فضاءات

سطور من تاريخ الصحافة الشيوعية / حارث الخضري

يبدو الحديث عن الصحافة الشيوعية العراقية مغامرة لذيذة من نوع خاص... فلو علمنا ان ظهور اول صحيفة يسارية اقترن بالسنوات الأولى لقيام الدولة العراقية الحديثة، يصبح من السهل ادراك ان هذا التاريخ قادر على منحنا صورة متكاملة ومثالية عن التاريخ العراقي الحديث بما يشتمل من تطورات اقتصادية واجتماعية وفكرية وسياسية.
من جانب آخر واساسي، لا يمكن للمتابع لخريطة الاعلام العراقي اليوم، الا ان يقر بحقيقة ان لمسات الصحافة الشيوعية واضحة الملامح بشكل لا لبس فيه على اغلب مفاصل الصحافة العراقية.
وتظهر هذه الفكرة جلية لاسيما اذا علمنا ان الصحافة الشيوعية كان لها السبق والريادة على باقي الصحف العراقية في اكثر من جانب خصوصاً فيما يتعلق بشكل المطبوع ومكائن الطباعة.
هذه العوامل وغيرها، تسمح لنا بأن نقول ان هذه الصحافة شكلت مدرسة حقيقية أثرت وستؤثر على مفاصل الاعلام العراقي ولسنوات طويلة.
البدايات
يتفق مؤرخو تاريخ الصحافة العراقية على ان اول صحيفة يسارية ماركسية كانت صحيفة (الصحيفة) الصادرة عن اول حلقة يسارية عراقية بقيادة الماركسي الرائد (حسين الرحال).
ظهر العدد الأول من (الصحيفة) يوم 28 كانون الاول عام 1924... ويبدو ان الصواب قد جانب السيد (فيصل حسون) عندما أرخ بـ18/12/1924 كتاريخ لصدور العدد الاول من الجريدة في كتابه (صحافة العراق بين عامي 1945- 1970)
(الصادر بدون اية اشارة لا لسنة الاصدار ولا لدار نشر).
حققت (الصحيفة) قفزة نوعية آنذاك مقارنة بباقي الصحف فعلى العكس من جميع المطبوعات في تلك المرحلة، لم تسعَ (الصحيفة) للبحث عن الربح المادي، بل ان همها الاول انصب في سعيها لتغيير الناس. ويبدو هذا جليا من خلال معرفتنا انها لم تكن لتركز على الاخبار بذاتها او اخبار الفنانين بقدر تأكيدها على المواضيع ذات الطابع الفكري. ولوحظ عليها ايضاً اهمالاً كثيراً في التعامل مع المواضيع السياسية مقابل اهتمام استثنائي بالظواهر والمشاكل الاجتماعية.
ويتفق المؤرخون ايضاً على ما تميزت به (الصحيفة) من جرأة استثنائية وشجاعة كبيرة في التعبير عن الرأي حتى فيما يخص بعض المواضيع الحساسة اجتماعياً مثل تحرير المرأة.
وقد أسهمت هذه الشجاعة في اغلاق الصحيفة عام 1925 بعد صدور ستة اعداد ورغم الاغلاق عادت للصدور في 13 آيار عام 1927 بجهود (عوني بكر صدقي) لتتوقف مرة اخرى بعد ثلاثة اعداد.
صحافة الحزب الشيوعي العراقي
1 - كفاح الشعب
يحدد الشيوعيون 30/7/1935 يوماً لصدور العدد الاول من الجريدة الاولى الناطقة باسم الحزب الشيوعي العراقي (كفاح الشعب).
صدر العدد الاول خلال فترة وزارة ياسين الهاشمي وبعيد انهيار انتفاضة الفرات الاوسط.
اعلنت "كفاح الشعب" منذ عددها الاول انها صادرة عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي مما شكل نقطة تحول فاصلة في العمل الحزبي.
صدرت الصحيفة بصورة سرية من أقبية مستشفى السكك الحديد في منطقة الكرخ في بغداد بجهود لافته من "عاصم فليح" سكرتير اول لجنة مركزية للحزب.
ومنذ العدد الاول من الصحيفة تصدر شعار "يا عمال العالم اتحدوا" صفحتها الاولى.... الهدف الاول للصحيفة يتلخص في نشر اهداف الحزب والتعريف به والتركيز على كيفية تطوير حركة العمال ونشر الوعي الطبقي بينهم، والدعوة الى تنظيم جهود هذه الطبقة الاجتماعية.
