المنبرالحر

متى يقام نصب وسط بغداد في ذكرى نكبة الكرد الفيلية ايام صدام؟ / حسين كركوش

أتوقع أن يقدم قراء سؤالا مضادا لسؤالي هو: ولم الأكراد الفيلية وحدهم، وهل هم الوحيدون الذين تعرضوا للاضطهاد ؟ جوابي: نعم. أما لماذا ؟ فلأنهم نكبوا بدون أي مبرر، هذا إذا كان للظلم مبرر أصلا. نعرف جميعا أن عسف صدام وظلمه شمل العراقيين كلهم، لكن في كل حالة قد يكون هناك سبب ما يبرر الاضطهاد (أقول جيدا: قد). مثلا، نظام صدام بطش بالحزب الشيوعي العراقي وأراد أن يكسر عموده الفقري ويلحق به هزيمة ساحقة غير مسبوقة، وقد نجح. صدام فعل ذلك لأن الحزب رفض أن يكون مجرد جرم يدور في فلك البعث، فحل به عقاب صدام.
وتعرض أعضاء وأنصار من القيادة المركزية الشيوعية إلى تعذيب قاس في قصر النهاية لأنهم رفضوا تقديم اعترافات وأصروا على رفض نظام صدام. وكردستان أحرق صدام حرثها ونسلها لأن الأكراد واصلوا نضالهم وركبوا من أجل تحقيق مطالبهم القومية كل المراكب الخطرة، بما في ذلك تحالفهم مع دول الجوار طلبا للمساعدة، فحل بهم العقاب الصدامي. وسن صدام قوانين قرقوشية لا مثيل لها لمعاقبة حزب الدعوة لأن الحزب كان ينشط لإسقاط النظام. وتعرضت عائلة آل الحكيم إلى التشريد، وتعقبت المخابرات العراقية السيد مهدي الحكيم وأردته قتيلا في السودان، لأ? آل الحكيم كانوا يجاهدون لإسقاط النظام. واغتالت المخابرات الصدامية الصدرين لأنهما لم يذعنا ولم يقدما ولاء الطاعة لصدام وكانا يشكلان خطرا كبيرا على حكمه. وأمر صدام بتدمير منطقة الدجيل لأن أهلها تصدوا له في وضح النهار وحاولوا قتله. ودبر صدام مذبحة لبعض رفاقه من قادة البعث (عبد الخالق السامرائي وغانم عبد الجليل وعدنان حسين ومحمد عايش وآخرون) على غرار مذبحة القلعة التي نفذها محمد علي باشا للتخلص من المماليك في بداية القرن التاسع عشر، إذ جمعهم صدام داخل قاعة الخلد وغلق الأبواب ثم نادى عليهم واحدا واحدا ليتقدموا?إلى حبل المشنقة، بذريعة الخيانة العظمى والتخابر لصالح سوريا، كما قال صدام. واستدرج صدام صهره حسين كامل فعاد من الأردن ثم أوعز لأفراد في عشيرته فقتلوه ومعه أفراد عائلته، لأن حسين انشق عنه وأحدث شرخا كبيرا في هيبة النظام. وأطعم صدام جثة راجي التكريتي للكلاب، كما تقول الروايات، لاتهامه بتدبير مؤامرة ضده. وتعرض طاهر يحيى وعبد الرحمن البزاز وعبد العزيز العقيلي وشامل السامرائي وزملاء لهم من الحقبة العارفية إلى أحط وأخس أنواع التعذيب في قصر النهاية مباشرة في الأيام التي تلت انقلاب 1968 انتقاما لمشاركتهم في حكم ال?ارفين. واغتالت أجهزة مخابرات صدام الشيخ طالب السهيل لأنه كان يسعى لإسقاط النظام. وأعدم صدام مجموعة من تجار الجملة لأنهم أرادوا أن يثروا على حساب العراقيين، كما أدعى صدام.وكما ترون فأن هذه الجرائم كلها قد يكون هناك يفسر اقدام النظام عليها. لكن ما الذي فعله الأكراد الفيلية حتى حلت بهم نكبة كبرى ؟ ما من ذنب. ما من ذنب أطلاقا. لم يرتكبوا أي جرم ولم يؤخذوا بأي جريرة. الأكراد الفيليون مسالمون بطبعهم. وهم بناة الاقتصاد العراقي. لم يتسلقوا درجات سلم تجارة الشورجة والعراق كله، بل تدرجوا سلالم المهنة واحدة واحدة بجد?رة وبكفاءة عالية وبأناة وبمشقة. لم يعرف عنهم عمليات احتيال أو غش في مهنتهم، ولم تسجل أضابير الدولة العراقية حالة واحد لخيانتهم لبلادهم العراق. وما التقيت واحدا منهم إلا وعينه تدمع عندما يذكر العراق، رغم أن العراق وأذلهم وأبعدهم خارج حدوده.كان الأستاذ المرحوم عبد الغني الخليلي يبكي، وهو في شيخوخته، مثل طفل افتقد أمه، عندما يتحدث عن العراق. كان الخليلي يتحدث عن (شربت زبالة) كأنه يتحدث عن أكسير الحياة. عبد الغني الخليلي، الذي هجره نظام صدام إلى إيران ومات منفيا في صقيع السويد، ظل يحتفظ حتى أيامه الأخيرة بـ ( ?