مدارات

الاقتصاد العراقي: قضايا وآفاق في الإصلاح والتغيير / رائد فهمي

إن كان ثمة ما يتفق عليه كل المعنيين بالشأن العراقي، سواء من أبناء البلاد، مسؤولين ومواطنين اعتياديين، أم من غير العراقيين، دولاً وإعلاماً ومنظمات دولية، حكومية وغير حكومية، وشركات وأوساط أعمال وباحثين وعلماء، فهو شدة تعقيد أوضاعه وقساوة ظروفه، وثقل تركة عقود من التسلط الاستبدادي والحروب العبثية وحصار اقتصادي ربما لم يشهد له مثيل من حيث شموليته في التاريخ المعاصر، من خراب ودمار أصاب جميع مناحي الحياة. يضاف إلى هذا كله إرهاب حرب وحشية تشنها قوى إرهابية متنوعة يجمعها هدف إجهاض اي إمكانية لتحقيق تحولات سياسية-اجتماعية، واقتصادية اجتماعية ذات طابع وطني ديمقراطي عميق، والعمل من أجل فرض نظام استبداد جديد تحت مسميات فكرية وايديولوجية وسياسية مختلفة.
عملية اعادة اطلاق التنمية الاقتصادية وتحقيق النمو المستدام مرهونة باجراء اصلاحات عميقة ترقى الى هيكلة جديدة للاقتصاد
استحواذ صتحب السلطة السياسية على الريع (النفطي) يمنحه قوة اقتصادية كبيرة تشجع الميول الاستبدادية وتضخم اجهزة الدولة وتغوّلها

وفي ظل هذه الأوضاع المتشابكة والمتداخلة من حيث تعدد الفاعلين السياسيين العراقيين والخارجيين، وتداعيات الاحتلال والانهيار في بناء الدولة الذي رافق وأعقب سقوط النظام الدكتاتوري، طرحت أمام البلاد مجموعة من المهام المتداخلة تتعلق باعادة بناء الدولة على أسس دستورية ديمقراطية اتحادية تستند إلى توازنات جديدة ما بين مكونات الشعب العراقي إثر انهيار التوازنات السابقة التي كانت قائمة منذ نشوء ما يسمى بالدولة العراقية الحديثة بعد عام 1921، وتمكين العراق من توفير شروط استعادة سيادته الكاملة، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وكذلك إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي لتحقيق الانتقال نحو اقتصاد السوق المفتوح. وفي هذه الورقة المكثفة، سنعنى فقط بالجانب الأخير، وبالقضايا المتعلقة بوضع الاقتصاد العراقي على طريق النمو والتنمية المستدامة.

