المنبرالحر

عن محمد الملا عبد الكريم / جاسم المطير

كثيرا ما يلوّح لي صوت الصديق كاكة حمة شوان تلفونيا من هولندا بالأخبار الطيبة عن نضال الشعب العراقي او عن الصحة وعن الاحوال ، الخاصة والعامة، لكن مكالمته ،يوم امس، كانت على غير العادة. بدا صوته حزينا ليخبرني عن رحيل المناضل محمد الملا عبد الكريم.
منذ حوالي 20 عاما ظلّت صلتي بالراحل عن طريق كاكة حمة نفسه، اتبادل التحايا او المكالمات التلفونية معه بوساطة منه كلما سافر الى السليمانية او كلما كان عائدا منها، يتلو لي سطوراً عن وضع ونشاط ومرض وتحديات محمد الملا عبد الكريم وعمّا يتأسس من لقاءاته معه من أحاديث و ذكريات متصفة بالكرامة والهيبة والغزارة في محبة الشعب العراقي ونضال الحزب الشيوعي العراقي المليء بقوة الاعلان الرمزي العتيد في وحدة النضال العربي – الكردي ضمانا لحياة ديمقراطية حقيقة تتموج بعقول جميع ابناء الشعب العراقي.
عرفتُ الراحل في سجن نقرة السلمان خلال فترة ستينات القرن الماضي. كان المعروف عنه انه يفعل اكثر بكثير مما يتكلم. شدتنا عرى صداقة متينة من اول يوم عملنا في هيئة تحرير الجريدة السجنية . لا ادري لماذا عملنا منذ اليوم الاول في الجريدة بإيقاع متساوق وبتعاون متميز وبطقوس يومية متشابهة. كان الشاب الكردي الغزير المعرفة مصححا لغويا لجريدة تصدر سراً باللغة العربية في نقرة السلمان. اثار استغرابي تنوعه الاثني واللغوي واجادته اللغة العربية وشدة اتساعه بنحوها وقواعدها كافة.. اصبح شريكا فاعلاً بقيادة هيئة التحرير، راغباً ان تكون الجريدة خالية من الاخطاء اللغوية ، كما كان متحمسا قبل بدء العمل اليومي او بنهايته لألقاء محاضرة مكثفة عن خطأ لغويٍ ما او نحويٍ مرّ على احد المحررين. كما ظهر الرجل امامنا بموسوعيته في مختلف جوانب الثقافة.
خارج السجن في أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي كنا نلتقي، بصورة مستمرة، نحن ثلاثة من محرري الجريدة (محمد الملا عبد الكريم ومصطفى عبود وجاسم المطير).. صار امتياز السرور بيننا ان نلتقي على مائدة غداء او عشاء في بيتي بالحارثية او في بيت مصطفى بالمسبح او في بيت الراحل بقناة الجيش. كان مصطفى عبود يطلق عليه لقب ( الارنب ). حين سأل محمد سعيد الصكار عن اسباب تسميته هذه أجابه مصطفى عبود باسما لكنه واثقا: لأنه يملك هدوء الارنب و الفته ووداعته وبساطته. كما ان مشيته سريعة كركضة الارنب ولأن الارنب لا يؤذي احدا ولا يزعل منه احد ولا يتجنبه احد. هذا هو محمد الملا عبد الكريم بمستوى غزير من الثروة الفكرية من دون ادعاء او تظاهر .
ما زلت اتذكر ولعه الشديد بتربية الارانب، لاحقاً، في حديقة بيته القريب من قناة الجيش. كان يؤكد ان هذه التجربة منحته ، كإنسان، دروسا في الهدوء والصبر وفي تجنب الانحراف عن الطريق الصحيح. استطاع ، فعلاً، ان يخلص ارانب بيته من عشوائية العيش السجين بحديقة صغيرة ، مدربا نفسه واياهم على معايير الالفة بمملكة صغيرة كانوا سعداء فيها.
ما ادهشني ، حقا ، انني ما وجدت هذا الانسان غاضبا او صارخا او متذمرا كأن الصراخ والغضب والتذمر ليس من غرائز الانسانية .. ما وجدته زعلانا من احد أصحابه ولا احد من اصدقائه زعلان منه.
حين عمل موظفا بمصلحة التبوغ ببغداد كان يتعمق بنصائحه لي وللمدخنين الآخرين من اصحابه ومعارفه لترك التدخين بعد ان اصبح ضليعا بكل تفاصيل سيئات هذه العادة ونتائجها.
حين عمل في المجمع العلمي العراقي كان يشعرني بأمان المستقبل الثقافي والعلمي ببلاد الرافدين وحضارتها.
حمّلت الصديق كاكة حمة شوان المسافر، اليوم او غدا الى السليمانية مشاعري الخاصة بفقدان هذا الصديق الثمين المعرفة والغزير البحث، الذي كان منطلقا في الحياة كعاصفة من دون صوت وهو يحمل في اعماقه التحدي الثقافي الكبير، مما جعله مرجعا ثقافيا ، كرديا، عربياً، بالصورة الثورية الحقيقية .. بذلك نال امتياز الخلود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 13 – 3 – 2017