ادب وفن

ناظم رمزي .. ذكريات ومواقف ومعاناة .. القسم الثاني / جاسم المطير

حياته قضية فن

تميزت علاقة ناظم رمزي مع أصدقائه الفنانين بسعيه الدؤوب لكي يرتقي كل واحد منهم كي يكون مصدراً من مصادر الفن والإنتاج العراقيين بتقديم كل عون فني أو طباعي لكل فنان من معارفه وأصحابه. تطورت صداقته مع جميع معارفه على أساس هذا المبدأ. امتد عونه المعنوي والمادي إلى شرق وغرب الخارطة الفنية العراقية . قال في لقاء ليلي بدار جبرا إبراهيم جبرا بحضور عبد الرحمن منيف : لا أتمنى لأي فنان عراقي أن يعيش فقيراً كما عاش الفنان العظيم (فان كوخ) وهو يعاني من الجوع والحرمان والفقر والمرض . صحيح أن الرسام الهولندي فان كوخ عاش أربعة عقود فقط كلها صعبة وقاسية لكن ذكراه ستظل باقية لمئات السنين القادمة ..
حين أصدر مجلتين في لندن ، الأولى فنية ( فنون عربية) والثانية علمية تناولت آخر اكتشافات واختراعات العلوم والتكنولوجيا ( مجلة 2000) . كان حريصا جداً أن يجعل المجلتين صرحين شامخين في الفن والصحافة العراقيين. صدرت ثمانية أعداد من الفصلية الفنية وبضعة أعداد من الفصلية العلمية أذهلت الصحفيين العرب والانكليز في تلك الفترة حتى أن الصديق المشترك (بيتر موركَن) أحد مدراء المؤسسات الفنية الانكليزية المشهورة عالمياً أخبرني أنه لم يجد منافساً طيلة حياته بالفن الطباعي بمستوى هاتين المطبوعتين. غير أن تدخل المخابرات العراقية وضغطها على الفن العراقي وعلى الفنانين العراقيين بعد اشتعال الحرب العراقية الإيرانية - في تلك الفترة أديا إلى تهديم الصرح الفني الذي أشاده ناظم رمزي في الصحافة العراقية خارج الوطن إذ كان الاحتمال والمتوقع أن ناظم رمزي يمكن أن يؤسس صحافة عراقية في الخارج تتفوق على جميع مستويات الصحافة العربية الأخرى الصادرة في لندن . حين عودته إلى العراق حاملا كآبة جديدة وآلاماً جديدة بعد تداخلات جديدة في سيطرة جهاز المخابرات على مطبعته التي بلغت ذروتها الفنية في بغداد بعد أن التحمت أجزاؤها بزمان الفن الطباعي الأوربي المتقدم .
مساهمته في حل محنتي الكبرى
لم يكن ناظم رمزي صديقاً عابراً في حياتي لكنني عرفتُ حضوره بموقفٍ لا أنساه أبداً إذ حطت على غصن حياتي ذات يوم محنة كبرى حين وقعتُ بيد عدو لا يعرف غير غمار وحراك التعذيب والقتل. كان موقف هذا الصديق برقاً متوهجاً في لحظة معتمة أنقذني فيها من المحنة والعتمة أعاد إليّ تماسكي وصلب عظامي جاعلاً إياي مبتسماً في فترة عصيبة جداً مررتُ بها. في عام 1983 استدعاني جهاز المخابرات لأمر لم أكن اعرفه. في نفس اليوم كان نفس الاستدعاء قد تم أيضا للسيد محمد حديد وزير المالية في حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم والسيد اسطيفان فتح الله صاحب مطبعة الأديب المقيم حاليا في عمان الأردن لأمرٍ لا يعرفان عنه شيئاً قبل دخولهما مبنى المخابرات في المنصور. وقفت أمام (ضابط التحقيق) داخل مبنى المخابرات وقد لفـّني إحساس الرعب الشديد المعروف عن هذه البناية وعن ما كنت اسمعه عما يجري في داخلها. كنتُ خلال لقائي مع القاضي قد بدوت شاحباً شارد الذهن كما نطق لسان القاضي نفسه : (لا تخف يا ابن مطير فالقضية مالية بحتة سيتم غلقها حال التزامك بالتبرع للمجهود الحربي بمبلغ مناسب). عرفتُ من سير التحقيق معي أن المخابرات معترضة على بعض المتبرعين في حملة (تبرعات) المجهود الحربي وهي كما هو معروف (تبرعات إجبارية) لدعم الجيش العراقي في حربه ضد إيران فقد كنتُ قد دفعت مبلغ ألف دينار عراقي إلى القائمين على هذه الحملة قبل شهرين. كان أول سؤال وجهه الضابط - القاضي انك تبرعت بمبلغ زهيد في وقت تعرف فيه المخابرات انك (تاجر أحمر) مبرهناً بهذا التبرع الشكلي انك ما زلت ملتصقا بإيقاع الحزب الشيوعي المعارض للنظام والحرب .