1- مرحلة الانتقال

يمتلك العراق كل المقومات لأن يكون بين الدول المزدهرة ولأن يتمتع أبناؤه بمستوى من المعيشة والدخل مكافئ لمجموعة الدول المتوسطة الدخل حسب التصنيف المعتمد من قبل المنظمات الدولية، والبنك الدولي تحديداً. فهو غني بموارده الطبيعية، وخصوصاً بالنفط والمياه، كذلك بموارده البشرية، حيث تقدر قوة العمل فيه بأكثر من سبعة ملايين شخص، نسبة غير قليلة منها ذات تأهيل جيد رغم التدهور الكبير الذي شهده النظام التعليمي في العراق بمراحله المختلفة منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضي. ولكن سياسات النظام المباد وحروبه المدمرة ونهجه الاستبدادي ونظام اقتصاد اوامري ينخره الفساد والمحسوبية لم تفرط فقط بهذه الإمكانيات، بل أجهزت على ما تحقق من إنجازات حتى أواخر عقد السبعينيات وعمقت الاختلالات في بنية الاقتصاد العراقي، سيما في إضعاف أنشطته الانتاجية الزراعية والصناعية، وزادت من طابعه الريعي وعرضت البنى التحتية للدمار والتآكل نتيجة العمليات العسكرية وضعف الادامـة وغياب الاستثمارات الجديدة.
لذلك باتت عملية إعادة إطلاق التنمية الاقتصادية وتحقيق النمو المستدام مرهونة بإجراء اصلاحات عميقة ترقى إلى هيكلة جديدة للاقتصاد العراقي. وهنا تثار قضايا مثيرة للجدل، او تختلف بشأنها الاجتهادات حسب أدوات التحليل المعتمدة والمنطلقات الفكرية، وفي نهاية المطاف، حسب مصالح المجموعات والقوى الاجتماعية المختلفة التي تعبر عنها هذه الرؤى والمواقف.
ما هي خصائص المرحلة التي يمر بها العراق اليوم؟ يطرح هذا السؤال بالحاح في بعض أوساط النخب العلمية وبدرجة أقل في اوساط السياسيين الذين تدفعهم إلى التعامل البراغماتي تعقيدات الأوضاع وعدم قدرة المنظومات الايديولوجية المختلفة على تقديم إجابات وحلول وافية وشافية للواقع العراقي. وقد يبدو السؤال للمواطن المشغول بهموم شحة الخدمات والمنتجات النفطية وغلاء الأسعار وتدهور الأمن أكاديمياً وبعيداً عن هذه الهموم. وهو بالطبع ليس كذلك، لأنه يؤسس للمشاريع التي تتصدى لمعالجة هذه الهموم.
وقد لا يكون استخدام تعبير المرحلة دقيقاً لتوصيف ما عليه الحال في العراق. فالحديث عن مرحلة يعني ضمناً أن مقدماتها ونهاياتها معروفة، إن لم يكن تفصيلاً، وإنما بمعالمها الرئيسة. وفي حالة العراق، نعرف البدايات والممهدات، ولكن الغموض لا يزال يكتنف المآل. فتوازنات القوى على جميع المستويات لا تزال متحركة، والمتغيرات عديدة، وبعضها خارج عن مؤثرات الوضع الداخلي، والبرامج والمشاريع والاصطفافات في حالة تشكل وإعادة تشكل، وكل ذلك يسهم في تحديد مسار مركب العراق ومراسيه القادمة. وسنعتمد تعبير المرحلة مع الأخذ بعين الاعتبار هذه التحفظات.
المرحلة الحالية انتقالية واستثنائية. إلاستثناء جليّ ولا حاجة للافاضة في شرح اسباب وسم الوضع الحالي بذلك. (العنف المنفلت والارهاب، تصدع بنى الدولة، وجود القوات الأجنبية، ...)، أما الطابع الانتقالي فيستحق التوقف عنده. حسب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، يمر الاقتصاد العراقي بحالة انتقالية من اقتصاد مركزي اوامري إلى اقتصاد حر تلعب فيه آليات السوق الدور المقرر والحاكم. وبرنامج الاصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي يرسم الطريق ويحدد التحولات المطلوبة لتحقيق هذا الانتقال. وحسب البنك الدولي، يجب أن يقوم العراق بثلاثة أنواع من الانتقال بعضها متلازم والآخر متعاقب، وهي :

1- من النزاع إلى الاستقرار وإعادة التأهيل والاعمار.
2- من هيمنة الدولة إلى التوجه نحو السوق.
3- من اقتصاد يعتمد على النفط إلى اقتصاد يعتمد على قاعدة انتاجية متنوعة.

ويعني هذا التوصيف، إزالة المعوقات والكوابح أمام انتشار وتطور العلاقات الرأسمالية في جميع مفاصل الاقتصاد الوطني. ويجدر التنويه في هذا السياق إلى أن الكوابح لا تقتصر على هيمنة الدولة على الاقتصاد وثقل الانظمة والضوابط التي تعطل المبادرة وتحاصر نشاط القطاع الخاص. فإلى جانب ذلك، تعمل الأطر والبنى الاجتماعية والمؤسسية والثقافية ما قبل الرأسمالية. وينبغي الاّ يغيب عن ذهننا أن الوحدة الأساسية في اقتصاد السوق هي حرية الفرد في اتخاذ قراراته وفق منطق عقلاني (Homus economicus). ولا شك أن فاعلية آليات السوق وكفاءته تتأثر سلباً عندما يطغى التفكير والسلوك الجمعيين.

