فضاءات

شاكر محمود.. رواية نضالية مُلهِمة../ جاسم المطير

عرفته ، أول مرة، في بداية خمسينات القرن العشرين، متميزاً بموهبةٍ خاصة ، موهبة الحس الإنساني العميق والإتجاه الانساني الواسع. لا يخشى أي حدث مهما كان ألمه شديداً. وجدته غامضاً جداً إلاّ تحت الضياء، صامتاً جداً إلاّ بمصاحبة فعلٍ متحرك. يتعامل مع نفسه ومع الآخرين بمستوى إنساني واحد. سألتُ نفسي عنه: هل هو شيوعي من نوع جديد..؟
بعد سلسلة من اللقاءات معه وبعد سلسلة من الاجتماعات الحزبية الخلوية السرّية سألته:
- هل أنت شاعر يا شاكر..؟
أجاب باستغراب:
• كلا
ثم سألني:
• لماذا صنفتني من نوع الشعراء..؟
قلتُ له ببساطة ثقافتي في ذلك الحين:
• كلما نظرتُ إليك أراك كمن يؤلف قصيدة رائعة.. إنك كائن شاعري يا رفيقي.
ابتسم في تلك اللحظة معتزاً بكلماتي المختارة . ظل كلامي مكسواً بالحب في أعماقه. خلال سنوات عمره كانت تتوالد عنده قصائد من نوع خاص، من نوع النضال الانساني، في سبيل وطن خاص ومجتمع خاص وشعب خاص، بشروط التقدم والحرية والديمقراطية. يستحق من أجل ذلك وساماً مرموقاً في الغيرة الوطنية .
هكذا وجدَ شاكر محمود البصري نفسه مرتبطاً على نحوٍ لا ينفصم عن نضال الحزب الشيوعي العراقي، تحت راية (وطن حر وشعب سعيد) .سرعان ما امتدّت جذور ثقافته نحو نموذج التضحية والفداء من أجل مبادئه وأهدافه.
لم ينتمِ، وهو في عمر السابعة عشرة إلى الحزب الشيوعي، مضطراً تحت جبر العاطفة الوطنية المتوقّدة في مدارس ذلك الزمان ، بل نتيجة وعيٍ عالٍ بحب الوطن لا يتناسب مع عمره. كان يعتقد أن آلام الناس الفقراء وعذابهم لا ينتهيان إلاّ بنضالٍ طويلٍ وربما طويلٍ جداً. يخفي تحت شجاعتهِ وصمتهِ الكثير من أنواع التضحيات وحالات العيش القلق والفقر، وتفاصيل كثيرة يمارسها زمان هيمنة البوليس والقمع.
في وقت مبكر ظهرتْ عنده وفي أعماق افكاره رغبة حقيقية بالناحية النضالية، التعليمية والثقافية. عرف منذ البداية أن النضال ليس مهنة ولا عملا سحرياً أو رومانسياً، بل هو علم التغيير، تغيير الناس والمجتمع، فصار مهتماً بالقراءة والتفتيش عن الأفكار والمدارس في مناهج الكتب السياسية والروايات ودواوين الشعر، التي تقع بين يديه لمواصلة القراءة من دون انقطاع .
انحدر شاكر محمود من عائلة كادحة، تتكون منه ومن شقيقته سميرة محمود ووالدته، وأبيه، الذي رحل سريعاً عن الحياة تاركاً يتيماً ويتيمة بحضن أرملة من بسطاء الناس.. يعيشون في بيت بسيط وصغير، ليس فيه سوى غرفتين صغيرتين بمنطقة المشراق. بالقرب من هذه العائلة تعيش عائلة طيبة، الأم فيها هي شقيقة أم شاكر والأب رجل دين وإمام جامع.. أما الأولاد فكانوا يتبعون بحريتهم طريق أبن خالتهم شاكر. كانوا يرون فيه وفي سلوكه اليومي في المدرسة وفي المحلة، أنه يملك طبعاً طيباً هو مساعدة الفقراء وأنه فتى محب لصنع الخير. كان فاضلاً في سلوكه ،مرهف الحس، يتمتع بذكاء فطري يثير الدهشة في المواقف المضطربة وفي المواقف العادية . كان وسيماً بخد اسمرٍ ، بخصلة شعر سوداء كثيفة طبعت وجهه بالجمال الموصوف من قبل بعض معارفه بأنه جمال الوجه السينمائي. تخرج الكلمة من فمه بإتزانٍ تامٍ، يحسن الإصغاء إلى الآخرين من أهله ومن أصدقائه، يعرف قيمة كل واحد منهم. كان قريباً من حب الطبيعة إذ كانت علاقته مع الشجرة الصغيرة الموجودة في بيته الصغير تعادل عنده حبه العارم للنخيل وتمره. كان طويل القامة إلى حد وسطي. له عينان غريبتا النوع ،حيث يجد الناظر إليهما أنهما عينا تأملٍ في اشعاع الحياة . سمعتُ من أم شاكر أن ابنها يحب القراءة أكثر من حبه للأكل والشرب. الفتيات يعجبن به وبصورته وبطريقة كلامه الهادئة.
