النجوم الملتصقة بي
وهذا المنولوغ سنلاحظه في (نهايات) القصيدة الثانية في المجموعة الشعرية..بملموسية عالية، من خلال شريط الذاكرة التذكارية..يتم استحضار الغائب (ظهيرة لا يملؤها حضورك/)
وأشخص وفق أنتاجيتي ل(ثرثرة) ان الذاكرة التذكارية في قصائد الشاعرة رسمية محيبس من خلال فعل الماضي الناقص (كنت) شهود عدلي العينات التالية من قصائدها:
(كنت أجلس وحدي/ ص11/ قصيدة ثرثرة)
(كنت أتأهب لمجيئها /ص14/ قصيدة بانتظار القصيدة)
(كنت أجلس هنا وأتأمل مايجري/ ص20/ قصيدة الى الجواهري)
(كنت اقطف من نخيلك وأكبر/ص24/ ظلال تتعانق)
(لقد كانت أيامي
وكنت أحدق في كل هذه الألوان /ص37/ فراشة)
(كان ذلك صباحا بعيدا
كنت بلا قيود /ص66/ تغيير)
(حدث اني كنت في شوق اليك/ ص72/ قصيدة(.....) )
(كانت الخطى تتوهج على الرمل /ص86/ موجة)
(وكانت أمي.../ص91/ من يزرع الشوك)
(أعترف اللحظة اني كنت أنتظر وصلك/ ص92/ أرجوحة)
(ماكنت وحدي حين حل الشوق بي
كنت معي
كان للهواء نعومة الماء/ ص115/ نعجن الأرغفة بدمعة الحنين)..
ان إحصائي لفعل الكينونة ..كشاهد عدل يعني ان لهذا الفعل فاعلية تخصيب قصائد المجموعة الشعرية للشاعرة ..وللتأكيد من جانب ثان ان الحاضر معلق بين قوسين تعليقا فينومينولوجيا....ثمة تغيّب بشري يتدرج من الواحد الى الكثرة
(ظهيرة لا يملؤها حضورك /ص 8/ نهايات)..
(فقد رقد الكل
أجلس وحيدة../ص28/ اقتراف )
(نسيت في محطات البريد أسماء أصدقائي/ص51/ هذا هو وجهك )
(لم اقترب كثيرا منك لتجرحني
كل هذه الأشواك /ص55/ عن الأشواك التي جرحت يدي)
(لا طريق يؤدي إليك /ص72)..
لكن الذات الشاعرة لا تفعل اتصالياتها المجتمعية فقط ضمن هذا المحور..ثمة اتصالية نصية بين الذات الشاعرة ونصها الشعري (بأنتظار القصيدة/ ص14) (مطر/ص30) وبين الذات والذات الشعرية الكبرى (الى الجواهري/ص20) أو..مع الذات تشكيلية محتدمة تشكلت منها فرشاة فان كوخ..(زهرة عباد الشمس /ص63)..وهناك اتصالية : الذات / شعرية المكان :(من وحي الغراف /ص32)( العودة الى أور/ص98)..أ تأمل هذه القصيدة المشحون بهدوءٍ أزرق..الشفيفة الانكسار.. التي استعملت وجيز الحكي في الشعري.. والعلاماتي الوامض مرة مجسدا (تفاحة)
ومرة مستحضرا كمخيلة... القصيدة عنوانها مألوف ومستعمل بوفرة لكن الشاعرة رسمية محيبس تناولته بخبرتها الشعرية
فتخلص النص من الزوائد كافة،وهكذا كانت الكتابة بالحذف أكثر بلاغة من الكتابة بالتثبيت المطوّل.. سأثبت القصيدة وبالتالي أتناولها:
في عيد الحب
في عيد الحب
من عام فائت
قدمت لي تفاحة
وبطريقة ناعمة
قلت : خذي
إنها لك
التهمتها بسرعة
آسفة كان يجب أن أحتفظ بها
لا عليك.
