فضاءات

ذهب فايق .. / زهير الجزائري

قبل ان أضع خطوتي على سلم الطائرة المتجهة الى بغداد قال لي كاظم بالتلفون (ذهب فائق)٠ تعثرت . أنا ذاهب الى بلد لا اخبار فيه غير الموت. مع ذلك صعدت الدرجة حيث لا مجال للعودة.٠٠٠الغيوم تكلل سماء بيروت بعد العاصفة والبحر يسحب أمواجه فيصدق الصخور ناشرا الزبد الأبيض. يفعل ذلك منذ بدء الخليقة . انظر من النافذة ، لكن من داخلي تأتيني صورة أخرى ، صورة فائق منكبا على اوراقه . أرى الشعر الشائب بلون الورق ، وليس بلون الكلمات. قال لي سأكتب آخر كتبي لو أمهلني الزمن . أمهله الزمن ولم يمهله الألم .أمن المعقول إني لن أراه ثانية. ذاكرتي تعاند الخبر على قولة المتنبي (فزعت فيه بانبائي الى الكذب) . أعاند الموت فاستحضر الصورة من السحاب الرصاصي وأجيبها الي ، الى الوضوح فيأتيني الوجه المشدود بدقة وأناقة وذاك الشعر الشائب والإصرار العصبي لرجل يقاوم الالم لينجز كتابه الأخير.
تأتيني حياتي حين استحضر فائق في ذاكرتي. اردت ان اتعلَّم طيبته ففشلت لأني استدعيها في حين تخرج الطيبة منه مثل النفس. اردت ان اتعلَّم الكتابة مثله كوظيفة يومية .. يلبس بنطلونه والقميص ويذهب لطاولة الكتابة مثل موظف يحترم حرفته. اردت تقليده ففشلت حين غلبني مزاجي. قرابة خمسين عاما من الرفقة ترسب فايق في داخلي: هو أول رجل ابشره حين أمط ذراعي : انهيت الكتاب، وربما كنت الثاني بعد سعاد حين بشرني: انتهت الموسوعة!
ذهب فايق! أقولها وانا ازيح صورة الأيام الأخيرة و أشدد على صورته وهو يكتب: كم من الأجيال القادمة ستعرف وهي تفتح الجريدة مع قهوة الصباح ستعرف ان وراء هذه الوريقات تاريخ من تعب وسجون وعناد، وفايق واحد ممن صنعوا هذا التاريخ ودونوه . ضعوا على قبره وردا صنع من ورق الجرائد ، فقد أحب ابو رافد هذا الورق وهو يبتل بالحبر، رويدا رويدا... سيتوقف دوي المكائن قليلا حتى يهز فايق راْسه فتدوي ثانية وتصدر الطبعة الأولى.