أم شاكر مناضلة وفيّة لليتيمين جعلتهما عامرين بالأخلاق الطيبة ، ذكيين بالمدرسة والقراءة اليومية المتواصلة، قادرين على الإلتصاق، منذ فتوتهما، بحزب الفقراء، قبل أن تصبح الأم نفسها على بساطتها حامية للإجتماعات الحزبية، الجارية في بيتها، ومراسلة بين المناضلين الحزبيين وناقلة للمنشورات من وإلى البيوت الحزبية ،بالرغم من أن وطأة واقع الحال السياسي ،في تلك الأيام ،كانت صعبة الاحتمال لا تطاق.
هذه الأم لم تتفاجأ بمسار ابنتها سميرة على نفس خطى شقيقها، الذي كانت تنظر إليه كرمزٍ نادرٍ للصورة الإنسانية، الحية والواعية . سعيدة جداً هي الأم حين أخبرتها سميرة بالانتماء الى الحزب الشيوعي، أيضاً، بعد وقتٍ من انتماء شقيقها إليه وهي ما تزال طالبة في دار المعلمين الابتدائية. كان بإمكان أي انسان رؤية النظرة المبهورة في عيني أمهما .
في عام 1956 انهزمت السلطة العراقية الحاكمة أمام مظاهرات الطلبة والشباب حين نزلوا إلى شوارع العاصمة بغداد وشوارع المدن العراقية وفي شوارع البصرة ومدارسها ، يرددون هتافات بتأييد حقوق الجمهورية المصرية في تأميم شركة قناة السويس يوم 26 – 7 – 1956 . كان شاكر محمود ظاهرة خصبة في مظاهرات طلاب البصرة مشاركين طلاب العاصمة بغداد وغيرها من المدن العراقية. اتبع أول طريقة نضالية جماهيرية برز فيها هتّافاً في مقدمة الطلاب المضربين والمتظاهرين.. كما أثبت أنه منظم حزبي أصيل.
علمنا ،في تلك الأيام، عن تشكيل جبهة وطنية طلابية في بغداد ضمت الحزب الشيوعي يمثلهم (ثابت حبيب العاني) والحزب الديمقراطي الكردستاني يمثلهم (حبيب محمد كريم) وحزب البعث يمثلهم ( حازم جواد) وحزب المؤتمر الوطني يمثلهم ( رسمي العامل). سعت اللجنة المحلية للحزب الشيوعي في البصرة إلى تشكيل (جبهة طلابية في البصرة) مماثلة لبغداد، لكن الأحزاب الأخرى لم تستجب لهذا الطلب، بينما ابلغني ممثل حزب البعث في البصرة ( مهدي آصف) الذي تربطني به علاقة زمالة عمل مشتركة في جريدة (الناس) البصرية بأنه ينتظر تعليمات حزبه في بغداد.
كان عام 1956 عاماً مليئاً بالأحداث السياسية المختلفة، التي أثّرت على حركة طلبة المدارس والمعاهد في مدينة البصرة.. اصبحت عواطف الشباب المناضلين متوترة ومتحفزة في النضال ضد حكومة نوري السعيد ،انذاك، وهي تناصر الاستعماريين، الذين وقفوا ضد حرية الشعب الجزائري المطالب بالحرية والاستقلال. كانت مجموعة من الفتيات المناضلات ( ناطقة المبارك، عايدة ياسين ، ماجدة سالم ، سميرة محمود ، ماجدة الشهباز) وغيرهن قد ساهمن بغعالية في جمع التواقيع على مذكرة جماهيرية تم تقديمها إلى السكرتير العام للامم المتحدة تستنكر عدوان فرنسا على الجزائر وضد اعتقال خمسة من قادة الثورة الجزائرية . كانت تلك الحملة – كما أظن - أوسع نشاط سياسي – جماهيري في تاريخ مدينة البصرة ، تزامناً بوقوف جماهير البصرة بمظاهرات مع الشعب المصري في نضاله من اجل سيطرته الوطنية على قناة السويس. كان شاكر محمود أحد المشاركين والمنظمين لمظاهرة الطلبة ضد العدوان الثلاثي على مصر يوم 29 – 11 – 1956. ربما أميل إلى القول، الآن ،انها كانت اوسع مظاهرة طلابية – عمالية في البصرة طيلة زمان العهد الملكي.. كان شاكر محمود خلالها مبتدئا بالعمل الجماهيري لكنه ظهر نشيطاً كبيراً .
في مظاهرات الطلبة والعمال وابناء الشعب في نهاية العام 1956 كان شاكر محمود قد حقق خطوات واسعة في التنظيم الحزبي والعمل الجماهيري على أثرها اعتقل حال مشاركته بمظاهرات الطلاب المستنكرين للعدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي – الاسرائيلي على مصر . أول صيحة مجد وشجاعة، خرجت من صلابة شاكر، كانت في سجن البصرة المركزي حين كان موقوفاً في أحد قواويشه مع الطالب في المدرسة المتوسطة (ذياب فهد الطائي) وآخرين حين فرضت ادارة السجن عليهم أن يعملوا في (قسم النجارة) بالسجن وقد وافق رفاقه جميعاً على العمل بالنجارة لقتل حالة الفراغ الممل والتخلص من حالة السأم ،لكن الوحيد – كما اخبرني ذياب فهد – هو شاكر محمود ظل رافضاً للعمل مؤكداً أنه سياسي. كان يصرخ بوجوه السجّانة أن السجين السياسي لا يخضع للعمل في السجن، مما جعل السجّانين يغيرون على جسده بالضرب والرفس والركل، لكنه ظل رافضاً الانصياع لإدارة السجن .