2- مضمون ومعوقات إعادة الهيكلة الاقتصادية

يجب أن لا يغيب عن التحليل أن القوى المحركة لهذه المرحلة الانتقالية، بمفهومها الواسع الذي يشمل جميع التحولات التي تندرج في سياق فتح الطريق أمام تطور العلاقات الرأسمالية، ليست داخلية فقط، وإنما تأتي أيضاً من الخارج عبر التدخلات والضغوط الدولية. وهذه تأخذ شكل مساعدات ومنح وبرامج اقتصادية وتأهيلية مختلفة تقدم في سياق تكريس منطق وآليات السوق، ولكن الأهم هو الدور الذي تمارسه المنظمات الدولية، وخصوصاً صندوق النقد الدولي الذي اوكلت اليه مهمة الاشراف على تنفيذ برنامج الاصلاحات الاقتصادية التي يتوجب على الدولة العراقية القيام بموجب الالتزامات الاقتصادية والمالية المترتبة عليها في إطار اتفاقية SBA المبرمة في 23 /11/ 2005. وكما هو معروف كانت هذه الاتفاقية جزءاً من متطلبات اتفاقية نادي باريس المبرمة في 21/11/2004 لغرض خفض الديون العراقية، مما يمنحها قوة ضغط كبيرة على صناعة القرار في مجال السياسة الاقتصادية العراقية. وتهدف هذه الاتفاقية إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي وخلق شروط النمو المستدام عبر تحقيق المفردات التالية :

تحقيق الاستقرار النقدي من خلال السيطرة على المعروض النقدي عبر آليتي سعر الفائدة وسعر الصرف التي تقع ضمن مسؤولية البنك المركزي، والعمل على ضبط وتائر نمو الانفاق الحكومي. السيطرة على التضخم وخفض معدلاته، من خلال آليات وأدوات السياسة النقدية من ناحية، وكذلك التأثير على أسواق السلع والخدمات.

إزالة التشويهات في نظام الأسعار وخصوصاً، من خلال تخفيض الدعم الحكومي للسلع والخدمات، وخصوصاً ذلك الذي يقدم للعوامل الداخلة في الانتاج، وإزالة ما يعيق التحديد والتذبذب الحر للأسعار. العمل على محاربة التهريب، وخصوصاً للمشتقات النفطية عبر رفع أسعار تدريجياً لتقارب أسعار دول الجوار.

ترشيد المالية العامة عبر خفض المصاريف والنفقات التحويلية والتوزيعية، كالدعم الحكومي ومراجعة نظام البطاقة التموينية بما يحقق خفض عبئها على المالية العامة. والاجراءات المقترحة متنوعة، بعضها يشمل تقليص نطاق شمولها لتركز على ذوي الحاجة، وتقليل مفرداتها، ورفع كفاءة آلية توزيعها، والعمل على تحويلها إلى بدلات نقدية. ويندرج في هذا السياق برنامج خصخصة الشركات العامة للدولة.

تطوير دور الجهاز المصرفي

تحسين الحاكمية على صعيد نظام الادارة العامة والادارة الاقتصادية (محاربة الفساد، التخطيط، إحالة المناقصات،...)

