ادب وفن

المرتكزات التي شكلت البدايات الأولية لقصيدة النثر / قيس مجيد المولى

كان الشعرُ ومذ الاصطلاح عليه شعراً، ولو بدرجاتٍ متفاوتة يعي أعماقَ اللاوعي ويقدمُ تداخلاته عبرَ الأصواتِ التي تمنَحُه قدراته التجريدية وكان إستغراقُه في المكونات الكونية طرفاً أساسياً في منحه تلك الخصائص الصوتية واللونية، كما أن استغلاله لموجودات الطبيعة المهمة والضرورية وما تم خلقه من الأساطير والخرافات وما أُصطلحَ عليه أيضا بمفهوم الرمز قد دعم التوجه البدائي الفطري نحو الفلسفة،
أي نحو فلسفة الشعر والإفادة من الصراع الأزلي الذي يعانيه الإنسان ما بين الإنسان كوجود خارجي، وبين الكون من جهة ومن جهة أخرى بين وجوده الباطني وتحديه لذاته، فالشعر في أي من الاتجاهات يقدمُ رؤيةً تنظيريةً ما ويقدم المُتعةَ الشعريةَ التي تتم من خلال الحركة المزدوجة ما بين الانفتاح على العوالم الكونية وبين الرضوخ لها، وهذا بدوره قد أدى الى تحولٍ ما في الأسلوبية وفي المضمون تنوعت ما بين الكتابة الغامضة أو الغموض الساخر وما بين الاستخدام المباشر للأفكار المجردة، وقد تناوب الشعراءُ على استخدامات المؤثرات الشعرية من خفض المستويات العاطفية الى الإيجاز القصير المرافق للقوة الإيحائية ، ولاشك أن الشعر في بعض مراحله ونتيجة لتأثره ببعض الإشكالات الاقتصادية والسياسية والدينية قد أكتسى بالزخرفة والتعجيل وبعضه نحو التوجه الغنائي وبعض البلاغيات التي رافقتها الفجاجة هنا أو هناك، وربما مهد ذلك كنقيض لما كان يُكتب أو الى ثورة ما على المفاهيم السائدة والى الجنوح نحو التنافر المبهم والذي يزخر هذا التنافر بالحركات الأثيرية والصور المقطعة والتراكيب المضادة والبعد اللامرئي، وقد تكون تلك اللوازم قد شكلت فيما بعد البدايات الأولية لقصيدة النثر كون تلك اللوازم قد إحتوت على البعض من خصائص هذه القصيدة.
وكأساس فلقد خَلَقَ النثرُ الشعريُ قاعدةً جديدة للخلاص من القصيدة الكلاسيكية ومهدَ لعملية الإنتقال لقصيدة النثر والتي لها قضاياها وظواهرها الفنية والمعنوية ومنطقها المبعثر الذي شكل في رؤيا بودلير شكلا لما بعد الكتابة.
إن هذا الخلاص من القصيدة الكلاسيكية يعني تحرير الإنسان من القواعد والأعراف الأدبية ومحاولة إخراجه من داخل حدوده المألوفة وخلق المساحات اللازمة لاستقبال توتره لتحريك المناطق الأعمق في الروح، ولاشك أن المفاهيم التنظيرية للشعر علاوة على تلك التي ذكرناها قد مست مجمل قضايا الشعر كتلك التي تتعلق بمفهوم الحواس والخيال والتخيل وتجانس نظريتي ورد زورث وكولردج عن هذين المفهومين ،إضافة لنظريات كانت وشلر وشلنج وسولجر فيما يتعلق بالعلاقة بين الذات والموضوع والاستجابة للاشعور.
وقد طُرحت أنذاك أي في الفترة التي سبقت قصيدة النثر طرحت مواصفات ما يجب توفرها في الشاعر ومنها الحساسية والعاطفة والإرادة والخيال والتخيل إضافة لبعض المتطلبات الفلسفية أي قدرة الشاعر على التعامل مع المفاهيم الكونية الجديدة.
أوجز كولردج تعريفه للشاعر ضمن التعاريف العديدة والمختلفة باختلاف الرؤية للغرض فقد رأى:"أن الشاعر يعمل بشكل لاشعوري ، وأن الشاعر من يجيد فن اللغة التفصيلية التجسيدية والشعر غايته ووظيفته اللذة"، وبذلك فأنه أي كولردج ميزه عن العلم والأخلاق باعتبار أن اللذة وسيلة خاصة كونها المقياس الحقيقي لاعتماد الجمال من دونه وليس عرضا حسيا للحقيقة كما يعرفه هيجل.
من ذلك نستنتج أن قصيدة النثر قد نهضت من ثقلين من ثقل القيود والأعراف، ومن ثقل المفاهيم التي لم يكتب لها أن تأخذ حيزها المطلوب في وضع النظرية المناسبة للشعر. لقد كان التمهيدُ بقدر ما واضحاً لرواد قصيدة النثر فيما كان يُطرح من أفكار لإيجاد المكانة المنفردة في الشكل الجديد ضمن تطور الأساليب وما وصل إليه سعي ما لأرميه في تراكيبه اللغوية التي فتحت بابا جديدا بعد الخمسين عاما أي بعد الفترة من 1800 للفترة 1850 ضمن الأزمات العنيفة التي عصفت فيما بعد بالبشرية بعد ظهور المفاهيم الاستعمارية والحروب والتدهور الاجتماعي والاقتصادي، ورغم ذلك فقد هيأ كل ذلك وجودا فاعلا لاكتمال التركيبة النثرية فيما تريد تحقيقه من مفاهيمها التنظيرية ولذلك نعتقد بأنه يمكن الاكتفاء بالفصل الأول من كتاب سوزان برنار "قصيدة النثر من بودلير ليومنا هذا" والذي صدر بباريس عام 1958، يمكن الاكتفاء بهذا الفصل لدراسة المرتكزات الأولية لتحرير النظام الشعري منذ نهاية القرن السابع عشر وبالتحديد تحرير اللغة ومفاهيم التجديد الشعري ما قبل ظهور الرومانتيكية.