ما كادت الحكومة تعلن الاحكام العرفية لمقاومة المظاهرات حتى انطلقت عدة مظاهرات في العشار والمعقل والبصرة شارك فيها الطلاب والعمال والكسبة وغيرهم. اتذكر أن ذلك اليوم كان يوماً مليئاً بالغبار حين انطلق المتظاهرون رافعين اللافتات الحمراء والبيضاء ..كان يوماً بطولياً ملحمياً بعد تعيين الزعيم الركن أحمد صالح العبدي قائداً عاماً للاحكام العرفية في البصرة . حضر بنفسه الى مبنى المتصرفية حيث تجمّع المتظاهرون . مدينة البصرة سجّلت مهارة نادرة بخروج ثلاث مظاهرات عمالية - طلابية وضعت الاحكام العرفية في متحف الفاشية العراقية، خاصة وأن أساليبها واجهت المظاهرات بشناعة النار والرصاص والمعتقلات .
كان شاكر موقوفاً مع رفاقه وجماعته في مركز شرطة البصرة بينما كنتُ موقوفاً في مركز شرطة العشار مع هشام باقر البعاج. علمنا من خلال الصحف الداخلة إلى الموقف أن السلطات في بغداد اصدرت أوامر إلقاء القبض على بعض القادة الوطنيين أمثال (كامل الجادرجي وحسين جميل وفائق السامرائي ومحمد صديق شنشل وغيرهم) رغم أن بيان الحكومة الرسمي اتّهم الشيوعيين بالتحريضعلى انتفاضة الشعب واعتقل المئات منهم في مختلف أنحاء العراق، خاصة بعد انتفاضة أهالي مدينة الحي في كانون الأول من عام 1956 حين اصدر المجلس العرفي العسكري خكماً بالاعدام شنقاً حتى الموت على كل من المناضل الشيوعي (علي الشيخ حمود) ورفيقه (عطا مهدي الدباس) , والحكم بالإعدام غيابياً على المناضل الشهيد (عبد الرضا الحاج هويش)..
التقيت مع شاكر محمود في قفص المحاكمة أمام المجلس العرفي العسكري، الذي ترجم وجوده الفوري باصدار الاحكام على الطلاب المناضلين كان منهم شاكر محمود وهشام باقر البعاج لمدة سنة واحدة مع سنة مراقبة بعد انهاء المحكومية. كما نلتُ حصتي من الحكم بالسجن سنة واحدة مع وقف التنفيذ لقاء كفالة نقدية بعد انكار الشخص المعترف عليّ بأنني عضو قيادي في اللجنة المحلية مسئول اللجنة الطلابية الحزبية و انه أجبر على اعترافه نتيجة التعذيب الجسدي القاسي كان نتيجتها أنه نال حكماً بسنة واحدة .
أثبتت الجلسة العرفية الوحيدة التي طالت أكثر من 12 ساعة للمرافعة بقضايا أكثر من 50 شيوعياً متهماً بقيادة المظاهرات أنها مشهد معبر عن قلق السلطة الحاكمة.. يا للصوت الجميل المنطلق من قفص المحاكمة بحنجرة الطالب المتهم شاكر محمود وهو يهتف: (تسقط الاحكام العرفية الفاشية ) و (يسقط العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة) .
في يوم نُقل فيه شاكر إلى سجن بعقوبة قال لأمه:
• لا تقلقي يا أمي سيكون جاسم المطير ابنك خلال فترة نزهتي السنوية في سجن بعقوبة حيث اتنفس هواء برتقالها.
حين سألته ام شاكر:
• من هو جاسم المطير..؟
أشار بيده قائلاً:
• ذاك هو.. اعتبريه ابنك منذ الآن لأنه موضع ثقتي وحماستي وسروري.
كان شاكر يعرف قصة حبي لشقيقته سميرة ،التي سرعان ما انتهت خلال وجوده في السجن بالرسو على رصيف الزوجية ، مما أزال سريعاً الضيق من صدر أم شاكر وأزال العتمة من عينيها.
في يوم إنهائه فترة محكوميته - بعد سنة كاملة قضاها في سجن بعقوبة - نُقل إلى مدينة الديوانية لقضاء سنة واحدة تحت رقابة الشرطة حيث قمتُ بزيارته، أكثر من مرة، محتجزاً ببيت واحد مع الرفيق (مجيد بكتاش) اللذين طلبا مني نقل خطتهما ، إلى قيادة الحزب، في الهروب من المراقبة والالتحاق بصفوف الحزب. ابلغني الحزب بالموافقة على الخطة الموضوعة بالتعاون مع اللجنة المحلية – الديوانية وموافقة اللجنة الحزبية في مدينة النجف. فشلتْ الخطة الأولى في حزيران عام 1958 لأسباب قاهرة وتقرر أن تكون المحاولة الثانية في أواخر شهر تموز من عام 1958 لكن حدوث ثورة 14 تموز سبق تنفيذ الخطة الجديدة.
