المنبرالحر

مؤامرة، فلتسقط المؤامرة: على هامش الأحداث الإرهابية الأخيرة في فرنسا / حسين كركوش

كما برزت بعد هجمات 11 ايلول 2001، عادت نظرية المؤامرة للظهور بعد هجمات باريس. مؤيدوها يقولون إن الهجمات التي حدثت كان مخططا لها والهدف منها الإيقاع بالمسلمين وبالعرب. وإن لم تصدقوا، يقول هولاء: أنظروا كيف تصدر نتنياهو تظاهرة باريس.
أليس تواجده دليلا لا يدحض ؟ وبالطبع، سوف لن يتوقف هولاء عند حضور نتنياهو فقط، إنما سيفعلون الأعاجيب لدعم وتعزيز وجهة نظرهم. و ستنشط مخيلتهم و هي تفسر، بفنتازية تفوق الخرافة، كل شاردة وواردة رافقت الهجوم، بطريقة لم ترد حتى في عقول من دبروا الهجمات، والجماعات الإرهابية التي تقف خلفهم.
المعضلة مع هؤلاء المؤامراتيين هي، أنهم يتعاملون مع جميع المشاكل الكبرى في عالمنا باعتبارها الغازاًوأحجيات لا يعرف حلها ألا هم. هم وحدهم من يحتكر العقل و ما عداهم أغبياء. و أصحاب نظرية المؤامرة يتعاملون مع البشر كأدوات و مكائن تشتغل بالأزرار و لا تتقن ألا تطبيق الأوامر. الصراعات السياسية الدولية، مهما كانت معقدة ومتعددة الوجوه، ليس لها، عندهم، سوى تفسير واحد و وحيد، وجانب واحد و وحيد.
لنبدأ، أولا، مع حضور نتنياهو. نتنياهو، وفقا لما نشرته وسائل أعلام فرنسية، ما كان قد قرر القدوم لفرنسا والمشاركة في التظاهرة ألا بعد أن تأكد بأن غريمه و وزير خارجيته، ليبرمان، سيحضر. وعندها قرر هو السفر والمشاركة في التظاهرة حتى يحرم ليبرمان من تصدر المشهد إسرائيليا وفرنسيا ودوليا، ويبعده عن توظيف المشاركة لمصلحته الانتخابية الخاصة. بالطبع، في مصلحة نتنياهو وكل المسؤولين الأسرائليين أن يستفيدوا إلى الحد الأقصى من تداعيات مقتل الفرنسيين اليهود أثر الهجوم ضد المخزن اليهودي. والجميع سمع تصريحات نتنياهو التي طلب فيها من يهود فرنسا المغادرة لإسرائيل والعيش فيها نهائيا. لكن تصريحاته ودعوته لم تجد ترحيبا من السلطات الفرنسية. وجاء الرد الفرنسي على لسان رئيس الوزراء، مانويل فالس، عندما قال: فرنسا بدون يهودها لن تظل فرنسا التي نعرفها. المسؤول الفرنسي أراد أن يقول، أقله تلميحا: أيها اليهود في فرنسا، لا تستمعوا لنصيحة نتنياهو، ففرنسا هي بلدكم الأم، وليست إسرائيل. والإجراءات الجديدة المشددة التي بدأت بتطبيقها الجهات الأمنية الفرنسية لحماية المدارس والمنشآت اليهودية بفرنسا تريد منها فرنسا تبديد مخاوف اليهود الفرنسيين.
أما في ما يخص الطبقة السياسية الفرنسية، فمن السخرية، بل من الخَبل، الاعتقاد بأن المسؤولين الفرنسيين اجتمعوا وتآمروا وقرروا فيما بينهم أن يقع الحادث في بلدهم. ما هي المكاسب التي جنتها فرنسا من الهجوم الإرهابي وهي ما تزال جريحة و تعيش، حكومة وشعبا، على أعصابها ؟ ما المكاسب التي حصلت عليها أجهزتها الأمنية و سمعتها في الحضيض، وسيل الاتهامات ما يزال يتواصل ضدها بالعجز وبالفشل في كشف الهجمات قبل وقوعها ؟ بالتأكيد، ستوظف القوى السياسية الفرنسية الهجمات الإرهابية، كل واحدة لمصلحتها. فالرئيس الاشتراكي، فرانسوا هولند سيحاول رفع نسبة شعبيته المتدنية للحضيض قبل التفجيرات ، وسيعمل ما في وسعه لدفع الفرنسيين للالتفاف حوله باعتبار أن البلاد تواجه ظرفا عصيبا، لا مكان فيه لتصفية الحسابات السياسية الداخلية. واليمين الكلاسيكي المنافس للحزب الاشتراكي، الغارق في مشاكل داخلية قد تؤدي لتفككه، سيحاول إظهار الاشتراكيين بمظهر العاجز الفاشل، ليس فقط على المستوى الاقتصادي إنما أيضا على مستوى توفير الأمن والأمان للفرنسيين. أما حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف فسيواصل تغريده خارج السرب، مصرا، لكي يرفع نسبة شعبيته المتزايدة أصلا، على أن سياسته المتمثلة في مناهضة هجرة الأجانب لفرنسا وطرد ما موجود منهم، هي السياسة الصائبة. وستواصل زعيمة الحزب، ماري لوبين، مناشدتها للفرنسيين: صوتوا لحزبنا في الانتخابات القادمة حتى نفوز و نتمكن من طرد الأجانب المنافسين لكم في لقمة عيشكم، فيتوفر لكم الأمان والرفاه الاقتصادي.