هي لك على كل حال
نلاحظ ان العنونة تفعل فهمنا للنص بشكل سريع.. وهي من العنوانات الاشتقاقية كما علمنا العابر الاستثنائي الأستاذ محمود عبد الوهاب في (ثريا النص).. فهو عنوان القصيدة ومفتتحها ..ثانيا أن الحكي يشتغل على الذاكرة التذكارية..(من عام فائت )..ثالثا نلاحظ ان الشعري يتماهي اتصاليا في الأنثربولوجي (تفاحة)..ولايكتفي بذلك بل يشتغل في تضاد مع الانثربولوجي المتعارف عليه حول التفاح... وهنا نعتمد على فطنة القراءة
في التعامل مع شفرة السطر التالي..
(ألتهمتها بسرعة ..
آسفة كان يجب أن أحتفظ بها)..مابين القوسين يتمفصل في نسق ثلاثي
*الالتهام.....................ألتهمتها
* الأسف.......................آسفة
*الاحتفاظ وجوبا ---------- كان يجب ان احتفظ بها
التفاحة في النص..أعادتني الى النص قديم ..يقول فيه احد الشعراء..
قطعتُ برتقالتي نصفين
أعطيتك نصفا
وأعطيت النصف الآخر
لك ِ أيضا..
لو قارنا هنا بين التفاحة في نص الشاعرة والبرتقالة في نص الشاعر لوجدنا الاختلاف..في تمام الوضوح..في البرتقالة ثمة أثرة صوفية متعالية في البذل ..في التفاحة ثمة أنا..مدفوعة بقواها الذاتية الى الداخل وليس إلى الخارج..وهي أنا سرعان ما تعي أنها أقدمت على الفعل الخطأ ،لذا فهي تعتذر لذاتها قبل اعتذارها للمهدي (آسفة )..ولا تكفي بإعلان الأسف.. بل تضيف..(كان يجب أن احتفظ بها)..لكن قبل هذا الإعلان والتأسف..ثمة إيماءة شعرية شفيفة..تلقي تبعة فعل الأنثى على الرجل.. فالأنثى تحمل نبرة الرجل مسؤولية كل ذلك..(بنبرة ناعمة ،قلت : خذي )..
إن تثبيت نوع النبرة ليس فعلا اعتباطيا،بل له وظيفته الإيمائية ،ربما تعني ان هذه النعومة الذكورية تخفي في طيتها الكثير من أفعال الذكورة في هذا المضمار..أليس الشعور كلمة تخفي أعدادا من الوظائف الجزئية،تسويات عاطفية،انفعالات مشوشة،حالات وجدانية داخلية ..حدوس ..ضمن فلسفة الإرادة لدى بول ريكور ؟(2)...في ذكرى ذلك اي في عيد الحب...(واليوم وفي ذات الموعد )..سيحضر الرجل الغائب لابشخصه بل برائحة غوايته للأنثى..
(إجتذبتني تلك الرائحة
كان بإمكاني أن أمد يدي
لاقتني
لكن أين يداك
وهما تحتفظان برائحة التفاح
على كل تفاحة نكهة يديك
وقلبك )..إن الأنثى لديها إمكانية اليد،لكنها إمكانية مقيدة بشرط غياب الرجل..(إين يداك..)..والرجل معرّف لا من خلال يديه بل من رائحة بثهما لرائحة التفاح ( تحتفظان برائحة التفاح ) إذا كان للتفاح سطوة الرائحة فأن ليدي الرجل مؤثريتها في التفاح(على كل تفاحة نكهة يديك وقلبك ) والرجل من خلال يديه ليس غائبا أو مغيبا بل منشغلا بتوزيع قلبه في القلوب..
(تحلقوا حولك
وقد اجتذبتهم الرائحة
والقلب الذي يقسمه الحب
إلى محطات
ويضيئه بسحر غريب)..
ستعود الشاعرة رسمية إلى سيرة التفاح في قصيدة..(أرجوحة)...حيث يرد ذكر العلامة ذاتها(والتفاح الذي يكلأ أغصان روحي/ص92)...في منتصف القصيدة..التي وظيفتها حل نزاع الذات في إشكالية التناسب اللاتناسب فيها....
في قصائد(ثرثرة) للشاعر رسمية محيبس.. تكون أهم وظيفة للقصيدة استعادة المفتقد...فيحصل فعل القراءة على محطات شعرية تستحق التوقف عندها والتمعن فيها....