عاد شاكر محمود بعد الثورة إلى مدينته ليلتحق بصفوف الحزب عضواً في خلية عمالية رئيسية لكنه سرعان ما تقدم إلى عضوية اللجنة الطلابية في مدينة العشار ، التي ظل فيها فترة قصيرة ثم نال عضوية اللجنة الطلابية الحزبية في بداية عام 1959 ثم اصبح عضوا في اللجنة المحلية عام 1961 . اعتقل في نهاية عام 1962 حيث قضى فترة في سجن البصرة المركزي ونقل منه إلى موقف مركز شرطة الزبير حيث كان (عريف المركز) عضواً في الحزب الشيوعي و(ضابط المركز) صديقاً قريباً من الحزب . بعد فترة قصيرة من قيام انقلاب شباط الاسود في 8 شباط 1963 رتّب الضابط والعريف أمر نقل الموقوف شاكر محمود إلى نقرة السلمان بدعوى (العائدية) ضماناً لسلامته من الوقوع بأيدي الجلادين من عناصر الحرس القومي في البصرة. نجحت الخطة بالفعل وصار محتجزا بنقرة السلمان البعيدة عن انظار الحرس القومي.
في اثناء وجوده بالنقرة كان منشغلاً بقضيته الكبرى، قضية تحرير نفسه وادخال البهجة في قلوب رفاقه الشيوعيين عن طريق تدبير وتنفيذ خطة لهروبه من السجن... صار كثير الكلام عن (الهروب) واضعاً ، كل يوم ، خطة جديدة بذهنه عارضاً إياها على الرفيقين (عبد الوهاب طاهر) و(سامي أحمد) القياديين في منظمة السجن. كان واضحاً جداً أن الهروب من سجن نقرة السلمان شيء قريب من المستحيل. هذا يعني أن أمام منظمة الحزب داخل السجن مهمة اكتشاف طريقة مناسبة ، فريدة وخارقة، لتنفيذ عملية الهروب، بمعنى أن يتحول اعضاء المنظمة وشاكر محمود الى فنانين روائيين بخيالٍ واسعٍ لاختيار خطة تتجاوز عيون النظام البوليسي المنتشرة في كل مكان.
تمّ اختراع رواية جادة عن مرض سجناء تقرر أن يتم هروبهم ..كان (شاكر محمود) يعاني فعلاً منذ زمان بعيد من إلتهاب قرحتين، معدية ومعوية، كما تمّ، بخيالٍ أوسع ، اختلاق مرض السجين النشيط ، الضابط الطيار في القوة الجوية العراقية (خالد حبيب) القادر على ايجاد كل الوسائل الممتعة والذكية في ساعات النضال الحرجة . ثم كان الثالث (عباس كاشف الغطاء) مصاباً فعلا بمرض مزمن. ذهب المرضى الثلاثة إلى مستشفى الديوانية بكتاب رسمي من قبل مدير سجن نقرة السلمان لإجراء الفحوص الطبية اللازمة والحصول على ادوية العلاج. كان الذاهبون الى المستشفى واثقين أن عجلة الحظ ستدور لصالحهم بما يؤمن تحررهم من قضبان احتجازهم والالتحاق بصفوف حزبهم، الذي ينبغي له أن يلملم جراحاته بعد كارثة القمع والقتل في 8 شباط الاسود.
كان كل واحد من هؤلاء لا يعرف على وجه الدقة حقيقة الفرص المتاحة امام امكانيات دوران عجلة الحظ لهروبهم، لكن كل واحد منهم يملك قدرة القائد ويقظته وحريته في استغلال الظروف من دون الوقوع في حالة الاستغراق بحلم الحرية. دارت عجلة الحظ بلحظةٍ معينة أمام شاكر وعباس حين اضطر حارساهما الشرطيين الجائعين من فتح قيود شاكر وعباس اثناء تقديم فترة الغداء المغرية بخلاف عجلة الحظ الخاصة بخالد حبيب إذ كان في تلك اللحظة يغتسل بالحمّام . قفز شاكر وعباس جدار المستشفى منطلقين إلى ميدان حرية العمل داخل صفوف حزبهما . من تلك اللحظة أخذ كل واحد منهما طريقاً عشوائياً للخلاص من البوليس المستنفر، من لحظة هروبهما، للقبض عليهما بأي ثمن .
وجد شاكر محمود نفسه في مرعى من مراعي إغنام بمواجهة شاب ثلاثيني مسئول كما يبدو لرعاية 30 رأسا من الغنم. كان المشهد صعباً للغاية ،مصحوباً بشيء من القلق والتردد خصوصاً وأنه كان يرتدي دشداشة، لكنه حافي القدمين في أرض مليئة بالاشواك فتدفق منهما بعض الدم.
قال شاكر مبتسماً:
• السلام عليك أيها الأخ..
• عليك السلام ايها الاخ يبدو أنك واقع في مشكلة.. هل أنت هارب من الشرطة..؟
شعر شاكر محمود بحسٍ قويٍ أنه أزاء (ورطة) غير متوقعة. ظنّ أن ذكاءه وبصيرته يمكن بهما أن يتفوّق على راعي أغنام لا بد أنه غبي كما يشاع بين الناس في العادة.
• نعم يا أخي أنا هارب من الانضباط العسكري.. أنا جندي متخلف عن الوحدة العسكرية ..أرجو منك حمايتي .. أنت إنساط طيب بلا شك..
