ادب وفن

قراءة نقدية في رواية الحصاد للكاتب طه الزرباطي: إشكالية الكم والكيف في بناء النص / ياسر العطية

يشترط العمل الروائي: جملة شروط، تعد بمثابة الذي يؤثث فضاء المنجز وزواياه المختلفة كثيراً حول كثرة أو قلة مفردات ذلك (العفش)، بل حول نوعها، قيمها الدلالية، قدرتها على الإدهاش، وخلخلية نظام التلقي لدى القارئ. ولعل عنصر(التشويق والجذب) يعتمده الراوي، في شحن أجزاء النص وبث إشارته في خلاياه، من أهم (المفردات) التي تؤكد براعة الكاتب وفهمه لعملية التلقي وشرط الاعداد لها، بأعتبارها ركناً مهماً من أركان العملية الإبداعية، ويلاحظ ذلك من خلال ما يدخره الكاتب من (التشويق) ليستخدمه في مكانه وزمانه المناسبين، كما تدخر ربة المنزل (التوابل والمطيبات) لأوانها وساعتها! .. والكتابة عملية تركيب واعداد غاية في الخطورة فما يكتب بأناة وروية.. يقرأ بشهية ورغبة عارمة، ويسهل فهمه.
ويستشهد الناقد الروسي باختين باطروحة لغوغول قائلا: (إن الحقيقة في الرواية ليست بحد ذاتها الا إحدى الحقائق الممكنة) ويذكر ميلان كونديرا في كتابه "فن الرواية"" :إن السبب الوحيد لوجود الرواية هو اكتشاف ما تستطيع الرواية وحدها إكتشافه، إن الرواية التي لا تكتشف عنصراً مجهولاً في الوجود هي رواية لا أخلاقية، فالمعرفة هي السمة الأخلاقية الوحيدة في الرواية".
اللغة، مادة الكتابة المشكلة لبنيتها وكيانها بدءاً من السطور الأولى.. وحتى الخاتمة، بلاغة اللغة في (باطنها وظاهرها) المعاصرين تجسد الهوية الثقافية والفنية للكاتب، قبل غيرها من المكونات والعناصر الاخرى! فاللغة- كما نعلم- ليست وعاءاً جامداً محايداً، بل هي منظومة هائلة من الرموز والاشارات المعبرة عن الحياة وأشيائها اللامتناهية، وبذلك تكون علاقة الكاتب بلغته- التي حولها الى (نص ابداعي) مؤشراً على قدرته وتألقه الفني، كذلك يأخذ (البعد الفلسفي والفكري) موقعه من المتن السردي على لسان أبطال الرواية، بهيئة آراء، تساؤلات، وتلميحات، تتخل المشاهد الحوارية المبثوثة على مساحة النص، فيكون الكاتب أشبه بالملقن الذي يقف خلف كواليس المسرح هامساً في آذان الممثلين بأشياء قد نسوها أو تناسوها، والأفكار التي يصرح بها أبطال الرواية إن لم تكن للكاتب ذاته فهو- لاشك- مكتشفها وراعيها، وهو الخبير الأقرب من تلك الأفكار والمضامين الفلسفية والأخلاقية. والرواية مختبر كبير تعتمل بأدواته تجارب حياتية مختلفة وتجري تفاعلاتها بعناية من لدى ( الكاتب- الخبير)، فهو يتساءل هنا، ويجيب هناك، يتعجب ويستنكر، يستلطف ويستهجن، يقارئ ويناضر، آخذاً باعتباره: أن هناك من ينتظره بل يترصده! القارئ: ينتظر (ثمرة) ذات لون وطعم ورائحة، ينتظر بناء روحياً وثقافياً عامراً جديداً وجميلاً، لينعم وسط أرجائه، مستجيراً من أرضه وسماواته المليئة بالغموض والآلام في أغلب أوقاتها! والصانع- هنا- الذي يرى الحياة في (حاضرها وماضيها ومستقبلها) بمنضاره الابداعي، بعدته الفنية والثقافية والانسانية الخاصة به، فهو المؤلف، والرائي، والمؤول، والمترجم لثيمات نصه وخاماته المختلفة.
(التشويق) في رواية (الحصاد) لطه الزرباطي، لا يمت بصلة لشيء من الاعتلال أو الرهن في قدرة الكاتب على السرد وحشد الصور والوقائع والأخيار في غضون (فصلين) لا ثالث لهما.
و التشويق- هنا- يتعلق بالأهمية التاريخية، والسياسية، التي تلمح بها الأشياء- بسرعة الكاتب- التي نعرفها، مما يحيلنا الى حاجة العمل الى (فصول) أخرى، أو أجزاء لاحقة، لكي تكون هناك مساحات ومثابات أوسع وأكثر ملاءمة، لترحيب بالنص/ المتن/ وارضاء المتلقي/ معاً.
الحصاد/ في الأرض المزروعة ألغاماً: رواية حصاد في أعقاب الحرب، وما سبقتها ومهد لها طوال ما يقرب من نصف قرن، من الاستبداد السياسي والطوباوية الفكرية والقبلية الضحلة والمقيتة، فليس من الأهداء الذي يقول: الى النخلة التي أحترقت بنيران الأهل..، ليس من ذلك، بل من الفصل الأول الذي احتشدت صفحاته بأخبار الحرب وروائحها وهلوساتها، فكانت الجبال والأنهار (التي وقعت في الوقت الخطأ أو المكان الخطأ أصبحت أسلحة في المعركة)- كما يصور الكاتب، ص7 أقول: لم تنفع رومانسية الزرباطي وانثيالاته العاطفية مع (سبطانات المدافع الرشاشة وحفر المواضع وصفير النمساوي)، فالبطل المأخوذ بجمال حبيبته (أمنية) يشكر الله: ( اشكر الله في غبطتي، قلبي سيركض، يتعفر، سيقفز، ويفرش طريقها حباً، وسيبثها لوعتي وحنيني، وفجأة يدوي المدفع النمساوي) وتدوي الراجمات! ص46.
لصناعة الرواية، لا بد من إجتراح مناخ زمكاني.. يختلف من رواية الى أخرى، هذا المناخ / ربما يشبه سكة الحديد التي لا يحيد عنها القطار، مع كثرة محطاته واتجاهاته واختلافها، وهي سكة تؤمن إتصال مراحل العمل الروائي وتراتبية حلقاته وفي ذلك ما يغرس القارئ، تدريجياً بتلاحق المشاهد وترابطها.
وليس كافياً أن يذكر الراوي بعض (الأسماء)، أسماء الشخصيات، أو يشير إشارة عابرة لبعض الأماكن فالنص الروائي على غزارة محتواه وثراء مضمونه، لم يسجل صعوداً نصياً دون أن يكون كلاً واحداً متكاملاً، مؤاتياً للأمساك به من جهة ما.