اولي) كان يستخدمه غائب طعمة فرمان عندما زاره مرة في السويد، وظل الخليلي يشم رائحة فرمان في (الخاولي) وينحب. كان منزل عبد الغني الخليلي في بغداد، وهو على أي حال رجل مصرفي، محجة لأدباء العراق. كان بيته بمثابة (مقر) آخر لاتحاد الأدباء. ما كان مساء يمر إلا وبيت عبد الغني الخليلي عامرا بأدباء العراق، من فحلهم الأكبر الجواهري حتى أصغر الفحول. ليتكم جلستم مع الخليلي وسمعتم ما كان يرويه من ملح و طرائف عن صديقه وخله الجواهري. ولم التعجب ؟ عبد الغني الخليلي هو من الدوحة الخليلية التي بزغ منها أيقونة العراق، المؤرخ ا?صحافي القصصي، جعفر الخليلي، مؤلف (هكذا عرفتهم) و (موسوعة العتبات المقدسة) وصاحب مجلة (الهاتف) . وهي الدوحة نفسها التي ظهر منها الشيخ عباس الخليلي أحد قادة ثورة 1918 الذي حكم عليه الأنكليز بالإعدام سوية مع نجم البقال وكاظم صبي، قبل أن يهرب إلى إيران ويتقلد فيها مناصب رفيعة لكنه لم يطق صبرا فعاد إلى موطنه العراق أيام فيصل الأول. هل يستحق أفراد عائلة كهذه أن يبعدوا عن بلادهم العراق !! ألا يستحق عبد الغني الخليلي أن يقام له نصب تذكاري عند مدخل مدينته النجف ؟ ألا يستحق عبد الغني الخليلي أن تنقل الدولة العراقية ?فاته من السويد إلى مكان ولادته في احتفالية مهيبة ؟ أوه. يا لي من إنسان بطر. وهل شيدت الدولة العراقية جامعة عراقية تحمل أسم المندائي عبد الجبار عبد الله ؟ وجامعة أخرى تحمل أسم الأب أنستاس الكرملي؟ وأكاديمية للفنون تحمل أسم صالح الكويتي ؟
هي غصات في القلب وهي حرقة. لكن الحرقة تصبح ذبحة صدرية عندما يصار الحديث عن الأكراد الفيلية. لأن جميع ضحايا النظام السابق وجدوا من يدافع عنهم: شهداء حلبجة أقيم لهم نصب تذكاري وكردستان تعزز تجربتها الفيدرالية والحياة فيها تزدهر يوما بعد آخر، وحزب الدعوة وآل الحكيم والصدريون يتصدرون الحكم والحياة السياسية، والحزب الشيوعي يواصل نشاطه وفعالياته، وشخصيات سياسية نكل بها صدام تصدرت الآن مواقع بارزة. إلا الأكراد الفيلية. مأساتهم لا نظير لها. هجروا إلى إيرن غرباء وظلوا في إيران غرباء وعادوا للعراق وهم غرباء. إيران ل? تقبلهم ولم تمنحهم جنسيتها لأن أكثريتهم لا يجيدون لغة أخرى غير العربية. وعندما عادوا إلى بلدهم الأصلي العراق كان الأطفال قد كبروا وبعضهم ولد هناك وربما تزوجوا من إيرانيات والإناث من إيرانيين وعادوا بلغة وحيدة هي الفارسية. عادوا ووجدوا أنفسهم في العراء بعد أن كانت ممتلكاتهم قد سلبت وبيعت في المزاد وتناقل ملكيتها أشخاص كثر، فما عاد أصحابها الأصليون يعرفون من يخاطبونه لإعادتها. والأحزاب الحاكمة حاليا ؟ هي تتاجر بقضيتهم. تمنحهم (كوتا) في البرلمان. تعين هذا أو ذاك في مناصب حكومية. (تؤسس) لهم هذا الحزب أو ذاك. ه?ه أمور تافهة. ألا يقال إن هناك دولة عراقية هي امتداد للدولة التي تشكلت مطلع القرن الماضي ؟ لتتحمل الدولة الحالية مسؤوليتها الرسمية عن هذه النكبة، وتعوض الأكراد الفيلية بدينار واحد (رمزي) مثلما فعلت دول غيرها عندما اعترفت بمسؤوليتها عن إبادة عرقية لم ترتكبها هي وحدثت قبل عدة عقود على أراضيها لبعض الأعراق ودبرتها حكومات غيرها. لتشيد الدولة العراقية نصبا تذكاريا ضخما تخليدا لهذه النكبة. نصب تذكاري، ليس لنا نحن أبناء اليوم. نصب تذكاري يمر به أولادنا وأحفادنا، نحن العراقيون من غير الأكراد الفيلية والأكراد الفيل?ة أنفسهم ، ليتعلموا عندما يشاهدونه، معاني التسامح والإخاء الوطني والعيش المشترك بحقوق متساوية، وأن الحقوق لن تضيع مهما طال الزمن، وأن العراق يتسع لأبنائه. لكل أبنائه.