نظر الراعي بتدقيق وجه شاكر محمود قائلاً:
• روايتك أيها الأخ رديئة لا اقتنع بها.. قل الحقيقة وأنا أساعدك.. ليس في وجهك أي علامة من علامات الجندية، بل فيه علامات الشيوعية.. أنت شيوعي هارب من الشرطة.. أليس كذلك..؟
فضولية الراعي أثارت دهشة شاكر.. استطاع بسرعة أن يستنتج أن ليس لدى الراعي أي رغبة شريرة ولا أفكار سيئة.. ربما يملك هذا الراعي قدرة على إنقاذه فقد وجد في عينيه شعاع الطمأنينة وهو يصغي اليه قائلاً:
• قبل ساعة من الآن كانت سيارات الشرطة مهووسة في هذه المنطقة تبحث عن شيوعيين هاربين.. لك الأمان بعهدتي.. قل الصدق كي لا تدوخني ولا أدوخك.. أنا انقذك إنْ عرفت الصدق منك ..
حكّ شاكر حاجبه وحدّق بوجه هذا الراعي المرتدي سترة سوداء حاملاً عصا يهش بها غنمه . شعوره الفوري جعله يجد بوجه الراعي نوعاً من ألقٍ صادقٍ وهذا أبهجه في الحال.
• نعم ايها الاخ أنا هارب من الشرطة وأنتظر منك العون لضمان السلامة.
• قل لي هل انت شيوعي..؟
• نعم.. أنا شيوعي .
عانقه الراعي قائلاً:
• ستكون قبل مغيب الشمس وبعدها بمكان آمن .. سأوصلك غداً صباحاً إلى أي مكان ترغب فيه.. أبن عمي سجين شيوعي أيضاً.. أنت مثله.. أبشرك ستكون بأمان.
راح الراعي يشعل في دماغه كل مصابيح الذكاء كي يتغلب على جميع الخطط البوليسية الموضوعة لإلقاء القبض على هذا الشاب الهارب، الذي إنحاز إليه وإلى قضيته منذ اللحظة الاولى. اما شاكر فقد كان يحاول إخفاء كل شيء عن حياته وعن خطوة هروبه. كما أخفى عنه سبب قراره بالتوجه نحو بغداد. قضى ليلته مؤرقاً في بيت الراعي على فراش بسيط، في كوخ بسيط. حرص جميع من في البيت على العناية به واخفائه .هنا وضحت مزايا عائلة الراعي وطيبتها وانتهى به التفكير إلى منح ثقته كاملة بذكاء الراعي البسيط. جميع ابناء العائلة ورجالها من ابناء الصمت لم يسألوا شاكر أي سؤال.
عزم الراعي على المضي فجر اليوم التالي بعد أن استيقظ نشيطاً، حيوياً، نحو التحرك بلا سيّارة ولا قطار وبلا اغنام نحو الجهة المؤدية إلى الحلة بعد أن استرجع مع أخوته طريقاً ريفياً أميناً، متحاشياً كل احتمال في مرور دوريات الشرطة عليه. كان شاكر مفتوناً بظرافة الراعي وبذكائه أيضاً، متمتعاً بفضوله ومعلوماته وخططه، القائمة على المشي الصعب المعقد في طرق ريفيه ممتدة، لكن فيها أصدقاء وأقارب يضمنون سلامة الضيف. ثبت أن هذا الراعي اعجوبة مدهشة تجلّت بمناسبات كثيرة إلى حين الوصول خلال يومين أو ثلاثة إلى الحلة.
أخذه في اللحظة الأخيرة بين يديه معانقاً ،مودعاً وهو يشيربيده اليمنى:
• هذا هو طريق بغداد يمكنك أن تصل إليها بالقطار أوالسيارة طالما لديك هوية مضبوطة باسم رجل آخر.. أنا بخدمتك إذا تريد أوصلك إلى بغداد فأنا حاضر.
ما أن حلّ المساء حتى وضع شاكر محمود جسده المتعب على مصطبة في حديقة الأمة ببغداد خلف نصب الحرية، يفكر بسخاء الراعي من جهة وكيفية الوصول إلى الحزب من جهة اخرى. كان من حظه ومصاعبه ومصيبته أنه لم يبصر فانوس أي مقر من مقرات الحزب إلاّ بعد أيام ثقيلة ، بعد سلسلة من البحث والاتصالات.
ها هو شاكر محمود يحمل اكليل النصر على الطريق الصعب ،على طريق الحزب فبدا ذلك اليوم بجسم مستقيم وبقامة طويلة وبصدر بارز وهو يتجه الى بيت حزبي في بغداد بعد أن كانت أخبار الاذاعة والتلفزيون والصحف تطلق اخبارها وتحذيراتها عن هروب الشيوعي الخطير شاكر محمود البصري.
أول رد فعل لعملية الهروب لدى أمن البصرة هو مداهمة دار والدتي بالبصرة – محلة الخليلية – التي كان فيها يعيش مختفياً الرفيق رشيد جعفر النجار – ابو وثاب – مع زوجته المناضلة وابنهما الطفل وثاب وهم من أهالي الشامية . تدربت هذه العائلة الحزبية الكريمة على العيش اليقظ في البيوت الحزبية بالبصرة منذ عام 1959 حتى عام 1964 حيث انتقلت للعيش مع والدتي في غرفة خاصة ببيتها بعد انقلاب شباط 1963 . كانت مصادفة رائعة أن هذه العائلة قد خرجت الى التسوق قبل المداهمة بنصف ساعة.