الآن جاء دور الشامتين، الأشقاء بالرضاعة للمؤامراتيين.
يقول الشامتون: تستأهل فرنسا ما أصابها. لتشرب فرنسا من كأس السم نفسه. أليست هي التي غيرت النظام في ليبيا وأخرجت من القمقم المتطرفين الإسلاميين هناك ؟ ألا تشارك فرنسا حاليا بإسقاط النظام السوري، ودعم المتطرفين الإسلاميين ؟ أليست فرنسا نفسها من قتل مليون جزائري ؟
و الاتهامات هنا صحيحة. وبالإمكان إضافة اتهامات أخرى هي أيضا صحيحة. لكن، من أي زمن تم الربط بين الشعوب وحكوماتها ؟ و متى أصبحت الشعوب تُعاقَب بجريرة ما تقترفه الحكومات ؟ لمَ نحتج، ونحن نقبل المنطق الفاسد المشار إليه، أن يتهم الفرنسييون جميع العرب وجميع المسلمين بالإرهاب ؟
على أي حال، ردنا هو الأتي:
ساحة الجمهورية التي انطلقت منها تظاهرة الأحد العارمة، ومعها تظاهرات المدن الفرنسية الأخرى، المنددة بالعمليات الإرهابية التي أرتكبها عرب ومسلمون هي الساحة نفسها وهي المدن الفرنسية نفسها التي انطلقت منها أضخم تظاهرات تشهدها فرنسا في تاريخها عام 2003 لمنع الحرب الأميركية ضد العراق، ودفاعا عن الضحايا الأبرياء من العراقيين من تطالهم نيران الحرب. و مَن شارك في تظاهرات الأحد هم نفسهم الفرنسيون المتظاهرون عام 2003. هل العراق بلد مسلم أم هو إسرائيل ؟ هل العراقيون يهود أم عرب ومسلمون ؟ أنعدد أمثلة أخرى لتعاطف الشعب الفرنسي مع قضايا العرب والمسلمين ؟ هل نشير لجموع الشابات والشباب الفرنسيين عندما كانوا يتوجهون لقطف الزيتون في فلسطين تضامنا مع الشعب الفلسطيني، والحماس الشعبي الفرنسي التضامني الفوار مع القضية الفلسطينية قبل أن تحدث الهجمات الإرهابية ضد برجي التجارة في أميركا وتفسد كل شيء ؟ هل نشير لمواقف سارتر وصحبه الشاجبة المؤيدة لاستقلال الجزائر ؟ هل نتحدث عن مَن شد الرحال من الفرنسيين إلى الجزائر أثناء ثورتها ليلتحق بصفوف جبهة التحرير الجزائرية ؟
هل نتحدث عن ما بات يعرف في فرنسا بحادثة- جليلي- عندما قُتل بباريس في 27 تشرين الاول 1971 مراهق من عائلة جزائرية مهاجرة أسمه بن علي جليلي برصاص حارس بناية فرنسي، وكيف سارع كبار مثقفي فرنسا، سارتر وميشيل فوكو وجيل ديلوز وجان جينة وكلود مورياك وعشرات غيرهم لتأليف اللجنة والدفاع عن المهاجرين الأجانب ؟
ما أشرنا إليه من مواقف سابقة والتظاهرات الفرنسية ضد صحيفة شارلي ابدو تعتمد على موقف مبدئي واحد و منطق واحد وتفكير واحد: الحرية للجميع، وقضية الحريات واحدة لا تتجزأ. إنها مواقف لا تخص الحكومات و لم تُولد البارحة. هي أرث عصور التنوير في فرنسا وغيرها. هي أفكار سبينوزا ولوك ونيوتن وتوماس جيفرسون وفولتير وعمانؤيل كانط وديدرو ومنتسكيو و روسو وهيوم وبيير بايل وعشرات غيرهم.
و رغم أنها أفكار أصبحت أرثا للبشرية لكنها غير قابلة للتصدير كما تُصدر أي سلعة. والشعب الفرنسي لا يريد، ولا غيرهم من شعوب الغرب تريد تصديرها إلينا. نحن من نطالبهم بالتخلي عنها. وهو أمر مستحيل. هل بمقدور إنسان أن يتخلى عن رئته التي يتنفس منها الهواء ؟
ثم، لمَ لا نخلق نحن العرب والمسلمون فلسفة تنويرية عصرية مماثلة، منطلقين من ومضات رائعة في تاريخنا ؟
أليس الشافعي مَن قال: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ؟
أليس علي بن أبي طالب مَن قال: يا مالك أن الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق ؟
أليس علي بن أبي طالب هو مَن قال لجلسائه عندما مر به شيخ مكفوف البصر يسأل الناس الصدقة وعرف أنه مسيحي: استعملتموه حتى متى كبر وعجز منعتوه ! أنفقوا عليه من بيت المال ؟
حسنا، لمَ نعجز عن بناء أفكار تنويرية معاصرة استنادا لما عندنا من شواهد مضيئة، ونروح نرتكب أروع الجرائم بحق الغير، ثم نبررها أو نخفف من وطأتها ؟