كانتْ المفاجأة قد دفعتني إلى إنكار وجودي ضمن إيقاع أي حزب سياسي. أنا رجل تركت السياسة راحلا إلى نشر الكتب وتجارتها ،استيرادا وتصديرا. كما أنكرت أنني مليونير كما يزعمون. ضحك الرجل معلنا انه سيضطر إلى إصدار أمر توقيفي وإدخالي إلى دهاليز المخابرات التي يمكن أن تشطر جسدي إلى قسمين كما تشطر البرتقالة بسهولة . كان طيلة ساعتين متكبراً متجبراً لا يريد أن يسمع مني ما أقوله عن وضعي المالي المتواضع و(تبرعي) بمبلغ متواضع . أكد القاضي بصوت عال صارخاً و مؤكداً أنه كان قد اطلع على تقرير مخابراتي خاص عن حركة حسابي الجاري في مصرف الرافدين مما يدل على أنني املك مؤسسة تجارية تتعامل بالملايين. شعرتُ في ختام الساعتين أن صوته كان مثل عواء الكلب في أذني : خذوه إلى أعماق التوقيف .
موعد مع ليل المصادفة
قضيت في التوقيف الانفرادي 30 يوما وليلة ما رأيت فيها شمسا ولا سماء ولا شيئاً ينبض بالحياة ثم خفق قلبي بالفرح في اليوم الثلاثين حين صدر قرار إطلاق سراحي وتعلمت الرجوع إلى بيتي وعائلتي حتى غدا أمامي أنني وُلدت من جديد. عرفتُ في اليوم التالي أن إطلاق سراحي قد تم بجهود عديدة بذلتها ، حال عودتها من سفرة إلى خارج العراق لحضور مؤتمر إعلامي عربي، الدكتورة حميدة سميسم (مقيمة حاليا في الأردن) فقد كانت طيبة المسعى ، تملك ناصية التأثير على عدد غير قليل من ضباط المخابرات الذين كانوا لديها طلاباً في قسم الإعلام بجامعة بغداد حين كانت هي من أنشط المدرسين في القسم وكانت معروفة بمساعدتها لكل صديق من معارفها تراه واقعا في قلب أمواج الأمن والمخابرات تتدافع من اجل التخفيف عن تهمة هذا أو إطلاق سراح ذاك من المظلومين وقد بادرت لمساعدتي انطلاقا من رحاب العلاقة العائلية الرابطة بيننا . كما كانت جهود ناظم رمزي الذي كان قد كلف أحد أصدقائه من ضباط المخابرات عاملا مساعدا أيضاً.
بعد يومين من إطلاق سراحي استدعيتُ مرة أخرى إلى المخابرات من قبل احد ضباطها (نجاح النعيمي) مع اثنين آخرين من ضباط اقل منه مرتبة. كانت جلسة وصفها العقيد نجاح بأنها ( إنسانية) لكنه سرعان ما ألقى عليّ حجراً ثقيلا بقرار مدير جهاز المخابرات فاضل البراك بتغريمي مبلغاً قدره (107 آلاف دينار) أي ما يعادل 350 ألف دولار. ينبغي دفع المبلغ خلال عشرة أيام بالدولار أو بالدينار العراقي وإلا فأن الحجر الثقيل سأحمله على رقبتي بالإعدام في اليوم الحادي عشر . كان نجاح النعيمي في غاية التأثر وهو يبلغني بهذا (الأمر) وقد علمتُ في ما بعد أن تعاطف الضابط النعيمي وطيبة سلوكه معي لم يكن (تمثيلا) بل كان حقيقياً بسبب من توصية صديقه ناظم رمزي بمساعدتي .
لم أكن املك من المبلغ المطلوب غير 17 ألف دينار فقط أي حوالي 50 ألف دولار. قامت زوجتي ملك مرتضى حسين ببيع ما ادخرته من قطع ذهبية . كما استعنت بعدد من أصدقائي في الاقتراض ( محمد جواد المظفر ، محمد الجزائري، رياض عبد الكريم ، عبد الرحمن التكريتي صاحب مطبعة اعتقلوه قبلي في عام 1982 لمدة أسبوع واحد لقلة تبرعه ، حسن هادي ، محمود القيسي صاحب مطبعة اعتقل لمدة أسبوعين عام 1982مع عشرات من تجار الشورجة لنفس السبب، جمعة أيوب العاني وهو شقيق صديقي الشيوعي حامد العاني ، مازن المضري) ومن عشرة أصدقاء آخرين . بعتُ إلى شخص صاحب مخزن لتوزيع المشروبات الروحية في البتاويين قطعة أرض أملكها بمساحة 1872 مترا في كربلاء قرب بحيرة الرزازة بمبلغ 25 ألف دولار بينما قيمتها الآن أكثر من مليوني دولار .
في الليلة السابقة لموعد تسليم المبلغ وجدتُ نفسي في حالة شديدة القلق إذ عليّ تدبير الباقي وهو مبلغ 25 ألف دينار أو 75 ألف دولار حتى يكتمل المبلغ المطلوب. في الساعة التاسعة ليلا فكرتُ بالذهاب إلى بيت الصديق جبرا إبراهيم جبرا للاستدانة منه . لم يكن جبرا موجوداً في بيته حين وقفت سيارة ناظم رمزي أمامي إذ كان يريد زيارة جبرا في نفس اللحظة التي كنت واقفاً فيها أمام باب بيت جبرا. أخبرته أنني بموقف حرج فلم يكتمل المبلغ وجبرا كان آخر ملاذي لكنه غير موجود. أصدر أمره إليّ: اتبعني إلى بيتي مطلقاً مع كلامه مزحة لتخفيف معاناتي : لا تفكر لها مدبر..!
حال وصولنا إلى بيته القريب من بيت جبرا توجه نحو (القاصة الحديدية الكبيرة) الموجودة في إحدى زوايا غرفة من غرف بيته . فتح أرقامها السرية ثم فتح بابها بالمفتاح قائلا: خذ ما تشاء يا جاسم المطير .. كل هذا المبلغ تحت تصرفك.