حلّ دوري في السرور والفرح حين علمتُ بسلامته، مقتنعاً أن فضائل عادات ووعي شاكر محمود سيحقق انتصاراً مصنوعاً صنعاً جيداً عارفاً بقيمة حريته وحماسته للعمل من جديد مع المنظمات الحزبية في ظرف سياسي مضطرب .
ازداد سروري وفرحي حين التقيته أول مرة ذات يوم بعد هروبي من سجن الحلة المركزي. ثم ازداد اكثر حين أخبرني أن عائلة زوجته تريد التعرف إلي موجهة دعوة عشاء قرر عليّ أن ألبيها . ذهبنا معاً أنا وهو وسميرة إلى دار المحامي أحمد سلمان الراوي بهدف اللقاء بعائلة كريمة صارت منا واصبحنا منها . وجدتُ (إلهام الراوي) ذروة في الحيوية والحركة والنشاط والجمال .كانت تتابع بدأب وانتظام ما يتحدث به الحاضرون، المحامي نافع سعيد وعزيز الشيخ وعامر عبد الله والدكتورقاسم أحمد العباس، عن صفات وأخلاق المناضل شاكر محمود .كانت العائلة بأروع وأحلى الاخلاق الملحمية حين قال رب العائلة بوضوح عن يوم خطوبة أبنته:
• أبنتي إلهام لا تريد مالاً من شاكر ..لا تريد بيتاً مملوكاً ولا تريد سيارة كما هي مطالب العروس في العادة.. تريد أخلاقاً نقية صافية.. تريد حياة مشتركة خالصة ..تريد كينونة زواج حقيقية ووجوداً لعائلة جديدة فيها أولاد وأحفاد.
كانت الفتاة الجميلة إلهام الراوي مغتبطة ، ساحرة في مظهرها وكلامها وفي احترام جميع الحاضرين . كان جميع أفراد العائلة يتبادلون نظرات مرحة.. علتْ أرواحهم بإلتماع الشخصية الشيوعية في بيتهم . كانت الفتاة إكرام (مقيمة حالياً في السويد) قد توردتْ من البهجة لزواج أختها من الشيوعي البصراوي شاكر محمود. أم الجميع (أم حامد) مسرورة بتحقيق أعز أمنية بحياتها.. الأبن البكر للعائلة (حامد) مرفوع الرأس بنسابة شيوعي.. الطفلة الجميلة السمراء (اتحاد) وجدتها تحمل ذكاءً خارقاً وحباً كبيراً للمرح فخورة بزواج أختها من شاب أسمر جميل. الأبن الاسمر (قصي) يزهر بأجمل بسماته بهذا الزواج. أما (سلام الراوي) اصغر الأبناء (مقيم حالياً في امريكا) فقد أحس بنوع من الفخر. بعد حينٍ قصير انتمى لهذه العائلة الطيبة كل من أماني شاكر محمود ( مقيمة حاليا في فرنسا) وهي فنانة موسيقى أوبرالية . ثم محمود شاكر محمود ( مقيم في فرنسا) مهندساً مدنياً. كانت أمهما قد نسبت نفسها إلى العمل اليومي الحثيث بعد هجرتها عام 1981 الى فرنسا حيث بذلت اقصى جهد في تربية اليتيمين وجعلهما ناجحين مزودين بالعلم والمعرفة. بذلت ألواناً فذة من الجهد والعطف والحنان عليهما بعد أن حرمتهما الفاشية العراقية من جهد وعطف وحنان الابوة .
أكثر الناس سروراً، تلك الليلة، كانت سميرة محمود البصري، إذ عقدت ذراعيها حول عنق شقيقها تعبيراً عن اسمى آيات الفرح الأخوي .
كان شاكر يسكن مؤقتاً في بيت عائلة زوجته بالحارثية وسرعان ما شعر أن البيت مراقب وأن تحركاته مراقبة أيضاً. إنْ لم يكن رأيه صحيحاً ، في تلك الأيام ، كما قال لعمه المحامي أحمد سلمان الراوي فأن هذا الاحتمال موجود طالما تم اغتيال عضو اللجنة المركزية ستار خضير في 27 – 6 – 1969 من قبل الاجهزة الأمنية وهو شيوعي غير معروف وغير مكشوف وبعده بثلاثة شهور تم اختطاف الشيوعي عبد الامير سعيد عضو لجنة منطقة بغداد وقتله . كذلك اختطاف الشيوعي القيادي محمد الخضري وقتله ثم اختطاف واعتقال عشرات الشيوعيين الآخرين في البصرة والعمارة والكوت والحلة وغيرها.
لذلك قرّر بعد ولادة ابنته (أماني) بناءً على موافقة قيادة الحزب أن نعيش، معاً، بصورة مشتركة في بيت جديد واسع المساحة في شارع فلسطين .. أنا وسميرة وشاكر وإلهام وأماني في بيت سرّي واحد. صار يتردد عليه كثير من رفاق شاكر في تنظيمات بغداد الحزبية . رغم براعتنا في العمل السرّي والتحرك السرّي لكننا بعد ثلاثة شهور أو اربعة اضطررنا ذات ليلة أن نتخلى بلحظات عن هذا البيت بعد أن ادركنا أن البيت الملاصق لبيتنا من الخلف يضم كادراً من كوادر حزب البعث ومندفعا بحماسة لمراقبتنا وربما إبلاغ البوليس عنا وعن المترددين علينا فأسرعنا بمغادرة البيت قبل منتصف الليل . في اليوم التالي عرفنا أن مداهمة البيت تمّت في الخامسة صباحاً وقد بذل المفتشون قصارى جهدهم للعثور على شيء من أوراق أو وثائق نافعة لهم، لكنهم لم يعثروا على شيء فأخذوا كثيراً من الملابس الجديدة وأغراض المطبخ ولم يتورعوا من تكسير بعض الأثاث.
