المنبرالحر

هل أُصيبت بغداد بهستيريا الفرح، هكذا بين عشية وضحاها ؟ / حسين كركوش

قالت مديرية العلاقات والإعلام في امانة بغداد في بيان إن " خروج اهالي العاصمة بغداد (ليلة 31/12/2015) إلى الاماكن الترفيهية والزوراء والحدائق العامة بمختلف المناطق جاء بأعداد تجاوزت بحسب التقديرات الأولية (4) ملايين شخص للاحتفال بأعياد رأس السنة الميلادية.. وهو التجمع الكرنفالي الاكبر في العالم."
وما قالته أمانة بغداد صحيح جدا. فقد وضعت مواقع أجنبية ( على سبيل المثال: موقع Le Hufington Post) احتفالات بغداد بمناسبة رأس السنة الميلادية لهذا العام في المرتبة الثانية عشر في تسلسل الاحتفالات التي شهدتها عواصم العالم بهذه المناسبة.
كيف نفسر حدوث هذا الطوفان البشري البغدادي و هذه الفعالية الجماهيرية غير المسبوقة، أقله خلال العقد الماضي، أي منذ عام 2003 ؟
لماذا لم تحدث هذه الفعالية الجماهيرية المليونية قبل عشر أو خمس سنوات، أو حتى في العام الماضي ؟
هل تغير مزاج الناس هكذا بين عشية وضحاها ، وهل أن فكرة خروج البغداديين إلى الشوارع عُجنت واختمرت في ليلة واحدة ، أم ان هذا هو المزاج الحقيقي الذي حيل عن التعبير عنه منذ 2003 ، وظل يتراكم ويتراكم ، والآن وجد البغداديون أن الفرصة أصبحت سانحة لتحويل أفكارهم ورغباتهم إلى فعالية مليونية ؟
أولا/ هذا التجمع الجماهيري المليوني هو فعالية عفوية (حرة)، أي لم تحدث تنفيذا لأوامر أو لرغبات أو لتمنيات هذه الجهة أو تلك. ملايين من سكان العاصمة بغداد ضاقوا ذرعا بنمط الحياة اليومية الذي فُرضَ عليهم فرضا منذ 2003، و أرادوا ، بمحض إرادتهم الحرة، أن يتمردوا ضد أجواء الممنوعات الاجتماعية الثقافية العامة السائدة.
ثانيا/ هذا نشاط (مدني). وأعني بمفردة (مدني) معناها الشائع والمتداول في عراق هذه الأيام الذي يعني أي نشاط لا يخضع لاحتكار ولهيمنة ولتوجيه أحزاب الإسلام السياسي ، بكل مذاهبها و أطيافها ومدارسها ، ولا يتناسق مع أيدلوجيتها.
ثالثا/ تزامنَ هذا الكرنفال المليوني (المنفتح) مع هزيمة أكثر الأطراف (انغلاقا) وتعصبا وتزمتا وتوحشا داخل عائلة الإسلام السياسي (أكرر: السياسي) ، أي هزيمة دولة الخلافة الإسلامية وطردها من الرمادي على أيدي الجيش العراقي ، باعتباره مؤسسة وطنية تمثل جميع العراقيين.
رابعا/ هذا الحراك (الاجتماعي) المدني المليوني العفوي حدث بعد الحراك (السياسي) المدني الجماهيري العفوي العارم الذي بدأ في شهر آب الماضي في بغداد ومدن عراقية.
الحراك السياسي الذي انطلق في أب الماضي مهد الطريق للحراك الاجتماعي المليوني الذي حدث في نهاية العام احتفالا ببداية العام الجديد. الحراك السياسي كسر حاجز الخوف (المقدس) عندما أطاح بهالة التقديس التي ظلت سلطة أحزاب الإسلام السياسي تتحصن بها وتبطش تحت رايتها، عن طريق الشعارات التي رفعها المتظاهرون: " باسم الدين باكونا الحرامية " " بوك يا مولاي بوك واحنا حصتنا الضروك".
صحيح، أن زخم تلك التظاهرات السياسية الاحتجاجية قد تراجع عددا، لكن هذا التراجع العددي لا يعني تخليا عن (روح) و عن (جوهر) التظاهرات الاحتجاجية السياسية المدنية التي لا تزال قائمة. التغيير الذي حدث هو ان (وهج) التظاهرات انتقل إلى جبهة جديدة ، هي الجبهة الاجتماعية الثقافية.
فالملايين الذين احتفلوا في عيد رأس السنة لا يتقاطعون في (فلسفتهم) الحياتية مع الآلاف الذين تظاهروا وما زالوا يتظاهرون في ساحات بغداد والمدن الأخرى. لكن هؤلاء و أولئك يلتقون في رفضهم فلسفة (التحريم التعسفي) و (احتكار) الأنشطة العامة التي تتبناها أحزاب الإسلام السياسي بكل أنواعها.
