ادب وفن

قراءة في نصوص الشاعر كريم جخيور : رسم النص الشعري بالألوان / حيدر الاسدي

القصيدة حينما تحمل أبعاداً دلالية عبر تشكيلات الشاعر المقصودة ستكون حتماً ثمة حياة درامية داخل النص تلك الحياة تكون عبر إبعادها السيكولوجية جدلية بل جدليات الحياة وتكويناتها عبر مخاض النص الشعري الذي بمجمله يكون فلسفة ذات الشاعر اتجاه العوالم المتنوعة وأكبرها إزاء العالم الكبير الذي ينطوي في ذات الشاعر!في نصوص الشاعر البصري كريم جخيور ستجد ثمة رؤية من ذات (واعية) إلى العالم بكافة تمظهراته!، تلك الرؤية تفصح عن تموضع ثابت من ذات الشاعر إزاء متغيرات العالم، وهذا التموضع الثابت جعل الشاعر يتماهى مع قضاياه الإنسانية وبالتالي تكون المتضادات مفردات مهيمنة لابد منها داخل النص الشعري كون الانطواء المبني داخل ذات الشاعر يمثل ذواتاً متغيرة آسها (العالم)، ولأن الألوان يتم استدعائها وفق معطيات نفسية متغيرة من لونٍ لآخر ستجد أن صراع الألوان وجدلية وجوده حاضر في نصوص الشاعر البصري كون علم النفس الحديث حدد الطرق على الألوان واستدعاؤها وعائدية ذلك إلى التفكير والقلق الإبداعي والذي بمجمله يفصح عن محيط ذات الأديب.