إن حصيلة هذه الاصلاحات هي تفعيل آليات السوق وإزالة التشوهات من نظام الأسعار، وتحقيق بيئة ملائمة لحركة رؤوس الأموال وللاستثمار، وفسح المجال للقطاع الخاص ليكون المحرك الرئيس للنشاط الاقتصادي. وبالتالي رفع مستوى كفاءة وأداء الاقتصاد العراقي.
وملاحظة أولى في هذا الشأن، وقد تبدو كمفارقة، هي أن صندوق النقد الدولي يعنى بالأمد القصير، في حين يتولى البنك القضايا ذات الأمد المتوسط والطويل. فللأول دور أساس في تحقيق سياسات الاستقرار الاقتصادي، أما البنك الدولي فمهمته في المساعدة على تحقيق المشاريع التي توفر شروط ومستلزمات التنمية وفق قدرات الانتاج في بلد ما. كمشاريع البنى التحتية وتأهيل الموارد البشرية. أي أن أهداف ونشاطات البنك توثر على الهياكل الانتاجية، وبالتالي يفترض أن يتولى الدور الرئيس في عمليات إعادة الهيكلة، في حين أن المهمة تولى بالأساس إلى صندوق النقد الدولي.
ولكن الأهم في الموضوع يتصل بشروط نجاح أي برنامج إعادة هيكلة اقتصادية واي سياسة اقتصادية ذات آثار اجتماعية واسعة. فلمثل هذه البرامج تكلفة اجتماعية في المرحلة الانتقالية ولحين أن تبدأ ثمارها بالظهور، فضلاً عن أن لأي تغيير هيكلي آثار على نسق توزيع الثرورة والدخل في المجتمع. لذا ما يؤمن نجاح برنامج التغيير الهيكلي هو تحقيق قدر من التوافق والاجماع حوله. وهذه مهمة ذات طابع سياسي-اجتماعي وليس اقتصاديا فقط. وإذا وجدت شرائح اجتماعية واسعة ومؤثرة في تطبيق البرنامج ما يزيد من صعوباتها الاقتصادية ويسلب منها حقوقا اقتصادية اكتسبتها ويضاعف من حالة عدم اليقين والقلق، فإنها ستواجه البرنامج بمعارضة وبحركات احتجاجية تتخذ أشكالاً مختلفة. ومن هنا أهمية أن تخضع مثل هذه البرامج لنقاش الواسع، وخصوصاً من قبل ممثلي الشعب في مجلس النواب وكذلك من قبل ممثلي مختلف القوى الالاجتماعية، كممثلي العمال وأرباب العمل ومنظمات المجتمع المدني، إضافة إلى مجالس المحافظات وغيرها من الأطر. وتؤكد تجارب مثل هذه البرامج في البلدان الأخرى هذه الحقيقة.
وفي حالة العراق، لا شك أن التدابير والمشاريع التي تتعلق بالبطاقة التموينية والدعم الحكومي لأسعار المشتقات الحكومية، وخصخصة الشركات الحكومية تندرج ضمن المسائل التي يجب أن تخضع للنقاش العام تحقيقاً للقناعات المشتركة.
ولأجل أن تتوضح الأهداف النهائية لأي اصلاح، من الضروري أن تندرج في إطار استراتيجية تنمية وطنية متفق عليها. وقد أعلن العراق فعلاً منذ عام 2004 عدة استراتيجيات تنمية وطنية، آخرها استراتيجية التنمية الوطنية للاعوام 2013-2017، تحدد ألأولويات الطويلة الأمد لإعادة الإعمار والاصلاح. وهي تقوم على رؤية يلعب فبها القطاع الخاص دور المحرك الرئيس ويسنده قطاع عام فاعل وشفاف. وثمة حاجة لمناقشة هذه الاستراتيجية مجدداً مع إضافة استراتيجية قطاعية لها. والنقاش الجديد ضروري لكي يتحقق أوسع إجماع بشأن خياراتها، وإن اقتضى الأمر مراجعتها، وكذلك إغناؤها بتصورات متعددة حول مضامين الاصلاح المطلوبة. وقد برزت الحاجة لمثل هذا النقاش، وتحديداً لوجود خطة استراتيجية، عند مناقشة مشروع الميزانية في مجلس النواب في الأسابيع الأخيرة. ولجميع هذه القضايا دور مقرر وحاسم في شكل وأسس اندماجنا بالاقتصاد العالمي، وموقعنا فيه.

3- تنويع القاعدة الانتاجية الاقتصادية

لم تخل أية خطة اقتصادية استراتيجية في العراق ومنذ سبعينيات القرن الماضي، من هدف تقليل الاعتماد على النفط وتنويع القاعدة الانتاجية. ولكننا اليوم أكثر اعتماداً على النفط من أي وقت مضى، فهو يمثل أكثر من90 بالمائة من موارد الموازنة العامة وحوالي 70 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي، و98 بالمائة من الصادرات.
وأسباب هذا الفشل يعود قسط كبير منها إلى السياسات الخاطئة التي اعتمدت في التصرف بأموال العائدات النفطية والسماح لآليات الريع النفطي وآثاره الاقتصادية- الاجتماعية بأن تفعل فعلها في الاقتصاد والمجتمع والمؤسسات، بحيث تحول الأقتصاد العراقي إلى اقتصاد ريعي، انحسرت فيه الأنشطة الانتاجية، واستفحلت فيه تلك الأنشطة التي تبحث للاستحواذ على حصة أكبر من الريع دونما خلق قيمة مضافة للاقتصاد الوطني. ولنتوقف قليلاً عند مفهوم الاقتصاد الريعي والدولة الريعية.

