المنبرالحر

قبل أن نفقد الذاكرة.. عن الصادقين المقاومين / احمد عبدالحسين

الاحتجاجات ضدّ الساسة الفاسدين الإرهابيين (إذ الفساد إرهاب أيضاً) منذ 2011 وحتى اليوم، ليست سوى ثمرة نشاط دؤوب ومتفانٍ شارك فيه أغلب مثقفي العراق.
فببطء وطول أناة كانت الثقافة العراقية تقف كلّ يومٍ مقاوِمةً ظلام هؤلاء الارتكاسيين (... ) لتعلن ان للعراق وجهاً آخرَ لا تستطيع اخفاءه طقوسُهم ولا محاصصتهم الدنيئة كأرواحهم.
لم يكد يمرّ يوم دون أن يكون في بغداد وحدها حدث ثقافيّ تتناقله نشرات الأخبار ليكون ضداً مضيئاً لأخبار هؤلاء .. الكذبة. ولم تمرّ مناسبة إلا واستغلها مثقفو العراق ليعطوا للعالم فرصة أن يرى عراقاً آخر مختلفاً.
أندهش حين أقرأ لأشخاصٍ عجولين قولهم ان "المثقفين لم يفعلوا شيئاً". كلّ أصبوحة شعرية كانتْ بذرة لتظاهرة احتجاج. كلّ ملتقى أدبيّ كان خميرة هتافٍ ضدّ الساسة اللصوص. غداة تفجير شارع المتنبي أحيينا الشارع بأصبوحةٍ قبل أن يعود الشارع معافى وظلّ هذا الشارع علامة تحدٍّ لـ (..) الذين يحكموننا اليوم.
يوم الجمعة جعلناه زمناً ثقافياً بموازاة زمنهم المليء بالكذب والخداع. كل جائزة يحصدها عراقيّ كانتْ مقتلاً لهؤلاء (...) كلّ حفلة للفرقة السيمفونية، كلّ مسرحية، كلّ أغنيةٍ، كل معرض تشكيليّ، هو مقاومة للظلام. بل حتى مجرد لقاء مثقفين اثنين في مقهى، صدقوني، مجرد التقاء مثقفين على استكان شاي أو كوب قهوةٍ كان فعل مقاومة.
.. نشروا الموت على ما ترون، الموت الماديّ الحقيقيّ رعباً وتفجيراً وتقطيع أشلاء وخطفاً واغتيالاً وترهيباً، كما نشروا الموت الماديّ بإهمالهم المدينة وتركها نهباً لأذواقهم .. وأميّتهم وحنينهم الأبديّ إلى الجهل والتخلّف. لكنّ المثقفين العراقيين لم يدخروا وسعاً للعمل بعمقٍ وربما دون تخطيط مسبق منهم على أن يكونوا قلباً نابضاً أبداً بالحياة.
نعم .. ليسوا متفقين على شيء، لكنّ حبّ الحياة، ورؤيتهم للجوهريّ فيها وتغليبه على كل هذا القحط الذي أتى به ذوو الضمائر السود، كان كفيلاً بأن تبقى بغداد حية عصية على .. (ما يريدون).
المثقفون هم من أنقذ بغداد (...) المثقفون بكتبهم، بأصبوحاتهم وأماسيهم، بغنائهم ورقصهم وموسيقاهم ورسمهم ونحتهم. حتى أزياؤهم وألوان قمصانهم وقصات شعورهم ونكاتهم، حتى خلافاتهم وعركاتهم ومماحكاتهم مع بعضهم كان الشيء الحيّ الوحيد في بغداد التي أراد لها (... هؤلاء) أن تصبح أثراً بعد عين.
كانتْ الحرب شرسة، فـ (هم) امتلكوا المال والسلطة والرجال الأغبياء المؤمنين بهم والسلاح، وأهمّ من ذلك امتلكوا ضميراً مليئاً بالوحل لا يتوانى عن القتل من أجل كرشه وإحليله ورصيده في البنوك. ومع ذلك قاومنا، كتبنا عنهم بشراسة، دفعنا دماً (تذكروا هادي المهدي)، تظاهرنا وكان الثمن فصلنا من أعمالنا، هددنا، وهددت عوائلنا، حوربنا في أرزاقنا، وقفنا شوكة في عيونهم، في الصحف والفضائيات ووكالات الأنباء وصبيحة كل جمعة في المتنبي الذي كان ولم يزلْ المعقل الذي تنمو فيه كلّ ظاهرة احتجاجية. كما في ساحة التحرير التي يقود احتجاجاتها مثقفون بارزون.
تذكروا ذلك قبل أن تتعجلوا بكلمة.
تذكروا أن العراق إذا كان حيّاً اليوم، فهو حيّ بفضل مثقفيه.
وإن العراق إذا خرج من براثن المغول المتأسلمين معافى فسيخرج بفضل مثقفيه.
المثقف العراقيّ هو المثقف الوحيد في العالم إذا قال (أشهد اني قاومت) فهو الصادق المصدق.
ـــــــــــــــــ
"مقتطفات"