مدارات

الطريق الى الطريق / سلوى زكو

محظوظ هو ذلك الصحفي الذي يدخل مدرسة الصحافة الشيوعية، وهي مدرسة تراكمت فيها تقاليد وخبرات ثمانين عاما. هناك سيتعلم معنى الضمير المهني والصدق واحترام عقل القارىء والابتعاد عن الاثارة والتهويل والعمل بروح الفريق، كما سيتعلم كيف يحترم اللغة التي يكتب بها. بعد (طريق الشعب) مرت علي كوارث من الاستهانة باللغة والعجز عن استخدامها والتعبير بها.
انضممت الى طريق الشعب في سبعينات القرن الماضي، وكنت قبلها اعمل في احدى صحف الدولة. هناك لا يتاح لك ان تقابل رئيس التحرير الا بعد ان تمر بمكتب سكرتارية ينبغي ان تشرح له سبب المقابلة ثم يسمح لك او لا يسمح بمقابلته. وفوجئت في ايامي الاولى ان رئيس التحرير، الرفيق عبد الرزاق الصافي، بلا سكرتير ومقابلته متاحة لكل العاملين في الجريدة، بدءا من مدير التحرير وانتهاء بذلك الفتى الشغيل الذي كان يحضّر الشاي ثم اصبح صحفيا مرموقا. لعله كان سيظل يصنع الشاي لولا انه مر بطريق الشعب.
كنت ارى رفاقا شابت رؤوسهم في السجون يعملون، وبمنتهى التواضع، محررين في اقسام يديرها صحفيون في عمر ابنائهم، او يعكفون ساعات على فرز ذلك البريد الهائل الذي يصل يوميا من القراء او المنظمات الحزبية في كل محافظات العراق ومدنه وقراه. كان ذلك البريد صورة مصغرة للعراق بكل تناقضاته: عمال وفلاحون يعرضون مشكلاتهم، ومدن تشكو الاهمال، ومستشفيات تبحث عن ادوية، ومدارس لم يكتمل كادرها التعليمي، وشباب يكتب الشعر والقصة والمقالة، وأسر تبحث عن ابنائها الذين اختطفوا من الشوارع او اماكن العمل، ومهرجانات فنية وادبية تصنع الفرح في البصرة والحلة والناصرية واماكن اخرى عديدة، وتقارير عن نشاطات مهنية قام بها مهندسون واطباء ومعلمون، وصراعات انتخابية في النقابات والمنظمات المهنية.
عملت في طريق الشعب، ومن بعدها الفكر الجديد، في واحدة من اصعب الفترات التي مرت بها الصحافة الشيوعية، وهي فترة الجبهة في السبعينات. كان البعثيون يرصدون كل كلمة تنشر في صحافة الحزب ويعدون جداول (عتاب) تطرح في اجتماع الجبهة الاسبوعي. وكان هناك بين المحررين شباب غاضب من سياسة البعثيين يريد ان يعبر عن غضبه. معهم تعلمت مهارة صحفية جديدة هي ان تنقل الفكرة بعبارات لا يستطيع البعثيون الامساك بها، لكنها تصل الى القارىء. وما زلت حتى اليوم احتفظ ببعض من تلك المهارة رغم انتهاء الظرف الذي ولدت فيه وتبدل الأزمان.
كان يتواجد في مقر الجريدة بعض من اعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية، من بينهم الراحل الكبير الرفيق زكي خيري. لم يكونوا يتدخلون في التحرير او عمل الاقسام، انما يرسمون السياسة العامة للجريدة، ويتداولون فيما بينهم كتابة المقال الافتتاحي اليومي. وكان سياق العمل في الجريدة ان ترسل المادة المكتوبة الى القسم المعني أيا كان كاتبها ثم تخرج من القسم الى رئيس التحرير ليؤشر عليها بالموافقة.
كنت اعمل مسؤولة عن القسم الثقافي، وجاءني في احد الايام موضوع كتبه الرفيق زكي خيري. كانت لدي بعض التساؤلات حول المقال فقصدت الرفيق (ابو يحيى) لأشرح له وجهة نظري. رمقني الراحل بنظرة حنان مطولة، ولاحت ابتسامة على ذلك الوجه الصارم الجاد، وكان الراحل لمن عرفه نادر الابتسام، وكان كأنه يقول في نفسه: من هذه التي جاءت معترضة على ما كتبه زكي خيري. أصغى لي باهتمام ثم امسك بالمسودة يراجعها وقلم الرصاص بيده يمر به على السطور. يتوقف حينا ليؤشر في موضع ما ثم يمضي ليؤشر مرة اخرى وهكذا. رفع رأسه وهو يقول لي أشرت هنا على ?لمواضع التي اثارت اللبس لديك وسوف اعدلها خشية من ان تثير اللبس لدى القارىء ايضا. تسلمت الموضوع بعد ساعة ثم دفعته الى رئيس التحرير. وتعلمت من زكي خيري ان اسأل واستفسر واعترض بلا حرج ايا كان الشخص المقابل.
مع اشتداد هجمة البعثيين على الحزب الشيوعي، غابت عن الجريدة وجوه عدة، بعضها اختطفه جلاوزة النظام وضاع أثره حتى اليوم، فيما نجح البعض الآخر في الافلات من قبضتهم ومغادرة البلد، وكان من بين هؤلاء رئيس التحرير الرفيق عبد الرزاق الصافي، الذي أفلت في اللحظة الاخيرة مما اورثهم الجنون بعد ان ضاع منهم صيد ثمين.
آخر لقطة تحتفظ بها الذاكرة هي مبنى الجريدة يحاصره رجال الأمن وهم يجلسون متحفزين على دراجاتهم او في سياراتهم التي ملأت الازقة المجاورة، ونحن محشورون فيه نحتمي ببعضنا البعض ونتغلب على القلق بالمرح وتبادل النكات على البعثيين.
كان آخر وجه رأيته ولم اودعه هو وجه الشهيد د. صفاء الحافظ الذي كان آخر من بقي في مبنى طريق الشعب.