أ‌- مفهوم الاقتصاد الريعي والدولة الريعية

شهدت معظم البلدان المصدرة للنفط، مجموعة من الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السلبية المترابطة اُصطلح على تسميتها "بالآثار المنحرفة للريع(PERVERT EFFECTS) " كالهدر والتضخم وارتفاع أسعار صرف عملاتها وتنامي الفوارق الاجتماعية والركود في البنى السياسية وصعوبة تحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية وتضخم الأجهزة البيروقراطية وانحسار الإنتاج الزراعي وانتشار السلوكيات الاستهلاكية الريعية واستشراء الفساد. وفي عام 1977 أطلقت مجلة الايكونومست البريطانية تعبير "المرض الهولندي"، نسبة إلى تأثير إنتاج الغاز في بحر الشمال على الاقتصاد الهولندي، على مجموعة الظواهر المعيقة لنمو الاقتصاد الوطني التي تنجم عن ارتفاع كبير ومفاجئ في العوائد الآتية من الخارج والتي تستلمها وتتصرف بها الدولة.
وفي جميع هذه الحالات اعتبرت هذه البلدان "ريعية" (RENTIER STATE) أي تلك الدولة التي تتلقى على أساس منتظم مبالغ مهمة من الريع الخارجي، ويقصد بالريع الخارجي العوائد يدفعها أفراد، أو شركات أو حكومات أجنبية إلى أفراد أو إلى شركات أو إلى حكومات بلد معين. ونلاحظ بان هذا التعريف للريع لا يتعلق فقط بالريع النفطي، وإنما لا يشترط أن تحصل الدولة على الريع لتكون دولة ريعية، وان كانت الحالة الأكثر انتشارا هي سيطرة الدولة على إيراد الريع سواء كان نفطيا أم وارد تصدير مواد أولية أخرى.
ويلاحظ بان هذا التعريف للريع وللدولة الريعية لا يتناول الريع الاقتصادي الداخلي، الذي لا يقتصر مصدره على الربح الاستثنائي الذي تتيحه القيود الحكومية لبعض الشرائح والأنشطة الاقتصادية، كالتقييدات على الاستيراد مثلا التي تسمح للتجار الحاصلين على إجازات الاستيراد ان يحققوا أرباحا احتكارية غالبا ما يضطرون الى التخلي عن جزء منها الى مسؤولي الدولة على شكل رشاوى، وإنما يشمل أيضا الإتاوات التي تتم "جبايتها" بالعنف أو بالتهديد بالعنف من قبل الدولة، أو بعض الأجهزة الحكومية أو شبه الحكومية أو التي تحظى بحماية من الأوساط المتنفذة في الدولة.
وينطبق مفهوم الاقتصاد الريعي على ذلك الاقتصاد الذي يعتمد أو يستند بصورة جوهرية على الانفاق الحكومي وحيث يلعب الريع دورا أساسيا فيه. وفي هذا السياق، يستخدم المفهوم العام للريع الذي يطلق على كل دخل لا يقابله نشاط إنتاجي من طرف الجهة التي تتلقاه كما ان حجم هذا الدخل ووتيرة تدفقه لا يرتبط مباشرة بنشاط الجهة المستفيدة منه. فمن الخصائص المميزة للدخل الريعي انفصام العلاقة بين العمل ومردوده، وتجد هذه السمة تعبيراتها الملموسة في ضعف و تضاؤل دخل النشاطات المنتجة مقارنة بالدخول التي تدرها النشاطات القائمة على المضاربة (في العقار و الأوراق المالية والعملة) والوساطات التي تدر عمولات مجزية والتجارة المستندة الى موقع احتكاري أو شبه احتكاري في السوق. و يعتبر الاقتصاد الريعي "الشكل المثالي" لاقتصاد التداول، إذ يتنافس الأفراد والمجموعات، وحتى الدولة، من اجل السيطرة على الريع. وتكاد تكون معظم النشاطات الاقتصادية وسيلة لتأمين تدوير الدخل أو تحويله عوضا عن ان تكون محكومة بسلوكية ذات طبيعة إنتاجية تخلق قيمة مضافة للاقتصاد.
وفي حالة العراق، تضافرت تلك الظاهرة التي تقترن عادة بالاقتصاد الريعي مع السياسات الهوجاء المدمرة للنظام البائد لتجعل منه اقتصاداً مأزوماً تعطلت فيه مفاعيل النمو والتطور.

