المنبرالحر

«قصعة» الوطن الواحد! / طه رشيد

ربما اعرف مثل العديد من أقراني الوضع المزري الذي كان يعيشه الجندي العراقي ابان العهد البائد، وخاصة المكلف بإداء الخدمة الالزامية، اقتصاديا ونفسيا وسياسيا واجتماعيا، والأهم عسكريا.. حيث لم يشكل سوى رقم في سجلات القادة. وكلما رسخت الديكتاتورية جذورها في المجتمع وفي الحكم كلما كان وضع الجندي المكلف أكثر سوءا، حتى في الأنظمة العسكريتارية! أي تلك التي تحاول عسكرة البلاد، والتي تدعي دعمها لمؤسستها العسكرية.
ولم يكمن الخلل في قانون أداء الخدمة الإلزامية، بل الخلل في تطبيقاتها، ويبرز ذلك في التعامل المهين مع الجندي سواء أكمل تعليمه أم لا، وفي مرتبه المتدني الذي لا يغني ولا يسمن! في وعدم احترام المدة القانونية للخدمة وجعلها مفتوحة مثل ما حدث في ثمانينيات القرن الماضي. بالإضافة للمحسوبية الحزبية التي كان يتمتع بها البعض على حساب البعض الآخر !
فلو تم تدارك هذه (الموبقات) في الخدمة الإلزامية لاستطعنا الوصول إلى جيش يساهم في بناء الوطن كما هو الحال في معظم البلدان الاوربية وبعض الدول العربية التي تعتمد الخدمة الإلزامية، كالجزائر التي تحول الجيش فيها إلى جيش للبناء.
كان في حضيرتي (الحضيرة أصغر وحدة في نظام الجيش) ستة جنود وانا سابعهم، أتى كل منا من مدينة مختلفة، من الشمال والوسط والجنوب والغرب. كنت من ديالى ومحسوب على بغداد، وعلي من البصرة، وكمال من كركوك، ومحمد من الناصرية، وعبد المطلب من الموصل، وآخران احدهما ازيدي والثاني صابئي.
لم يسأل أحدنا الآخر عن دينه أو طائفته أو قوميته. لم يسأل أحدنا الآخر هل تمارس طقوساً دينية أم لا؟ هل تكتف يديك إلى صدرك أم تدعهما يتدليان معك حين تصلي؟ كنا نأكل في (قصعة) واحدة، وكنا نؤدي واجباتنا سوية يملؤنا الحب والاحترام المتبادل. كنا نموذجا لعراق مصغر في الحضيرة الكيمياوية داخل المعسكر. ولم تكن حضيرتنا الوحيدة بهذا الشكل داخل الجيش، بل كان عموم الجيش على هذه الشاكلة. صحيح أن غالبية المتطوعين كانوا من الجنوب جنودا وعرفاء ، ولكن غالبية (الانضباطية) من المناطق الغربية ! وهذا تقدير ولائي كانت تسير عليه المؤسسة العسكرية وفق رؤية حزبية ضيقة اعتمدها النظام السابق.
ومع هذا فإن التشكيل العراقي الملون كان واضحا في الجيش وخاصة في جنود الخدمة الإلزامية التي نعتقد أن العودة إليها آخذين بنظر الاعتبار تجاوز سلبيات الماضي، هو خطوة نحو تأسيس جيش عراقي بعيد عن الولاءات الحزبية والطائفية الضيقة التي بدأت تنخر في مفاصل المؤسسة العسكرية. وتشكل الخدمة الإلزامية من جانب آخر عاملا مهما بتشكيل نواة جيش بعيد كل البعد عن التشكيلات الطائفية المسلحة التي نراها اليوم والتي يعتمدها كل الفرقاء، مع جل احترامنا لدماء الشهداء الذين يسقطون على مذبح محاربة داعش والقوى التكفيرية البغيضة.
علينا أن نحدق في المرآة مليا لنرى الصورة الكالحة التي تفرزها مطالب البعض بتشكيل قوى مسلحة على أساس الطائفة او المنطقة بمعناهما الضيق، وليس على أساس الإخلاص للوطن بمعناه العام. تلك القوى التي ستتحول بمرور الزمن واشتداد الأزمات من مدافع عن الوطن إلى مساهم بتمزيقه. حينها سوف لن ينفع الندم أحدا!