المنبرالحر

ثمانون عاما من اﻷلتزام الوطني واﻹنساني/ د. علي الخالدي

منح عضوية الحزب من اﻷمور ، التي تفرض نفسها على الذاكرة ولا تنسى ،باعتبارها نقطة تحول في حياة العضو قائمة على اسس أخلاقية والتزامات نوعية في نكرات الذات ، لا تخلو من التضحية والفداء ، واﻹعتزاز بالكبر في عيون الآخرين ، فاليوم الذي منح به بيكاسو عضوية الحزب الشيوعي الفرنسي مثلا ، قال لرفاقه الآن وصلت الى نبع الماء ، بقي هذا القول عالقا في ذهن من سمع به ليكون مثالا يحتذى به بعد نيله العضوية ، في التمييز واﻹبداع في الحياة ،وتطوير الذات في مجالات البحث والعمل ﻷسعاد الآخرين ، وهذا ما دعا رجل الدين المغاربي الشيخ عبد الحميد بن باديس بوصف الشيوعية بخميرة اﻷرض.
لم تكن تلك اﻷقوال مبالغ بها ، فقد زكتها الحياة وعمدتها دماء الشيوعيين اينما وجدوا في سوح النضال من أجل إحقاق الحق وتطبيق العدالة اﻹجتماعية على أمتداد الكرة اﻷرضية ، و من أجل أن تكون أوطانهم حرة وشعوبهم سعيدة ، لذا لقبوا بملح تربة أﻷرض . فتحت خيمة الشيوعية ينضوي كل فئات الشعب من مختلف طبقاته اﻷجتماعية واﻹنتماءات القومية والدينية.
هذه الخصال ﻷ يختلف بها الحزب الشيوعي العراقي . فمنذ ولادته قبل ثمانين عاما ، من رحم الشعب ، جسد ما فات ذكره بشعاره اﻷستراتيجي ، وطن حر وشعب سعيد ، هذا الشعار شكل مسيرته النضالية اللاحقة ، كمحصلة نهائية ﻹتجاهاته الفكرية وتحركاته العملية المتسلحة بفكر قوانين أستندت على نواميس الطبيعة وحركة التطور اﻹجتماعي ، آخذا بعين اﻷعتبار حاجات الحياة المادية لخصوصية المجتمعات ، وفي حدود اﻹمكانيات الحقيقية . لذا وضع أمام أعضائه مهمات تُجَدد باستمرار ، لتكون متماهية مع الظروف التي تستجد في أوضاع الشعب اﻷقتصادية والسياسية واﻹجتماعية ، مشيرا لكيفية التكيف معها ، وإغنائها إذا ما رأى ، أنها تصب في مصلحة الشعب وخدمة الوطن ، ضمن تلك القوانين ( قوانين التطور اﻹجتماعي ) ، وما دام نهج للحزب هذا يتجاوب والمصالح الحيوية للشعب فقد صَيَرته قوة حاسمة ومحركة لحركة التطور اﻹجتماعي والسياسي خلال عهود جميع اﻷنظمة الرجعية والدكتاتورية .
إن خط سيره الحالي هو أمتداد لخطه الوطني واﻹنساني الذي تبلور في تعميق المفاهيم الديمقراطية وتطبيق العدالة اﻹجتماعية المغيبة ، لذا وقف ضد كل محاولة سعت الى اﻷلتفاف حول مغزى التغيير بعد سقوط الصنم ، وعرى المغزى الحقيقي الذي يقف وراءها ، فاضحا القوى والفئات ، التي تسلقت وبطرق مختلفة وخاصة غير الشرعية منها، الى موقع القرار ، و التي أتاحها لها نهج المحاصصة الطائفية المقيت وأس بلاء بلادنا.
إن مواقف الحزب هذه مستمرة بمنتهى العقلانية والواقعية والمرونة المشفوعة في العمل مع كل من يضع في أهدافه خدمة الشعب والوطن مطبقا مقولة مؤسسه الخالد فهد "قووا تنظيمكم قووا تنظيم الحركة الوطنية" ، بعيدا عن الهيمنة والتسلط واﻷنانية ، داعيا الى توحيد كل القوى الوطنية العابرة للطوائف ، في إطار تيار ديمقراطي ﻷجل التغيير ، لمعرفته المسبقة من أن ذلك هو السبيل الوحيد الذي يوحد التواصل مع الجماهير، ويعبئها ﻷجل التغيير في الثلاثين من نيسان المقبل.
إن نزاهة الشيوعيين وتفانيهم بخدمة الوطن اشاد بها حتى اعدائهم ومن ضمنهم نوري السعيد , العدو اللدود للشيوعية ، فقد أجاب على استغراب البعض من تعيين وزير مالية قريب من الشيوعيين: إن الشيوعيين نزيهون لا يسرقون . وكان الدكتاتور الذي احتفلنا بقبر نظامه هذه الايام يخافهم لعمق ثقافتهم ، واصفا اياهم بالصعاليك لانهم لا يسرقون قوت الشعب . نعم ..إنهم مثال ناصع للوطنية والنزاهة ، ولم لا ﻷن جلهم شرب من نفس المنبع وتربوا بنفس الاسلوب والطريقة .

لقد كُتب على الشوعيين على امتداد تاريخ نضالهم أن يكونوا محرقة لكل اﻷنظمة الرجعية والدكتاتورية , ومع هذا أضحوا حمامات سلام يرفضون لغة العنف ، ويتثقفون بحب الوطن وعشقه ، وهم أكثر من حارب الطغيان والانظمة التي اضطهدت الشعب العراقي , ومع هذا لا زالت مفردات لغة معاداتهم تحتل عقول الكثير من مَن يدعون الوطنية ، يطلقونها بين حين وآخر ، وينكرون عليه شهداءه الذين ربطوا حياتهم بروحية اﻹنتماء للعراق و بمشروع الشهادة من أجله ، حتى في الاجواء التي اتصفت بلغة القتل والشعوذة .
لقد ساهمت جماهيرالحزب من شغيلة اليد والفكر وفلاحين في تطوير ثقافة المجتمع العراقي , فمن اوساطهم خرج العديد من العلماء المرموقين والكتاب والفنانين ، وغيرهم من رجال الثقافة والسياسة والصحافة ، الذين اغنوا التراث العراقي بابداعهم المجسد لقيمه الحضارية و اﻷنسانية , ذلك لانهم إرتووا من كنز الابداع الشعبي العراقي الذي لا ينضب ، وﻷن الحزب كان كذلك فلم تستطع وحوش اﻷنظمة الرجعية والدكتاتورية ان تقتلع جذوره من تربة الوطن , وتعزله عن ساحة النضال.

إن سر تمتعه بروح الشباب رغم عبوره الثمانين عاما يكمن بمرجعته للشعب ، منه يستمد قوته وعزمه و ديمومته ، وعليه يعقد آماله في التغيير المنتظر القادر على إيقاف كوابح الديمقراطية ، وتقليص رقعة الفقر والفوارق الطبقية بين الناس ، ويضمن عملية اعادة إعتبار للهوية الوطنية ، هذه المهمة الشاقة التي تبعد الناس عن تبني الهويات الفرعية ، وعن اقامة مراسيم عزاء فقدان الطموح في إشاعة الديمقراطية التي تُيَسر و لا تعسر.