ادب وفن

رشدي العامل* / ألفريد سمعان

خاطبني بالعبارات التالية عندما اهدى لي ديوانه "هجرة الالوان": " الى اخي ألفريد ذكرى ايام لن تعود وسنوات مجيدة رائعة.. مع عميق الحب".
اجل ايها الحبيب الراحل كانت الايام رائعة.. لقاءات في غرف ضيقة وتبادل المعلومات في الشوارع المغلقة عبر رقابة صارمة وظروف صعبة بخوف مشورع من الآذان التي كانت تحاول ان تستمع لما نقول والعيون المترقبة من قبل البوليس الذين كانوا يبحثون عن انتكاسة للرواد.. لكي يخلو لهم الجو. اجل كانت اياماً صعبة فيها خوف وجوع وحرمان وحنين الى الفجر وتذكر رفاق رحلوا او على عتبة الانتظار. كنا نتبادل احلامنا ونعتقد اننا قادرون على دحر الظلمة والقسوة والاضطهاد، كنا نحلم بفضاءات من الفرح بحدائق تتخاصم فيها الورود والنسمات لاسعاد الطفولة وحماية الوطن وفرش سماء الكادحين بالنجوم ووضع اقلام نبيلة بيد المبدعين. ونلوح للسائرين بمستقبل وضاء وغد سعيد. لم يغرب عن بالي ولم تغادرني ابتسامته الشقية واصراره على ان يبتسم العالم كله مهما تكن ضراوة السياط وتعسف الظلمات وكثافة الاحزان وقسوة الحياة.
كان رشدي باقة امنيات عذبة، يتحدى وهو الرقيق، ويتفاءل وهو المتخم بالجراح، يرسم خطوط التاريخ بكلمات مرهفة شفافة واسلوب متميز مصر لا تستعصي ملامحها على احد ولا تحتاج الى شراح. يهيم في المواني ويعشق حاناتها الصاخبة ويعاود الرحيل الى جزر خضراء بعيدة يتخيلها على اشرعة متعبة وهو ينشد:
اتمشى في الليل وحيداً
اذرع صمت الشارع
ارنو للمصباح
واذكر وجه الطفل الراقد
بين النوم وبين الذكرى

تقول ذاكرتي التقينا اكثر من مرة وفي اكثر من موقع وجمعتنا اوقات شتى. كنا رفاقاً في خلية حزبية واحدة بعد انتصار ثورة 14 تموز وقبلها. كان بيننا ارتباط حزبي تحت سياط النظام الملكي، وكان معنا بعد الانتصار هاشم الطعان ونور الدين فارس ورشيد ياسين وعبد الوهاب البياتي وزهير القيسي، وآخرون يقودنا
البطل (أبو سعيد) الذي كان يؤسرنا بحديثه الهادئ الكلي وتوجيهاته الذكية ويؤكد على الالتزام بالمبادئ والحرص على التنظيم وتقديم المقترحات ووجهات النظر بموضوعية عالية وكان يعلم انه يقود أدباء ومبدعين.. ولا بد من التعامل معهم بشكل يختلف عما يجري في أوساط أخرى.. وهو يدرك ان العملية الثورية تتطلب وعياً عميقاً واستيعاباً لمفردات النظرية الماركسية والاستعداد للتضحية والإشادة بالتقاليد الثورية العالمية والمحلية والضحايا الدين سقطوا دفاعاً عن شرف القضية بعزيمة صلبة وتفانٍ متوهج وبلا هوادة والتقينا ايضاً عندما أسسنا أسرة الفن الواقعي وكان من أعضائها مرتضى الشيخ حسين، موسى النقدي ، احمد الصفار، رشدي ، ألفريد، احترماً لشبابنا الذي لم يكن يؤهلنا للأنظمام الى جماعة الثقافة الشهيد/ صفاء الحافظ وصلاح خالص ،وعبد الملك نوري، وغائب طعمة، وإبراهيم اليتيم، وخالد السلام ،والبياتي وكان أول إصدار(قصة من الجنوب) لمرتضى والثاني ديوان قسم لألفريد والثالث مجموعة قصصية لأحمد الصفار كتبت في المطبعة وصادرتها التحقيقات الجنائية ولكن الأسرة بقيت تتنفس وتحاول ان تلم حولها الأدباء الشباب.
كان رشدي وطنياً يؤمن بأن الأدب لا بد ان يلعب دوره في تثقيف الجماهير لانه حاديها وتكريس الكلمة الصادقة من اجل القضية الكبرى وهو الانتصار على كل ما يعيق دروب القافلة السائرة الى المستقبل والغد المتألق.. وهو ايضا كان حريصا على البقاء بين الجماهير يأكل من خبزهم اليومي ويتحمل الامهم ويشد على سواعدهم ويضمد جراحهم. ولذلك لم يغادر الوطن. وكنت معه في هذا الرأي ويقول:
اني لأعرف ان شعبي
في خبزه اليومي
يطلق دمعه المر المثابر
ودما مثابر
لكن شعبي لن يهاجر
كان غزير الانتاج..
كان في مصائده يرسم ملامح الاضطهاد السوداء وتعسف الطغاة ويحفر في الجدران بعض ما يحب.. ويذكر العالم بالطفولة ويغن لهم.
اردت ان اذكر للصغار
ان الدم المطفأ
ان الدم البارد قد يدفأ
ان الدم المغتال
فليذكر الرجال والاطفال
سيلهب العروق حتى داخل الاغلال
وهذا ما يؤكده الدم الذي يجري في قصائده الرومانسية المغناه انه يؤكد في كل حرف وكلمة وقوفه مع الشغيلة والوطن بكل ملامحه وفضاءاته واحزانه وانتصاراته.. وانه مع الفكر التقدمي والوهج الانساني. يروي كل ذلك بلغة بسيطة سهلة التركيب بلا رتوش تزخر بالشفافية والنعومة والتعبير الرقيق عن المشاعر بما تحتويه من افراح او اشجان.
كان ينعم برقة الطفولة ويعيش احلامها ويتمنى لو اتيحت له الفرص لكي يكتشف العالم ويجوب كل البحار ويعاني صخب الامواج وعنفوان العواصف وكان ريقا مع المرأة له مواقف ومواقف- وهو يحلم بها ويمنحها ارق المشاعر وقد يختلف معها ولكن يظل يحبها بشغف وهوس. وكأي شاعر حطت على اغصانه اجنحة الحب وتصاعدت رغباته الجياشة العافة. لاسيما وانه التقي باكثر من حبيبة وصديقة في مصر والعراق وهنغاريا وكلية الاداب فقد كان محظوظا.. ويتأمل
لم اعد اعرف السر
هل كنت لي مرة
كيف.. كيف التقيتها
كان دربي بعيدا
ودربك حلو
قصير الخطى.. والتقينا.
في برد الشتاء عبرت معي
كنت معي ترتجفين
كان رشدي شاعرا مرهفا مؤمنا بانتصار قضية الجياع والكادحين.. وكان نسمة رقيقة الهمسات وجذوة ملتهبة. وصخبا ثوريا لاهفا وقد رحل عن الدنيا حزينا لانه كان يحبها بكل تفاصيلها وملامحها.. لقد كان راهب الطفولة والمرأة والليل والوطن.
عفوا رشدي هذا بعض ما نقوله عنك بحب وصدق وحنان.
ـــــــــــــــــ
* القيت في جلسة الاحتفال بذكرى الشاعر الراحل، التي اقامتها " الجمعية العراقية لدعم الثقافة " يوم 10 الشهر الجاري على قاعة الجواهري بمقر الاتحاد العام للادباء والكتاب في بغداد.