المنبرالحر

اغتراب بدوي / طه رشيد

يحكى ان بدويا زار بغداد، وكانت الزيارة المرة الاولى التي يرى فيها مدينة بشوارع مغطاة بالاسفلت وبيوتاً مرصوصة بالحجارة .. راعه وهو يشاهد بنايات مركبة بعضها فوق بعض وسيارات تمر وسط الطريق .. كل شيء في المدينة كان مدهشاً وغريباً بالنسبة له .
ولكن هذا الاحساس بالاغتراب عن المكان، لم يمنعه من السؤال عن اشياء اكثر غرابة في هذه المدينة الحجرية. يسأل عما تعنيه السينما ( كانت بغداد حديثة العهد بهذا النوع من الترفيه )، شرحوا له ماذا تعني السينما وحدثوه عن صالتها الكبيرة التي تتالف من طابقين وفيها غرف خاصة للعوائل تسمى « لوج» وهي غالبا ما تغص بالناس ليشاهد الجميع نفس الصور المتحركة التي تسمى فيلما . تساءل البدوي ان كانت القاعة اكبر من مضيف الشيخ حمود !
قرر البدوي الذهاب للسينما. حينما دخل اندهش اولا لهذا العدد الكبير من البشر. لم يكتف بـ «السلام عليكم « ، بل راح يصافح الجالسين صغارا وكبارا، ولان هناك شباب « بغادّة» شياطين أعجبهم منظر البدوي ، نسوا الفيلم، وراحوا يبالغون برد التحية واخذه بالاحضان والتقبيل من الاكتاف. انتهى الفيلم وخرج مع الخارجين عائدا الى خيمته وهو لم يفهم شيئا ولم ير فيلما..
هذا البدوي الغريب عن المكان يشبه الى حد كبير «المغترب» الذي يعود للمرة الاولى للوطن بعد عقود من الغياب، ليرى كل شيء متغيراً، ومهما فتش في الذاكرة لا يجد ما كان يتمنى ان يراه ، مدينة او بشرا. علما ان اجازته لا تزيد عن شهر يقضيه في تحية الضيوف من اقاربه واصدقائه او بتلبية دعواتهم ، يحضن هذا ويبكي مع تلك . بين فينة واخرى يسرق منهم بعض الوقت كي يبدأ معاناة المراجعة لاستعادة اوراقه الشخصية من جنسية وشهادة جنسية وبطاقة سكن وبطاقة التموينية واشد ما يزعجه هو تسمية هذه الاوراق بالصداميات !
يذهب بعد ذلك لدوائر الهجرة والمهجرين، وفي مخيلته انهم سيستقبلونه بسجادة حمراء وباقة من الزهور ! كيف لا وهو الذي ترك خلفه وطنا ثانيا آمنا ينجز فيه جل معاملاته الرسمية وهو جالس في بيته على الانترنيت. واذا به يرى الطوابير والعراك على الشباك والمراجعة يوم واحد في الاسبوع. سوء استقبال مقرف، واسئلة اكثر قرفا ، وتنتهي الاجازة. ويمددها اسبوعا آخر او اسبوعين دون ان يحقق شيئا يذكر. يعود القهقرى لموطنه الاول معززا مكرما ، لكنه حزين على حاله وحال الوطن الذي ينخره الفساد . وحاله يشبه حال صاحبنا البدوي الذي لم ير فيلما ولم يفهم شيئا.