بلغ عدد التوزيع الخاص بـ"كفاح الشعب" آنذاك الـ(500) نسخة، وما ان بدأت جهود الصحيفة تؤتي ثمارها مما شكل خطراً حقيقياًُ على حكومة ياسين الهاشمي، حتى بادر هذا الاخير الى شن هجمة شرسة ومؤثرة على الصحيفة وتنظيمات الحزب مما ادى الى توقف الجريدة عن الصدور في كانون الاول عام 1935 .
2- الشرارة
أثرت هجمة الهاشمي على التنظيم الشيوعي، لكن الشيوعيين العراقيين سرعان ما استطاعوا ان يعودوا وينظموا انفسهم على شكل مجاميع برزت منها على وجه خاص مجموعتا غالي زويد في البصرة وعبدالله مسعود في بغداد... والاخير من البصرة اصلاً لكنه وبسبب دراسته الجامعية في العاصمة نشط في بغداد واستطاع ان يعيد تنظيم مجموعة حزبية كان قد كونها زكي خيري.
وما ان احست مجموعة مسعود بامتلاكها مقومات اصدار مطبوع حزبي حتى بادرت الى اصدار "الشرارة" كصحيفة حزبية رسمية ناطقة باسم الحزب الشيوعي العراقي في كانون الاول عام 1940 في بغداد.
اثارت هذه الخطوة حفيظة الرفيق الخالد "فهد"، الذي كان خارج العاصمة حينها، مما دفعه الى سرعة العودة الى بغداد وانتقاد القرار مطالباً بتسليمه الصحيفة وهذا ما حدث.
افتقر الحزب أيام (الشرارة) لاية مكائن طباعية.. لذا عمل الحزب لطباعة صحيفته المركزية مستخدما آلة "ستنسل" حكومية وتكفل بهذه المهمة الخطرة "عبدالكريم عبدالجبار الصفار" المشرف على قسم الطباعين في الادارة العامة لسجل الاراضي.
استمر الحال على هذه الصورة حتى العام 1942 والذي تسنى خلاله للحزب شراء آلة "ستنسل" خاصة به.
خلال شهره الاول لم تطبع الشرارة اكثر من (90) نسخة، لكن الرقم تجاوز الـ(2000) خلال العام 1942 مما شكل ظاهرة مهمة ايامها، عملت "الشرارة" ومنذ عددها الاول على فضح الاستغلال الوحشي الذي يتعرض له العمال في تلك الحقبة وتبنت نشر مذكرات وعرائض المتضررين على صفحاتها.
وعند المقارنة بين "كفاح الشعب" و"الشرارة" يجمع الباحثون على ان "كفاح الشعب" تميزت بشبابية اكثر، وبأجواء حماسية، متصلبة، وثورية وعلى النقيض من ذلك جاءت "الشرارة" بعيدة عن الآراء الثورية المستندة للعواطف لتعبر عن آرائها باتزان ورصانة.
3 - القاعدة:
صدر بشكل سري في كانون الثاني 1943، اثر استيلاء مجموعة من المنشقين على مطبعة "الشرارة" استمرت (القاعدة على نفس خطى سابقتها "الشرارة" لتركز، في مواضيعها، على دعوة وتحريض العمال للضغط على الحكومة من اجل اصدار قانون يجيز العمل النقابي اضافة الى عملها الحثيث من اجل تعرية المواقف الحكومية من مطالب الطبقة العاملة.
استمرت القاعدة بالصدور سرياً حتى منتصف عام 1956 والذي شهد ولادة "اتحاد الشعب".
وقبل الخوض في الحديث عن الاخيرة، يجدر بنا ان نذكر ان الشيوعيين العراقيين استطاعوا خلال الاربعينيات اصدار صحيفتين علنيتين الاولى كانت "العصبة" باسم "عصبة مكافحة الصهيونية في العراق" عام 1946 ترأس تحريرها "محمد حسين ابو العيس" وقد الغت اجازتها وزارة "أرشد العمري" وذلك ضمن سعي هذه الوزارة في مطاردة صحف الاحزاب السياسية.
وفي آذار 1948 أصدر القائد الشيوعي "شريف الشيخ" جريدة "الأساس" اليومية، لكن الصحيفة تعرضت للتعطيل بعد وقت قليل من صدورها.
4 - اتحاد الشعب
قلنا ان "القاعدة" توقفت منتصف عام 1956 لتترك المجال لظهور جريدة الحزب المركزية والتي نستطيع وصفها بأنها الاكثر شهرة. صدرت "اتحاد الشعب" وكالعادة بشكل سري في بداية الامر، لتواصل نهج صحف الحزب السابقة نفسه... واستمر الحال هكذا حتى بعد قيام ثورة 1958، وتحديداً في يوم 25 كانون الثاني 1959 لتصدر الجريدة المركزية للحزب وللمرة الاولى علنية.