ب- كيفية الحد من الآثار السلبية للريع النفطي

ويساعد فهم آليات الريع وتأثيراتها في رسم السياسات الاقتصادية الصائبة. فالريع النفطي يتخذ شكل تدفق موارد بالعملة الصعبة تدخل الاقتصاد العراقي وتؤثر في سياق آلية لسنا بصدد بحث تفاصيلها، على سعر صرف الدينار وقيمته الفعلية، ومن ثم على الأسعار النسبية بين القطاعات الاقتصادية المختلفة وبشكل في غير صالح القطاعات الانتاجية المفتوحة للمنافسة الدولية. ويؤدي ذلك في النهاية إلى انتقال الموارد إلى القطاعات المحمية طبيعياً من المنافسة، كقطاع الصناعات الانشائية، وخدمات النقل الداخلي وغيرها، وهذا ما يتجلى في الميل إلى انحسار النشاطات الصناعية والزراعية وغيرها. كما يؤثر الريع على السلوكية الاجتماعية ويساعد على انتشار المحسوبية
والفساد. كما أن استحواذ صاحب السلطة السياسية على الريع يمنحه قوة اقتصادية كبيرة تشجع الميول الاستبدادية وتضخم أجهزة الدولة وتغولها. لذا يعتبر الريع عنصراً معيقاً للديمقراطية ما لم توضع الضوابط المؤسسية الديمقراطية لحسن التصرف به.
ومن الناحية الاقتصادية، يعتبر النفط أصلاً اقتصادياً ناضباً، يجب استخدامه بطريقة تسمح بتحويله إلى اصول انتاجية متجددة وليس التصرف به كانفاق جاري أو على سلع غير منتجة. لذلك يفترض أن يخصص جل العائد النفطي للأغراض الاستثمارية. وهذا ما جرى في ظل مجلس الاعمار في الخمسينيات، وأوائل الستينيات عندما خصص 75 ومن ثم 50 بالمائة منها إلى الميزانية الاستثمارية.
إن معالجة الريع يجب أن تتم على عدة مستويات :
1- احتواء آثاره على سعر الصرف وقيمة الدينار، وذلك عبر سياسة نقدية مناسبة. واللافت في هذا الشأن أن قرار قيمة الدينار يذهب بذات اتجاه فعل الريع بدلا من أن يعادله أو يضبطه. فمن شأن الرفع المقصود لقيمة الدينار العراقي أن يزيد من الانفاق الاستهلاكي على السلع المستوردة ويرفع الأسعار النسبية للسلع المنتجة محلياً ويضر بالتالي بقدرتها التافسية.
2- إخضاع قرار التصرف بالعائد النفطي إلى الرقابة الديمقراطية وعزله قدر الامكان عن المؤثرات السياسية الظرفية والحسابات السياسية الضيقة.
3- العمل على تخصيص نسب متزايدة منه للموازنة الاستثمارية، وتأمين اوسع انتفاع اجتماعي منه. وفي هذا الخصوص، ينص الدستور على أن الثروة النفطية ملك للشعب. ويدور نقاش حول الترجمة العملية لهذا النص. فمن يملك هذه الثروة؟ أهي الدولة المفوضة من قبل الشعب؟ أم أن يسمح بالامتلاك الخاص للحقول النفطية وأن توزع العائدات للمواطنين؟ وما هي الصيغة الأفضل للتوزيع في ظروف العراق؟ من خلال الموازنة العامة أم مباشرة على المواطنين وفق صيغ مختلفة؟. وكيف يجري تقاسم الثروة بين المركز والأقاليم؟ بعض هذه الأسئلة تجد عناصر الإجابة عليها في الدستور وأخرى بحاجة إلى بحث ونقاش، وفي هذا السياق يعتبر انشاء صناديق الاجيال القامة والصناديق الاستثمارية المتخصصة وصناديق الضمان الاجتماعي من الافكار الهامة التي تستوجب ان يولي المشرعون الانتباه والاهتمام الشديدين لها.