وليس صدفة أن بعض شخصيات الأحزاب الإسلامي التي هاجمت تظاهرات آب و أطلقت وصف (الصعاليك) على المشاركين فيها ، عادت وهاجمت احتفالات رأس السنة الجديدة بذريعة أن هذه الاحتفالات ( بُدعة غربية ليس لها علاقة بالديانة المسيحية وهي تشبه الاحتفالات بما يسمى بعيد الحب "فالنتاين" ، وهي هدر للمال ومصدر للضجيج المزعج وإقلاق لراحة الناس.)
خامسا/ بالطبع، هذا الحضور المليوني ليس فريدا من نوعه (من ناحية العدد)، فقد سبقته طوال السنوات القليلة الماضية مسيرات مليونية كانت تتجه نحو مزارات دينية، وستعقبه أيضا. والفعاليتان لا تناقض أحداهما الأخرى. لكن (الفريد) في تجمع رأس السنة هو ، ان أعداد المشاركين فيه لا يتوزعون على عدة محافظات ، وإنما اقتصر على مدينة واحدة فقط ، هي العاصمة بغداد.
الملاحظة الثانية هي أن المسيرات في المناسبات الدينية يغلب عليها طابع الحزن ، وهو أمر طبيعي انسجاما مع طبيعة المناسبة ، بينما تمت تجمعات رأس السنة بأجواء فرحة راقصة ، أيضا انسجاما مع أجواء (العيد).
الملاحظة الثالثة هي أن احتفالات البغداديين بعيد رأس السنة الميلادية أثبتت من جديد، ولكن هذه المرة بطريقة حشد مليوني، أن الحواجز الكونكريتية، التي كانت قد وُضعت على أساس الفصل المذهبي بين أحياء بغداد، إنما كانت مفتعلة وغير طبيعية وأنها أقيمت في لحظة تاريخية أصبحت من الماضي.
سادسا/ مثلما في تظاهرات ساحة التحرير وبقية المدن ، لم يُرفع في هذا المهرجان المليوني أي شعار ضد الدين ، أي دين ، أو ضد المذهب ، أي مذهب ، أو ضد الأيمان ، أي أيمان ، أو ضد أي قومية أو أثنية ، ولم تُرفع فيه أي شعارات ، من أي نوع. بمعنى أخر ، ضمنيا وبطريقة لا شعورية ، أنه مهرجان لصالح التعددية العراقية: نحن عراقيون نفرح، والفرح لا تحتكره أي جهة عراقية.
سابعا/ هذا الكرنفال المليوني لا يتعارض قط مع الحشود المليونية التي تتجمع في المناسبات الدينية الشيعية والسنية. فالملايين الذين احتفلوا بمناسبة قدوم السنة الميلادية الجديدة هم أنفسهم الذين يشاركون في المناسبات الدينية، الشيعية والسنية.
و الاستنتاج الوحيد ، ربما ، الذي بالإمكان استخلاصه من الحشود المليونية التي تشارك في المناسبات الدينية وتلك التي شاركت في الاحتفال بالعام الجديد هو ، أن هذه الملايين من العراقيين تريد أن تقول لأحزاب الإسلام السياسي، بكل مسمياته:
لكم تفسيركم للدين ، ولنا تفسيرنا. لكم نمط عيشكم ولنا نمط الحياة التي نريده أن يتحقق، وأنتم لستم أوصياء علينا ، ولن نخضع بعد اليوم لشروطكم.
لكم أن تبتكروا من أساليب لإخضاعنا وقهرنا، ولنا ما نبتكر من أساليب لإعلان رفضنا لوصايتكم.
إنها إدارة لعملية الصراع الدائر بين أحزاب الإسلام السياسي الحاكمة التي تملك كل شيء وتريد أن تفرض سيطرتها على كل شيء ، وبين الأكثرية المدنية المحكومة العزلاء و الصامتة ، أو التي تبدو صامتة ، التي تريد فرض ارادتها. وهو صراع شديد التعقيد، يحدث في جميع الجبهات و يُدار بوسائل متعددة و مبتكرة.
من الخاسر ومن الرابح حتى الآن ؟
الجواب نجده عندما نقارن كيف كان الحلاق، حتى الحلاق ، كي لا نقول الموسيقي، يخشى أن يمارس مهنته قبل عشر سنوات خوفا من أن يُفجر دكانه ، وبين هذه الحشود المليونية التي سهرت ليلة رأس السنة في نهاية عام 2015 حتى مطلع الفجر على أصوات الموسيقى.