كان صاحب امتياز "اتحاد الشعب" (العلنية) عبدالقادر اسماعيل البستاني. تميز الاصدار العلني بالتميز عن باقي المطبوعات.. فقد كانت الصحيفة تختلف عن الصحف الاخرى بالشكل والمضمون والاسلوب.
كان حجم "اتحاد الشعب" لافتاً، فهو اصغر من الحجم المعتاد واكبر من النصف ويقال ان ذلك يعود الى نوع مكائن الطباعة في مطابع الرابطة التي تطبع الصحيفة.
استمر هذا الحال حتى وصول مطابع جديدة من المانيا الشرقية لتصدر بالحجم المعتاد والطباعة "الروتايف".
تميزت "اتحاد الشعب" في تلك المرحلة بشعبيتها الكاسحة، لدرجة ان رقم المطبوع منها كان يتجاوز الـ(28000) نسخة يومياً، وعلى عدة طبعات، وهذا الرقم قياسي في تاريخ الصحافة العراقية حتى اليوم فيما لو أخذنا نسبة عدد السكان لعدد المطبوع.
تميزت مطابع "اتحاد الشعب" المستوردة من المانيا الشرقية بأنها الاحدث في العراق حينها حيث كانت هذه المطابع تستطيع ان تطبع 40 الف نسخة وبأربع الوان خلال ساعة واحدة، يذكر ان المطبعة الجديدة نصبت في منطقة الشيخ عمر الصناعية.
لم يكن احد ليشك في نفوذ "اتحاد الشعب" الكبير بسبب المد الجماهيري الواسع حتى ليروي بعض الدارسين ان وزيراً فشل في تغيير بعض فقرات مقال افتتاحي للصحيفة مما اثار حفيظة الكثير.
استمرت "اتحاد الشعب" بالصدور العلني محافظة على نهجها الوطني والحرص على مصالح الشعب والكادحين حتى تم إغلاقها في آب عام 1961 .
5 - طريق الشعب
في اواخر عام 1961 عاود الحزب مرة اخرى اصدار صحيفته المركزية وبصورة سرية وباسم "طريق الشعب" والتي استمرت تصدر بهذه الطريقة وبسبب مواقف الحكومة والسلطات المتعاقبة حتى يوم 16 ايلول 1973 والذي ارخ صدور العدد العلني الاول منها في بغداد... واظبت "طريق الشعب" على ذات النهج الوطني، واستقطب العديد من الاسماء اللامعة في سماء الصحافة العراقية حتى نيسان 1979 حينما تعرض الحزب الى الهجمة البعثية الثانية مما ادى الى توقفها وصدورها فيما بعد بصورة سرية وبظروف بالغة الصعوبة اشرت مدى عظمة الاصرار الذي تمتع به الشيوعيون على م?ى تاريخهم الطويل.
صدرت "طريق الشعب" في كردستان بعد اعلان الحزب للكفاح المسلح ضد نظام الدكتاتورية بداية الثمانينيات وعملت على تعرية وفضح النظام الصدّامي والذي شكلت له الصحيفة كابوساً حاول بشتى الطرق الوحشية التصدي له، لكنه فشل.
واثر انتفاضة اذار المجيدة 1991 وتحرير اقليم كردستان من سلطة الصدّاميين عاودت الجريدة الصدور علنا في اربيل والتوزيع سراً في باقي مناطق العراق بجهود منظمات الحزب.
ومنذ اللحظات الاولى لسقوط الدكتاتورية في 9/4/2003 سجلت "طريق الشعب" نفسها الجريدة الاولى التي توزع في بغداد، ولا يمكن نسيان المشاعر الجياشة التي استقبل بها البغداديون جريدتهم العتيدة.
صحافة الحزب الصادرة باللغة الكردية
شكلت الحقوق العادلة للكردستانيين هدفاً غاية من السمو ضمن اهداف الحزب الشيوعي العراقي، وانطلاقاً من هذا الاهتمام شجعت قيادة الحزب الفرع الكردي للحزب باصدار صحيفته الخاصة ئازادي الحرية في نيسان 1945.... صدرت "ئازادي" بصورة سرية الى ما بعد ثورة 14 تموز لتبصر بصورة رسمية وعلنية في الاول من ايار عام 1959 لتتواصل حتى اغلاقها عام 1960 .
ومع التنقل بين العمل السري والعلني كان للصحافة الكردية الشيوعية اهتمام خاص لدى الحزب وتتابع الاصدارات مروراً بـ(يژ نوي) وانتهاءً بـ(ربكاي كوردستان).