تشير برنار اشارة في غاية الأهمية الى أن النثر الشعري وقصيدة النثر مجالان أدبيان متمايزان ومتماسان وفيهما نفس الرغبة للتحرر والرغبة للجوء الى طاقات جديدة في اللغة، ولكون النثر الشعري قد تقدم زمنيا على قصيدة النثر فهذه الإشارة بحد ذاتها تؤشر الى أن قصيدة النثر لم تأت من فعل أعجازي أي أنها لم تولد بدون مؤثرات على صعيد الشكل أولا وعلى صعيد المضمون ثانيا رغم ذلك التمايز الذي بينهما، إذ سبقتها أي قصيدة النثر سبقتها تجارب مختلفة وأنماط شعرية ربما مهدت لقصيدة النثر في أن تكون مقبولة لدى المتلقي ضمن المفاهيم التي طرحتها برنار عن مفهوم قصيدة النثر في إصدارها كخصائص أساسية حيث أجملتها بــ "الاختصار الإيجاز كثافة التأثير- الوحدة العضوية" وتلك الأساسيات كما ذكرتها هي التي تعطي للشكل الجديد مفاهيمه الجديدة.
هذا المفهوم الجديد ضمن مصطلحه تم التعرف عليه عربيا عندما نشر أدونيس مقالا له تحت مسمى برنار "قصيدة النثر" نشره في مجلة "شعر" البيروتية عام 1960 أي بعد عامين من صدور كتاب برنار الذي ذكرناه وبالتالي فأن وجهة نظر أدونيس والتي سنأتي عليها لاحقا تشير الى أن أدونيس قد قرأ إصدار برنار قراءة وافية وأختار الأشياء التي تنسجم مع الوجهة التنظيرية التي يؤمن بها بقضايا التجديد الشعري ومفهوم المطلق ومفاهيم الإنسان ومفاهيم ميتافيزقيا اللغة والتنظيم الموسيقي والرمز.
في مقال أدونيس والذي أعتبر لاحقا بالوجه التنظيري لقصيدة النثر العربية فقد أقرَ أدونيس بمصطلح قصيدة النثر أي بالصيغة التي أشارت اليها برنار وأيضا وضَحَ أدونيس الرؤية المقاربة للتمايزات الأساسية بين النثر الشعري وقصيدة النثر، إذ رأى أدونيس أن النثر الشعري يفتقر الى الشعور المنظم وهذا الشعور أيضا يفتقر الى قاعدة فنية ووصف أدونيس النثر الشعري بأنه شعرا وصفيا روائيا أي أنه يقوم تحت مؤثرات ما تتصل بالأخلاق أو المناجأة أو السرد الإنفعالي.. وقد شكل ذلك مرتكزات خطابه الشعري وتنظيراته عن الكشف الشعري والرؤية الشعرية ومفاهيم الهدم والبناء والإيجاز وغيرها من المفاهيم النقدية الجديدة.
المهم في كل ذلك أن أدونيس طرق أولا على مفهوم اللاعضوية للنثر الشعري أي أنه وباعتقاده أن النثر الشعري مجرد مادة سائبة لا خاصية ترابطية علاقية بينهما. وثانيا وبالمقابل بنى أدونيس لمفهوم قصيدة النثر بخاصية تفاعلها الكياني الذاتي وربط ذلك بفكرة اللازمنية أي أن ليس لها بعدا زمنيا محددا ضمن مضمونها الكياني البنيوي كما رأى في خاصيتها الثالثة أن قصيدة النثر والتي أستخلصنا تسميتها من شروحاته بأنها قصيدة "الكثافة الموجزة أو الكثافة المختصرة" بعد أن دعا الى عدم اغراق القصيدة الجديدة "بالإطالة والشروحات والإيضاحات".
وهنا نجد أن هناك بعض الحرفيات التي تطابقت ما بين مفاهيم برنارد وما دعا اليه أدونيس وبالوقت نفسه تتطابق وفيما بعد ما طرحه أدونيس مع ماسيتم طرحه من قبل زملائه في مجلة شعر كأنسي الحاج مثلا عن قصيدة النثر.
لاشك أن أدونيس قدم رؤيا ما لقصيدة النثر ليست بالرؤيا المنفصلة كليا عن ما قدمته برنار وليست بالملتصقة بها كليا وأيضا ليست بالرؤيا التي بين بين بل كانت لها خصوصيتها في البعض من مساراتها لكنها بالتأكيد كانت تحت مؤثرات الخيوط العامة من مفاهيم برنار ولكن الأهم منها كان تحت تأثير الفاعلية النفسية التي كان عليها أدونيس في التعامل وقبول مفاهيم التجديد ، وكذلك المفهوم البنائي في الشكلين وهما الأكثر أهمية في التنظير لقصيدة النثر.