هكذا هو الزمان لا يستقر على حال طالما الظالمون موجودون، سواء كانوا من حزب البعث أو غيرهم. بدا غدر الزمان يأخذ منحى آخر لإلحاق الأذى بنا .
صارت عجلة الأمور لا تدور كما يرام فقد هجم السرطان الخبيث على جسد المناضلة سميرة . كما اضطر شقيقها إلى تنفيذ أمر الحزب بالسفر إلى موسكو للدراسة الحزبية ومهمات أخرى. كان السرطان يغدر بجسد سميرة بسرعة دون ان تنفع لوقفه عمليتان جراحيتان أجراهما الدكتور الشيوعي رافع أديب بابان في مستشفى فيضي، ثم قررت الارادة الطبية ان تسافر سميرة إلى براغ بنصح من الدكتور رافد وآخرين وبموافقة من شاكر الموجود في موسكو ومن هشام البعاج، الذي كان يكمل دراسته العليا في جيكوسلوفاكيا.. اضطرت والدتي إلى بيع بيتها وقطعة الارض بمبلغ بخس أقل بكثير من قيمتها الحقيقية لتأمين مبلغ السفر والعلاج. سافرت سميرة فعلاً مزودة بألفي دولار للعلاج لكنها توفيت هناك بعد شهر من وصولها لتعود إلينا جثة في تابوت لم أكن قادراً على استلامه بمطار بغداد بسبب استمرار المطاردة البوليسية إذ لم يكن العفو قد صدر عن الهاربين من سجن الحلة. ذهبتْ الرفيقة (زكية خليفة) مع آخرين الى المطار لجلب الجثمان إلى باب بيتي حيث هيأت سيارة لنقله إلى البصرة لدفن سميرة في مقبرة الحسن البصري بمدينة الزبير. وجدتٌ لها مكاناً أبدياً مناسباً قريباً من قبر عمتي (صالحة) وقريباً من قبر بدر شاكر السياب.
لم يتوقف غدر الزمان وقهره. بعد عودة شاكر من موسكو كان البعث قد خطط لمرحلة اغتيال الشيوعيين منهم ستار خضير ومحمد الخضري. استعاد شاكر قدرته على النشاط في بغداد بعد ان إلتمع حماسه في أن يكون نشيطاً، خاصة وأنه حاز على صديق صغيرٍ انجبته زوجته له سمياه بأسم جده (محمود).
رغب ذات يوم بالذهاب منطلقاً من دار أهل زوجته (إلهام) بالحارثية متوجهاً مع طفلته الصغيرة (أماني) لزيارة مريض في مستشفى اليرموك. مدّ قدميه لعبور الشارع العام أمام المستشفى لتجتاز جسده ضربة دهس سيارة فوكس واكن سريعة أصابته بمقتل وكان حظ الطفلة (أماني) أنها اصيبت بجرح بسيط .
جاءني حامد الراوي شقيق إلهام مرتبكاً ليخبرني بالفاجعة وأن أباه بانتظاري للذهاب معا إلى المستشفى. كان والده ( المحامي احمد سلمان الراوي) في غاية القلق وهو إلى جانبي بسيارتي، التي اسرعتُ بها للوصول إلى مستشفى اليرموك. كانت الضربة القاتلة قد أصابت عظم جمجة شاكر بكسور ومقتل. أخبرنا الطبيب ان كسراً خطيراً في الجمجمة جعلها تنزف دماً لا يمكن إيقافه. من تلك اللحظة يوم 6 – 11 – 1972 عرفنا أن الشيوعي العراقي شاكر محمود البصري راحل لا محالة وأن مكتباً في عضوية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي سيتوقف عن العمل وسيظل القرطاس بدون كتابة وستتوقف إشعاعات نشاطات شاكر محمود عن البث والحركة.
سألتُ الرجل المحمر الوجه:
• ماذا عسانا ان نفعل يا أبا حامد لإنقاذ حياته..؟
أجابني الرجل بينما الدمع يتحرك في عينيه:
• لا شيء نستطيع سوى تقليب الأمور ومتابعتها لنعرف المجرم القاتل.
ثم أضاف:
• لقد قرأت وفهمت طيلة حياتي في الوظيفة التحقيقية بمراكز الشرطة أن ألغاز هذا النوع من القتل لن يكون بدون تخطيط من جهاز حكومي.
كان الرجل قد قضى من حياته 20 عاماً في مهنة التحقيق الجنائي حاملاً رتبة مفوض في مراكز الشرطة البغدادية قبل أن يصبح محامياً يدافع عن المتهمين . كان مفوض شرطة متميزاً بالذكاء الخارق لمتابعة أنواع جرائم القتل المباشر وغير المباشر، باستطاعته أثناء التحقيق أن يستنبط فصول الجريمة من صمت المتهم أو من بعض أقواله. كان يخترع أساليب متعددة للعثور على المجرم في حالة غيابه التام ، كما هو الحال في جريمة اغتيال شاكر محمود. كان معجباً بنفسه وبقدراته التحقيقية وهو يتحدث معي بكل ثقته بنفسه:
• صدقني يا جاسم .. سوف اكشف المجرم قاتل شاكر محمود و من يقف وراءه ..