واختلف تماما مع نظرة الشيئيين الذين يجمدون اللون صفة (للمرئي) فقط!، فـ (الرسم والشعر كلاهما قادر على الإيحاء والتحليق عن طريق الألوان والكلمات؛ إلى استبطان عوالم من المرح والخوف والقلق والحب والجنس والخجل والغيرة).
في قصيدة عنونها بـ (قصائد الألم) (بحليبه يأتي الصباح/ يفترش باحة الكون/ فيتعقبه الليل بعكاكيز مدببة/ أيها الهائم بشمسه/ سيبقر بطنك الوحش) من هذا المقطع يتضح اللون انه أخذ مجالا للتمعن وتعدد قرائي، والحليب والصباح هما وضع ثابت كما يرى النص، وهما يفترشان باحة الكون، هما بصيص النور والبياض ودلالة الخير والنقاء والنصاعة، والصباح هو التنفس الجميل عند انجلاء الظلمة!، ولكن الظلمة وما تمثله من دلالة قاتمة تتشكل عبر مفردة (الليل) الذي يكون وافدا ( متعقباً) بعكاكيز مدببة لذلك الصباح!، انه يفصح عن جدلية مجتمعية تحاكي الثابت (الفطرة البيضاء الناصعة) وتفرقه عن الليل رمز الظلمة، وتتوالد الدلالة كون الليل مخبئ اللصوص والمتغيرين والمتلونين أصحاب العكاكيز المدببة الذين يقتلون نقاء النهار. والحليب يمنح الصحة الجسدية والصباح يُفعل هذا المعنى عبر الرقود من ظلمة السكون والابتداء بصباح جديد ينبىء ببداية يوم جديد يجعل من الجسد يبتدئ مشواراً يوحي للآخر بديمومة الجسد واستمراريته وصحته!، ولكن يأتي فعل (البقر) من الفاعل (الوحش) ليقتل الصباح هو وحليبه وبوضح النهار، حينما كان (هائما بشمسهِ)، وهكذا هو سلم الشر المتفشي في عوالم مجتمع دول العالم الثالث!.
في ذات النص يقول جخيور: (المياه الآسنة بلا أقدام/ ولهذا لا تعرف لذة الجريان/ والنوارس لا تتصفح أوراقها)، هذا الجزء بالذات لابد من قراءته سيمولوجيا اذ يحمل دلالة قصيدة عبر تشكيل الشاعر لفضاء نصه الشعري، فالمياه الأسنة تندرج من ظلمة الحياة العرجاء والتي تفقد لذة الجريان، (سيرورة الحياة بل الحياة وتمظهراتها الجلية)، فالماء سر الحياة والجريان رمز الماء، وهكذا يولد الشاعر من الحالة وأمكنتها معاني دلالية ومن المفردات ولوازمها مفردات شعرية تتشكل عبرها قصيدته. فالنوارس (ناصعة البياض ودائما ما تستدعى شعريا لترمز للبياض)، وهنا لا تداني سواد النفوس!، فهي بيضاء ناصعة ولا تختلط بسواد الأدران البشرية ولا يمكن لها ان تتصفح أوراقها!.
(ان الصورة الحسية هي المصدر الأساس للصورة الشعرية وتتشكل عبقرية النص في إعادة تشكيل الصور المادية إلى صور شعرية تثير الدهشة)، وفي نص (أناقة المعنى )، يقول: (من أجل بياض أشدّ وطأة/ السواد يلوح بالمكوث)، فدلالة اللونين المتضادين واضحة هنا، وكل واحد منهم انزوى لشطر صارعه بذلك الآخر وانزوى في الضفة الموازية المقابلة، وهنا يمكن قراءة أهمية تضاد اللونين في نص الشاعر كريم جخيور وهذه المتضادات تشكلت عبر مسارات الحياة وفضاءاتها (الأبيض والأسود)، فالخروج بالنقاء الأصح والبياض الأصح بكافة تمظهراته الحياتية لابد من تلويحات السواد المنبئة عن مكوث يقتل ذلك البياض ومدلولاته أن لم يكُ (اشد وطأة). معركة السواد والبياض ترتسم بالذات والآخر وفي الآخر، وما تمثل هذه المعادلة من صراع وتسامح!.
وفي مجموعته الشعرية: (ربما يحدق الجميع) يقول: (قمري مضرج بالسواد/ ونافذتي مطفأة)، وهنا يمكننا أن نتأكد أن مفردات الظلمة والسواد هي من المهيمنات الرئيسية في أغلب نصوص الشاعر وهو بهذا يوضح مدى سوداوية العالم المحيط بذات الشاعر الحالم بوطنٍ خالٍ من السواد. سواد النفوس وسواد الأمكنة وسواد التمظهرات الحياتية والمجتمعية، فهو يغيظه ظلام النفوس ويبحث عن بياض قائم يمثل النقاء بفطرته الأم. فقمر الشاعر هنا الذي كان لابد حسب الوضع الطبيعي أن يكون نافذة ضوء تغسل ليله الدامس ولكنه هنا مضرج بالسواد حتى قمر الشاعر صار مضرج بالسواد!، إذن أي سوداوية كانت تلف محيط الذات الشاعرة لحظة انطلاق النص وما قبلها من مخاض القصيدة.
في مجموعته الشعرية (خارج السواد) تنطوي العنونة على سيكولوجية واضحة في مفردة السواد، وحتى مفردة (خارج) إذا ما قمنا بمعادلة لقراءة ما هو كائن طبيعي سنجد أن الوضع المبشر الحالم الوردي سيكون وفق المعادلة التالية: (داخل البياض)، هذا الوضع والعنونة ستفرض على قراءتنا أجواء وردية وستضفي عليها نوعا من الرفاهية وأنت تتجول في نصوص المجموعة فالداخل دلالة (الاطمئنان / ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ)، ولكن جاء نقيضها (الخارج المخيف بكافة تشكيلاته ومنها السواد/ سواد النفوس والأمكنة المنغلقة في وجه الذوات الحالمة) ليكشف عن حالة مجتمعية زخرت بها المجموعة وليلتقط لنا حالات إنسانية انصهر معها الشاعر ولم ينسلخ من قضايا مجتمعه المصيرية والمضمخة بالألم والاه! وتدل على مرجعيات الألم والقهر الإنساني الذي ينتمي لها الشاعر في فترات وعيه الأولى (أن اللون من أهم الظواهر، والعناصر التي تشكل الصورة الأدبية لأن له ارتباطا وثيقا بجميع مجالات الحياة، وظواهر الكون، وله علاقة وطيدة بالعلوم الطبيعية وعلم النفس، الدين والثقافة والأدب، الفن والأسطورة)، وفي احد نصوصه يقول:(ما هو خارج السواد/ داخل مملكتي)، وهنا ترى ذات الشاعر أنها تبني لنفسها عالما غير المشاع في الطرقات والأمكنة، عالما مفترضا مبني وفق قناعات ذات الشاعر أقصد قناعاته الفلسفية ورؤيته للعالم وفق منظاره الخاص.
وفي نص "قارورة الكرم" يتكرر لديه اللون عبر مفردات ( اللون الدموي ولا أقول احمر- ارض السواد) وهو يرمز للوافدين المخربين أولئك الذين وجوههم حمراء وأيديهم ملطخة بالدم الأحمر على ارض السواد التي هي حتما ( أرضنا).
بصراحة نصوص الشاعر كريم جخيور تأخذك معها عبر مفازات الحياة وخساراتها عبر مسارات ضيقة لم تكن يوما تتوقع ولوجها ولكن ذات الشاعر المدربة على تلك العوالم تجعلك تخوض صراع الأمكنة والأزمنة مع نصوصه الشعرية التي تحمل أبعاداً ودلالات يمكن للقراء تحديد معالم معانيها اذ ما كانوا يعيشون تجربة مشابهة لتجارب الشاعر كريم جخيور