مدارات

تحديات النهوض بالقطاعات والنشاطات الانتاجية */ رائد فهمي

لم يبخل الاقتصاديون وخبراء واختصاصيو التنمية والادارة الاقتصادية والمالية في تقديم الرأي والمشورة محذرين من مخاطر تكرس واشتداد الطبيعة الاحادية للاقتصاد العراقي، والاعتماد المتنامي على قطاع النفط وايرادات تصدير النفط الخام بحيث باتت تشكل قرابة ستين بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي وأكثر من تسعين بالمائة في المتوسط من ايرادات الموازنة العامة، إذ أن انخفاض نسبتها في موازنة عام 2015 إلى 83 بالمائة يعكس الانخفاض في اسعار النفط وليس لحدوث تغييرات بنيوية في مصادر تمويلها. واقترن هذا الميل التصاعدي في هيمنة الريع النفطي على الاقتصاد العراقي بالانحسار النسبي والمطلق لمساهمة القطاعات الاقتصادية الأخرى ، ولا سيما الانتاجية كقطاعات الصناعة والزراعة والخدمات الانتاجية المرتبطة لصالح اتساع دور ومكانة النشاطات الخدمية التجارية وفي المجالات العقارية والمالية.
ووجدت هذه الاتجاهات في مسار حركة وتطور الاقتصاد العراقي تعبيراتها في طغيان الطابع الاستهلاكي للاقتصاد العراقي الذي شجع عليه بناء الموازنات الحكومية القائم على العجز المخطط الناجم عن تفوق تخمينات النفقات العامة الاجمالية على الايرادات، والضمور المتواصل في الانتاج الوطني للسلع والمنتجات الصناعية والزراعية. ولذلك ليس من الغريب ان نشهد ارتفاعا مستمرا في حجم وقيمة الاستيرادات، والذي للآسف لا تتوافر ارقام دقيقة بشأنه وإنما يزيد على 25 مليار دولار ، ويصل بحسب بعض التقديرات إلى ما يقارب 40 مليار دولار، ويغلب على بنية الاستيرادات السلع والخدمات الاستهلاكية.
إن هذه البنية التوزيعية والاستهلاكية للاقتصاد العراقي قد اصبحت أمام مأزق كبير مع انحسار الايرادات النفطية نتيجة الهبوط الحاد في اسعاره. فما كشفته "الضائقة" المالية الحالية، انه لم يعد بالامكان توفير الموارد اللازمة لاستمرار الوضع الحالي للاقتصاد العراقي، وما لم تتم الاصلاحات الضرورية الكفيلة بمعالجة وتقويم بنيته المشوهة الحالية والاختلالات الملازمة لها، فإن تمويل الموازنة العامة، بنمط بنائها الحالي، وشبه غياب للمنتج المحلي، سيستلزم بالضرورة زيادة الاقتراض ، على الصعيدين الداخلي والخارجي، وبالتالي ارتفاع اعباء المديونية وتقلص الاموال المتاحة لتغطية النفقات الجارية، وفي مقدمتها تعويضات العاملين، ناهيك عن الموازنة الاستثمارية.
في ضوء ما تقدم وما تفرضه الاعباء الجديدة للمواجهة مع الارهاب وتداعيات سيطرة عصابات داعش على مساحات واسعة من البلاد والدمار والنزوح المليوني الذي تسببت فيه، لا بد من توافر ارادة سياسية حازمة وموحدة من أجل تحقيق الاصلاح الاقتصادي والاداري والتشريعي الذي من شانه وضع الاقتصاد الوطني على سكة التطور التنموي السليم. ويعد توافر هذه الارادة السياسية شرطا ضروريا، وليس كافيا، لاستنهاض الاقتصاد العراقي. فتحقيق النتائج المرجوة يتطلب اتخاذ الاجراءات التنفيذية لوضع حزمة القوانين التي تم تشريعها لصالح حماية المنتج المحلي موضع التنفيذ، كقانوني التعرفة الكمركية وحماية المنتج المحلي، وايجاد الحلول السليمة لمشاكل الشركات المملوكة للدولة. فنسبة غير قليلة من هذه الشركات لديها منتجات تحمل مواصفات عالية، ولكنها غير قادرة على المنافسة بسبب ارتفاع تكاليف الانتاج، وفي مقدمتها الطاقة الكهربائية ورواتب العاملين الذين تضخمت اعدادهم بسبب تحميل هذه الشركات القائمة على التمويل الذاتي الأعباء المالية لرفع الحيف عن المفصولين السياسيين، وهو ما يستدعي تحويل هذه الألتزامات المالية إلى صندوق خاص أو مؤسسة تعنى بصرف رواتبهم واعادة تأهيلهم بتمويل مركزي. فهذا من شانه تخفيف التكاليف ويوفر ظروفا افضل لتحقيق الاصلاحات الادارية والمالية في هذه الشركات.
ومن أهم مشاكل هذه الشركات هي تصريف منتجاتها، وفي هذا السياق تبرز اهمية الارادة السياسية في أن تقوم وزارات الدولة ومؤسساتها بشراء هذه المنتجات، وينطبق ذلك بصورة خاصة على وزارة الدفاع فيما يتعلق الأمر بشراء منتجات شركات العامة للصناعات النسيجية والجلدية وبعض الشركات التي تقوم بصناعة بعض التجهيزات العسكرية كالخوذ العسكرية وغيرها. وقد يتطلب ذلك اصدار قرارات باستثناء هذه التجهيزات من شروط التعاقدات الحكومية لما فيه من مصلحة عامة.
ويمكن للحكومة والوزارات واللجان والهيئات الحكومية والبرلمانية المعنية بتوفير احتياجات المهجرين والنازحين، ان توجه جزءا مهما من التخصيصات المرصدة لشراء الخيم والكرفانات واحتياجات الغذاء والملبس من المنتجات الوطنية، سواء من الشركات العامة او من المنتجات الزراعية العراقية. فذلك سيولد دورة مالية تحصر الانفاق المالي داخل الاقتصاد الوطني وتخدم هدفين: تنشيط الشركات المملوكة للدولة وتصريف منتجاتها وتشغيل العاملين فيها ومعالجة ازمة السيولة لديها، والهدف الآخر خفض الاحتياج إلى العملة الصعبة وإلى الأستيراد ما يساعد في مواجهة القيود المفروضة على الموازنة العامة وما يخفف الضغط ايضا على البنك المركزي فيما يتعلق الأمر بتلبية الطلب على الدولار.
ولا يتسع المجال للتطرق إلى الاصلاحات الأخرى المطلوب الشروع جديا بتنفيذها في مجال توفير شروط وأجواء أفضل لعمل القطاع الخاص، في مجال تقليص الروتين الاداري الخانق والكابح للاستثمار، ومكافحة بؤر الفساد، وتيسير الائتمان المصرفي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
*المقال نشر في جريدة «الصباح» في 14 آذار 2015