في اليوم الثاني قمنا بزيارة شاكر بمرقده في المستشفى مرتين، الأولى صباحاً والثانية مساءً فكان بحالة غيبوبة تامة .استمر الحال حتى ابلغنا فجر يوم 12 – 11 – 1972 برحيله الأبدي.
يا لفاجعة (أم شاكر) انطفأت عيناها قبل عام بوفاة ابنتها (سميرة) وها هي تنطفأ مرة ثانية برحيل ابنها (شاكر) ولم يبقَ لها في هذه الدنيا لا إبن ولا إبنة.
استوقفتُ سيارة تاكسي حديثة النوع واسعة الحجم لاستئجارها لنقل الجثمان إلى البصرة. ذهبت معي زوجته ( إلهام) وأمها. تحطّم في داخلي كل نابض، بينما كان الحزن قد وجد طريقه الى وجهيْ الزوجة وأمها. وصلنا البصرة ثم ذهبت مع جثمان شاكر إلى جامع في المشراق حيث صلى عليه المصلون بإمامة زوج خالته وبحضور خاله وكثير من أقاربه وأبناء محلته. بعد انتهاء هذه المراسيم نقلتُ الجثمان إلى مقبرة الحسن البصري ومعي بعض اقاربه وأخترت قبره إلى جانب سميرة. لم اشارك في مجلس الفاتحة خشية اعتقالي من الأمن . بقيت في غرفة بالطابق الاعلى في بيت ابن خالته حافظ عبد القادر. ثم عدنا ثلاثتنا الى بغداد بنفس السيارة المستأجرة .
خلال اليومين السابقين قبل عودتي الى بغداد قام أبو حامد بإولى خطواته التحقيقية حول اغتيال شاكر محمود. ذهبتُ معه إلى مكان الحادث عدة مرات مستجوباً بصورة ذكية غير مباشرة مجموعة من الأشخاص الذين شاهدوا الحادث أو كانوا قريبين منه معتمداً على خبرته التحقيقية الطويلة حين كان مفوضاً في سلك الشرطة. لم يترك أحداً من دون سؤال عن الحادث لا حارس كراج المستشفى وأبنه وإحدى الممرضات التي جرى الحادث على بعد متر أو مترين منها حين كانت تعبر نفس شارع الحادث .كذلك تحدّث، أكثر من مرة ،مع بائع البلبي وبائع سندوتش ومع شاب كان يعمل امام المستشفى كمنظف زجاج السيارات ومع صاحب الدكان الوحيد في المنطقة مقابل مكان الحادث وغيرهم .
أخبرني المحقق أبو حامد أنه توصل الى ما يلي:
• كان الحادث مصنوعاً ومنفذاً من قبل شخصين.
• جرى التنفيذ بواسطة سيارة فوكس واكَن من نوع (ركَةَ) لونها اسود.
• كانت السيارة قد اضطرت إلى تجاوز الجزرة الوسطية بعد الحادث والعودة باتجاه قصر النهاية.
• حصل على معلومات أن السيارة كانت قبل اسبوع من الحادث تتجول في شارع الكندي بالحارثية مما يعني أن بيت (إلهام) وحركة (شاكر محمود) تحت الرقابة .
• حصل على رقم سيارة الجريمة من الشهود الذين اجمعوا انه كان بأربعة أرقام (2869 ) . حين ذهب الى شرطة المرور بمعاونة احد ضباط الشرطة من اصدقائه لم يجدوا أي قيد لها، بل حصل على معلومات تفيد أن ناظم كزار كان قد استورد 3 سيارات فوكس واكَن (ركَة) سوداء اللون، وضع لها أرقاماً خاصة : استنتج المحقق أحمد سلمان الراوي أن الجريمة ارتكبت باحداها.
ظل هذا الرجل الوفي لصهره يعتبر نفسه كاشفاً لحقيقة أن مغارة المجرمين من جماعة ناظم كزار في قصر النهاية هي التي وضعت (خطة الشر) لاغتيال شاكر محمود ليس فقط لإثارة الرعب في صفوف الشيوعيين في تلك الفترة المليئة بحقد ناظم كزار وغدره والدعوة المثلجة الى الجبهة الوطنية، بل كان هدف السلطة الرئيسي إرسال رسالة إلى الحزب الشيوعي عن قدرة الأجهزة الأمنية لاغتيال الكوادر الشيوعية غير المكشوفة الى جانب المكشوفة بعد ان جاءت عملية قتل شاكر محمود ليس خاتمة سلسلة من أعمال الأغتيال والعنف ضد الشيوعيين العراقيين المتواصلة منذ زمان تشكيله الأول عام 1934 بمختلف الوسائل، بل هو إنذار جديد بأن الحكام الفاشيين لا يؤتمنون على عهد أو كلام ..!
غدرُ الزمان ما زال متواصلا..
زرتُ عائلة شاكر الصغيرة المتكونة من إلهام وأماني ومحمود مرة واحدة في مدينة ليون الفرنسية عام 1981 وسمعتُ صوت زوجته إلهام مرة واحدة عام 2012 . وظل زمان الظالمين جائراً حتى الآن .
ــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 10 – 3 - 2016