الحل الجذري لمواجهة آثار الريع النفطي يكمن في إزالة المعوقات أمام قيام ونمو الأنشطة الانتاجية، في الصناعة والزراعة والخدمات المتطورة وغيرها. وما يجب أن تقرره الاستراتيجية التنموية، هو فيما إذا كان التوجه لإطلاق العنان لاقتصاد السوق وتحرير التجارة كفيل بتحقيق هذا التنوع في القاعدة الاقتصادية، وما هو الدور الذي يجب أن تنهض به الدولة؟ والسؤال الأدق في هذا الشأن، ما هي التوليفة الأنسب بين القطاعين الخاص والعام، إضافة إلى القطاعات الأخرى، المختلط، والتعاوني، لكي نحفز الأنشطة الانتاجية، وتمكين المنتجين العراقيين من تطوير انتاجهم وانتاجيتهم ليكونوا قادرين على مواجهة المنافسة الدولية؟
يقال أن طرح السؤال المناسب هو نصف الجواب، لذا من الضروري ان نعمل على طرح الأسئلة المناسبة، وخصوصاً فيما يتعلق بأمر دور الدولة الاقتصادي، وحدود وإمكانيات آليات السوق، وأشكال الملكية المختلفة، والعلاقة بين المركزية واللامركزية، وغيرها.
إن الانتقال لاقتصاد السوق تعبير فني يبدو حياديا في مضامينه الاجتماعية، ويركز على توفير شروط الكفاءة في استخدام وتوجيه الموارد الاقتصادية. ولكنه بقدر ما يبدو جذاباً ومتماسكاً منطقياً في بنائه المفهومي المجرد، تثور عند الانتقال به إلى الواقع العياني طائفة من القضايا التي تختلف الآراء بشأنها حسب المنطلقات الفكرية-الايديولجية ومصالح القوى والفئات الاجتماعية التي تعبر عنها. فالعلاقة بين الدولة والسوق ليست بالصيغة التعارضية الشديدة التي تطرح. ففي الظروف الحالية، لا يوجد في العراق سوق تنطبق عليه الشروط الضرورية ليكون تنافسياً وكفوءاً في توجيه الموارد. فإضافة إلى غياب الأمن، تغيب الشفافية، والتساوي في الظروف بين الفاعلين الاقتصاديين، والتشوه في هيكل الأسعار. ويلعب دور الدولة في بناء المؤسسة وتوفير الأطر التشريعية والادارية المنظمة دوراً أساسياً لتمكين آلية السوق من ممارسة دورها. أما بصدد دور الدولة في حيز الانتاج، فيجيب عن ذلك البنك الدولي نفسه إذ يقول في احد تقاريره بهذا الشأن، إن العديد من الشركات المملوكة للدولة تمتلك مقومات استعادة ربحيتها وستظل مصدراً رئيسياً لخلق فرص عمل جديدة. أما بشأن القطاع الخاص، فكل من له دراية ومعرفة دقيقة بالاقتصاد العراقي وواقع القطاع الخاص، يقر بأن الأخير لايمتلك إمكانية أن يصبح المحرك الرئيس للاقتصاد الوطني وعماد تنميته. ولكن هذه الامكانية ستتطور ولا شك مستقبلاً، بالارتباط مع النجاح في إعادة الأمن والاستقرار وتطوير البناء المؤسسي وتحسين الادارة. وفي هذا السياق ستكون الشراكة بين القطاعين الخاص والعام بصيغ مختلفة، بعضها سيستحدث، إحدى مسالك الإسراع في تحقيق التغييرات البنيوية المطلوبة. ولكن لا يمكن الاستغناء عن دور الدولة، ليس بالضرورة عن طريق الامتلاك المباشر، في تمكين العراق من بناء قدراته الذاتية في مجالات تتطلب رؤوس أموال كبيرة وذات مستوى مخاطرة تردع القطاع الخاص. وينطبق ذلك على البنى التحتية والصناعات الاستراتيجية والبحث والتطوير وغيرها.